إبراهيم النجمي
* منذ قرون خلت كانت الثقافة العربية تلوح في الأفق وكان أن قدّر لها أن تضرب في الأرض مقاومة كلّ ما من شأنه أن يقف عائقا دون تحقيق أهدافها المرجوّة والمتمثلة في الانتصار إلي لغة الناس التي اقتضتها وتقتضيها بالضرورة أن تنفذ من الألسن إلي اللغة وبلسان مبين ومستبين يحقق ذاتها ويحفظ كيانها ويطرحها بمثابة تعالميّة (1) تعمل علي توحيد الناس في أطر من فضاءات موائمة لا مخاصمة وهو ما تحقّق وتأكّد لها فعليّا مذ أطلّ فجر الإسلام في القرن السّابع الميلادي والذي تولّي نقلها مباشرة من مرحلة الأمل إلي تحقيق المبتغي ومن الجديد إلي المتجدّد ومن الخلق إلي التأكيد ، وكذلك من التطوّر إلي النّمو ، وهكذا ومن واقع ما توفّر لها من ظروف موضوعية لم تشأ سوي المثابرة علي أن تكون ثقافة من المجتمع والي المجتمع بحيث تكون أدبياتها حقّا طبيعيّا ومشاعا للجميع ، كما لا تكون ترفا ماديا أو استمتاعا جماليا بل واقع حي ومعاش قائم علي التعايش قبل العيش ، المسألة التي من شأنها ضبط أو وضع حدّ طبيعي لما تدعوه مدارس علم النّفس بتنوّع أو اختلاف أنماط السّلوك .
مسئولية وملقاة علي عاتقها بحكم فطرتها وتكوينها كثقافة رؤيا وليست رؤية (2) ، ولذلك وحده نراها تتخطّي دائرة التعبير إلي منفسح الفعل فتكوّن أدبياتها كيانا جماعيّا ومن لغتها التي لا يذهب المرء إلي تعلمها بل إلي كتابتها ، وذلك من منطلق أن الجهل جهل المعرفة وليس جهل القراءة أو الكتابة . إننا لا نفتح إليها بابا من دون أن تفتح لنا ألف باب تفضي إلي عالم من آيات بيّنات مبدية أيّ أثر عظيم للحكمة الظاهرة وليست الخفيّة للإنسان والتي تتطلبه التأكيد علي صفة التفضيل التي أخصّه الله بها دون غيره من المخلوقات . ثقافة أخطأ الكثيرون تقديرها وحسبوها تخصّ العرب لوحدهم فظلوا يقارنونها ويقارعونها بثقافات مرحليّة تسجيليّة أقرب إلي التأريخ منها إلي التاريخ وترى إلي الثقافة لا كمشروع تنموي بل كمشروع تراثي مواكب (3) الأمر الذي هدّد الإنسان عبر كل العصور وعمل علي إخضاعه لمنطق الأنواع (4) . إن الثقافة العربية لو قدّر للباحثين والدّارسين معرفتها علي نحو ما هي عليه وبمعزل عن مناهج البحث التقليدية لما توانوا لحظة واحدة في إزالة أو حرق كل ما علق بها من ثقافات النصب التذكارية ونبات العلّيق ولتوجهوا مباشرة إلي البحث عن مناهج من صميمها تكشف للأجيال اللاحقة مدى التغرير والاستغفال الذي حاق بسابقيهم حين أوهموهم بما أوهموهم من نظم تقليدية وما تبعها من أدبيات زائفة زعموا أنها عربيّة وهي ليست كذلك . فمن قال أن ثقافة العرب صالحة لنظرية البعد الواحد ، وأن أدبياتها تنتصر للفرد علي حساب الجماعة أو تقبل بالبطل وفكرة البطل ، أوان ديمغرافيتها أو فضاءها علي نحو ما ارتآه الغزاة والمتذ يّلون لهم ؟ مسائل لا علاقة لها من قريب أو بعيد بها ، وقد صدّرت إليها في ظروف استغفال مريعة فإنما ذلك راجع لعدة أسباب يقع علي رأسها الآتي : أولا / لأنها لم تشهد في تاريخها بأسره نظاما إداريا أو سياسيا تقليديّا علي نحو ما شهد ته جاراتها من حولها. ثانيا / لأنها حظيت باستقرار العرب الخلّص فيها والذين مافتئوا يقاومون كل ما هو منافي لطبيعتهم وأصول ثقافتهم وبالذات بعد مجيء الإسلام . ثالثا / لأنها كانت وظلت علي مدي كل العصور عربيّة افريقيّة وقبل أن تكون ليبيّة وحسب وذلك ما يشهد لها به تاريخ شمال إفريقيا المؤكّد علي اللحمة الواحدة ووحدة المصير الواحد، وفوق ذلك كله لعبت جغرافيتها وطبيعتها دورا كبيرا في استقرارها كونها منطقة وسط وعبور ليس بمستطاع الغزاة استيطانها إضافة إلي أن أهلها غير قابلين للإدماج (5).
ومن مجمل المنطلقات سالفة الذكر نراها مؤهلة وبامتياز إلي وحدة الأمة وثقافة الأمة ما يحتّم عليها أن تسعي سعيا حثيثا للتأكيد علي الدور المنوط بها كصاحبة رسالة حضارية كفيلة بدفعها إلي أكثر المواقع تعقلا واتزانا ولا نحسب من المغالاة في شيء أن نقول بأنها المنطقة الوحيدة التي لا تزال وباعتراف الكثير من البحّاث والدارسين محافظة علي طبيعة وأصول وخصائص الثقافة العربية ، إذ ما كان لها أن تتأثر بعوالق ثقافات الاستعداء كما هو الحال لدي بعض من أقطار المنطقة العربية التي أنستها تلك الثقافات ثقافتها فألبستها ثوبا غير ثوبها وبدّلتها شكلا غير شكلها بل ووجدت ومن بني جلدتها من يتتلمذ عليها ويدافع عنها ويوظفها في كامل مناحي حياة العرب . إن المرء لا يألو جهدا في التدليل علي ما تقدّم ذكره من خلال أدبيات الثقافة العربيّة في ليبيا والتي ما تزال تحتفظ للعرب بأصول وجذور ثقافتهم العربية الأصيلة ، ولنأخذ علي سبيل المثال لا الحصر جانبا من أهم الجوانب إثارة في هذه الثقافة ألا وهو المغنى ، والذي درجت الناس علي تعريفه أو معرفته بالكلمة اموقّعة أو المغنّاة ، والمغنى في ليبيا ذو خصائص مميّزة تجعله يختلف اختلافا قاطعا وكليا عمّا ألفناه من مغنى أو مغان في أقطار وبلدان الوطن العربي ، وذلك من منطلق أنه ليس مغنى قطر بل أمّة ، ولا يولي اهتمامه للفرد قدر اهتمامه بالجماعة ، كما أنه لا يعبّر بل يؤكد ، ومن المتلقّي والي المتلقّي ، و من ذات الثقافة ولغة الثقافة التي عرضنا إليها بما تضمّنته وتتضمنه من خصائص مميّزة ، ولذلك فإننا لا نجده موضوعا خارجيا بل داخليا ، كما أن شكله لا ينفصل عن موضوعه ، وقائم وفي الوقت ذاته علي موازنة طبيعية بين العمر العقلي والعمر الزمني ما يلتقي به ومن خلاله الكبير والصغير علي السواء ، وهو أكبر من أن نصفه بالموروث ذلك أنه ذو وحدة زمنية واحدة غير قابلة للتجزئة والناتجة عن ذات الثقافة التي أتي بها كتاب الله المبين والمستبين من خلال لغة قدّر لها أن تذهب عبر كل مراحل التاريخ بألسن مدعوّة خطأ لغات لتكتمل بإعلان صدور البيان الأول لها وباللسان الذي غير ذي عوج ، والذي هو القرآن الكريم . إننا نذهب مع هذا المغنى دون أن يذهب بنا عن الطريق الذي عبره الأجداد من عمق الجزيرة حتى قلب إفريقيا متزوّدين بما أثمره من بديع الصنع وجميل البيان ، مناهضين به كل مظهر من مظاهر مغاني الوثنيّة المعبّرة عن ثقافات القرابين المتوارثة منذ أمد بعيد من عمر أمنا الأرض .
مغنى عربيّ أفريقيّ ما كان له أن يعبر الضفة علي أعواد من قصب ، بل علي طريق معبّد بالعرق والدماء مجسّدا سيرة أمّة عظيمة تغنّته وترنّمته فصار لديها غذاء روحيا يعظّم أفراحها ويخفّف من أتراحها ويدفعها إلي المضي قدما لتأكيد سيادتها فوق الأرض وتحت الشّمس ، ولعل ما ميّز هذا المغنى دون سواه هو اعتماده المباشر علي اللغة ليس بمفهومها الرّسمي بل الشّعبي ، والتي مكنته بدورها من النفاذ من دائرة الخاص في مواجهة العام أو العام في مواجهة الخاص ، المنطق الذي ساد المنطقة العربية في ظروف استغفال الغزاة لها فدفعها إلي القبول بتدويل الدولة ، والنّظام التقليدي للدولة علي المجتمع ، لكن اعتماده علي اللغة بذلك المفهوم ما كان ليحدث هكذا وحسب بل من قبيل واقع حيّ ومعاش كانت الناس تعمل علي تأكيده من خلال لغتها التي لا تملك لها أي تعريف سوي أنها فصحي بالمعني الشعبي وليس العامي ما يسّر لها فهم كتابها المبين والمستبين الذي اعتمد ته وبالضرورة أن تعتمده منهاج حياة . مغني ألفه العرب الأوائل وتربّوا عليه بل وأرادوا له أن يكون مغني شعبيا يفيد من لغته وتنمية لغته وما كان في حسابهم أن يأتي بعدهم من يأتي فيسيّره لهواه ومزاجه ويطوّعه للمترفين فيحاكون به أربابهم الوثنيين . أجل ما كانوا يضعون حسابا لذلك وما كانوا ليظنون أيضا بأن عربا منهم سيذهبون به في غير اتجاه ويعملون علي تغريبه وتزويره فيصيّرونه لهوا ومتاعا ذاتيّا وشأنا مبتذلا استهلاكيا. ولما كانوا يدركون أنه مغني مواجهة وثقافة مواجهة ولا تقبل طبيعته لا التطويع ولا التطبيع فقد ظل مقاوما وبلا هوادة كل مالا يألفه وفي ذات الدرب الذي عبره أجداده القدماء مرتادين الوعار والقفار ، وهم يبشرون بأعظم حضارة في تاريخ الإنسان بأسره وفي ذلك يقول لنا التاريخ أنه صار بمثابة سلاح من أسلحة المواجهة علي أطراف الضواحي والقرى وشرع يدير معاركا ضارية مع أرباب مغاني الحواضر قبل أن يتخذ سبيله غربا إلي الشمال الأفريقي الذي قدّر له بفضل ما أمدّه الإسلام من قوة الإيمان والعقيدة أن يتخذه ليس قاعدة رئيسة لإعادة الكرة علي الأرباب وحسب بل لمواصلة مسيره وفي أطول هجرة من هجراته التي أراد لها أن تبلغ العالم بأسره . إن الأمر ليبدو مثيرا للدهشة والطرافة معا لكن ما يبدو حقا أكثر من ذلك أن يتأخر الدارسون والباحثون عن تعقّب وتقصّي أبعاده ومعانيه فالواقع ان المغني العربيّ ذو خصائص ومعان غاية في الأهمية وهو وفي مطلق الأحوال أكثر عمقا وشمولا من دعوته و تعريفه بالغناء ، ذلك أن الغناء وقياسا به موضوع خارجي ينحصر في الشكل أكثر من المضمون ، ويغلّب القيم الفنية المتمثلة في الصوتيات علي القيم الفكرية والثقافية المتمثلة في النصوص ، الإشكالية التي غالبا ما تدفع المتلقي إلي الانحياز للصوتيات( الألحان) دون المعاني (النصوص) مايعمل علي تغييب العلاقة أو الرّابطة العضوية بين الاثنين (الصوتيات والنصوص) والتي هي الأساس أو الأصل في ضبط الملحون الطبيعي أو الفطري والحيلولة دون ما قد يطرأ عليه من تحريفات أو تكييفات عمديّة من الملحّن المكتسب (6) ولا نحسب أن تعريف المغني علي هذا النحو إلا من واقع فقه اللغة الشعبية (7) والتي هي أبلغ معني وعمقا وأثرا من فقه اللغة الرسمية ، وإذا كان المرء لا ينبغي عليه التقليل من جهود الذين أبدوا حسن نواياهم فتعاطفوا مع مغني العرب وعملوا علي الرفع من شأنه في تحفيز المواطن العربي وتثو يره في ما وقع عليه من ظلم وعداون من قبل الغزاة وخدمهم فإنهم مطالبون بتقطيع وحرق ما تسلل إليه وداخله من العوالق التي تبنتها وسائط الاستهلاك الإعلامية والثقافية المتاجرة بأذواق علي حساب أذواق وتحت حجج وذرائع واهية لا سند لها و لا طائل من ورائها .
إن مغني العرب ذا الكلمة الصوت لا الكلمة والصوت والذي يمثّل في مجمله فكرهم وثقافتهم لا نحسب إلا أنه سرق منهم ضمن ما سرق من علم تفكير ووثائق وآثار ومخطوطات في فترات الحملات الصليبية قديمها وحديثها ثم مسخ وأعيد لهم ثم ليقولون لهم بعد ذلك أنه منهم ، بل ووجدوا وممن روّضوهم ومن بينهم ، ومن دعاة ما يسمي بالحداثة والبني التفكيكية من يقول بذلك ، فمثلا حركة الشعر الحديث التي نظّرت لها وكما يقال المدعوة ” نازك الملائكة” (8 ) مع نهاية الأربعينات ، والتي صارت من ذلك الحين بمثابة الحزب الأدبي المناهض لما دعي بالشعر العمودي أو التقليدي هي لا تعدو عن كونها حركة أرادت محاكاة شعر الأوروبيين ، وذلك في محاولة منها لكسر ما دعته بالرتابة في شعر العرب، بحجّة أنه قديم و” متحجّر” وغير قادر علي مواكبة روح العصر ومتطلبات العصر ، لكن رواد تلك الحركة ما كانوا ليعلمون أن الأوروبيين المغرمين بتقليدهم قد سبقوهم إليها عندما سرقوا فكر العرب وتراثهم وشعرهم الشعبي علي وجه الخصوص ثم أعادوه إليهم موحين لمريديهم ولمن تشيّع لهم و تتلمذ علي أيديهم بأن تلك حركة شعر أوروبي حديث وجديرة بأن تكون أيضا حركة شعر عربي حديث من شأنها تطوير شعر العرب وتحريره مما دعوه بالسكونية والرتابة ، ولما كان علي المريدين لهم من مثقفي ومتعلمي العرب أن يصدّقوا ذلك كما أصدقوهم حين أقنعوهم بالا علاقة للعرب تاريخيا بأي شكل من الأشكال الأدبية والفنّية كالقصّة أو الرّواية أو المسرح (9) فقد انطلقوا نيابة عنهم مقننين لشعرهم الحديث وبما اعتقدوه فتحا ونصرا مبينا للعرب وديوان العرب دون معرفة الأبعاد التي يهدف معلموهم من ورائها والتي إنما جعلت لضرب الإيقاع العربي في عقر داره بداية من اللعب بتفاعيل ا لخليل بن أحمد الفراهيدي ، وذلك بتطويل الخيط للرويّ ومسايسته بالتفعيلة الواحدة ، سواء بتكرارها أو كسرها أو مواءمتها بأخرى ومن بحر آخر ، أو الاكتفاء منها بسبب خفيف أو متحرّك أو غيره، ونهاية برفض قصة التفاعيل برمتها والذهاب إلي تقليعات ما يدعي بما وراء الحداثة ، والتي سارعت بدورها إلي الإطاحة بالحداثة لتذهب بعدها مباشرة إلي الوتمانيين (10) الذين فرّخوا لهم ومن بينهم من يقاتل بأظافره وأسنانه عنهم ،وذلك في محاولة لإقناع العرب بأن ما قالوه لا يتعارض وبشيء من الاختلاف في التفاصيل عمّا قاله ( النفّري) و( ابن عربي )أو ما ورد في ( ملحمة جلجامش ) أوفي بعض من نصوص الكتاب المقدّس والقرآن الكريم ! (11) . فصل من قصة محزنة لها مبررها لمن أقنع بعض مفكري ومثقفي العرب بها وبغيرها من قصص التغريب والتسييب الفكري ، وهو ليس أكثر من نتاج لردّات فعل نفسيّة جراء ما واجهه من حروب مدّمرة وغير شرعيّة دفعته وبالضرورة أن تدفعه –وهو ذاته ضحيّة لها – إلي أن يسحب ردّات الفعل النفسية تلك علي نفسه وعلي غيره وكما يفعل المصاب بمرض ” الملل البرجوازي ” والذي ليس أمامه وبعدما أمتلك كل شيء سوي أن يفعل كل شي وأي شيء ! أمّا أيّ مبرّر لمن أقتنع بها وبغيرها من بعض مفكّري ومثقّفي العرب ، فلتلك قصة من قصص طويلة ليس بالإمكان سردها من دون أن تذهبنا عن مفاصل الموضوع ، ومفاصل الموضوع تقول : إن مغني العرب الصوت الكلمة أكبر من أن تمتد إليه أيادي العابثين ، وكان جدير بمثقفي ومتعلمي العرب ألا يذهبوا إلي ما ذهبوا إليه ، لأن الذين سرقوا شعرهم والذي هو مغناهم وأدخلوهم في المعامع سالفة الذكر لا يريدونهم وبعدما عجزوا عن ذلك يفتشون في كنوز ثقافتهم عما يمكنهم من اكتشاف مفاتيح كثيرة تشرع لهم أبواب المغاليق ، وإذا كان بعضهم ما يزال مغرما بهم ، و يلهث خلفهم محاكيا ما يبتدعون فلا بد أن جيلا من بعدهم سينهض إليهم ليبصّرهم بما كانوا عنه غافلين ثم يقعد أولادهم علي مقاعد الدّرس ويضع بين أيديهم مفاتيح ثقافة أجدادهم المضيّعة ، ويدعهم وبأنفسهم يفتحون أبوابها التي لابد وأن تفضي بهم إلي الآتي : إلي مغنى لا يعتمد التطوّر بل النّمو ، كما لا يعتمد الخلق بل التأكيد إلي مغنى بمعني الغنى ، والغنى بكل ما يجعله في غنى عن المتطوّر المصطنع المنافي لطبيعته وطبيعة ثقافته.
إلي مغنى تجتمع فيه الأشكال والأنواع جميعها، شعرا ونثرا أو غيره ، ثم لا تعبّر عنه بل تعيشه ويعيشها. أجل لابد وأن يفعلوا ذلك ، ويصحّحوا مسيرة ثقافة العرب المفترى عليها ، كما يؤكدون علي أنها ثقافة إنسانية لا تخصّ العرب لوحدهم ، بل النّاس أجمعين ، وليس من صالح أحد تشويهها أو النيل منها لأنها ثقافته المستقبلية وبصرف النظر عن مسألة العرق والجنس (12 ) ذلك ن العالم واحد ومن المقرّر له التأكيد علي (التعالميّة ) وليس ( العولمة ) أو أية تعويذة أخري مبتدعة ، ولابد أن يوما سيأتي علي من يناصب العداء للعرب وثقافتهم ليكتشف ا نه هو أيضا مغرّر به من قبل مضرمي نيران في زى رجال مطافئ يريدونه أن يكون – دائما– ضحيّة للصراع ، مسحورا لا يعرف أين يقع من رأسه ، كما لا يعرف أن المدعوّة ( أوروبا ) ليست – في الأصل – سوي بحيرة كبري لآسيا ، عاصمتها القديمة روما وروما عاصمتها قسطنسة ، وقسطنسة نظامها فارسي والفارسي شرقي ، وأيضا لا يريدونه أن يعرف بأن علاقة آسيا بأفريقيا كعلاقة مصب نهر النيجر بـ( تمبكتو ) ، وان العالم علي نحو ما خرّطه الغزاة لا علاقة له بتخريط الناس التي تريد أن تتعالم في ما بين بعضها البعض ودون ممارسة حظر علي حاضرها ومستقبلها من قبل جمعة الحطب في الظلام من فارضي الرسوم والطوابع علي الحرية وضمير الحرية . أجل سيكتشف كل ذلك و أكثر من ذلك ، ثم لا تخطيء بعدها خيطه عين الإبرة رغم أنف الظلام . إن التفاصيل لا تذهب بنا من دون أن نذهب بها ونقودها مباشرة إلي عين الشمس وإذا كنا قد أسهبنا في عرضنا للمغني العربي فإنما ولكونه أكبر من ذلك بل ولارتباطه الوثيق بثقافة لا يمكن التحدّث عنه دونها ، ولعله من الخير للعرب أن يذهبوا ليبحثوا ومن خلال ثقافته عن كنوزه ، قبل أن تذهب به وبأجياله مظاهر حضارات الاستهلاك المتعيّشة عليهم وعلي مناطق فراغهم ، ولابد لهم بعد ذلك من أن يمسكوا برأس الخيط الذي لا ينقطع لينسجون به ما يكسيهم ويسترهم . إن ثمة إبداعات يخطئها الحصر تتضمنها مرجعيات هذا المغني التي سرقوها منهم وشوهوها لهم وهم راقدون علي آذانهم وبطونهم ، وأول تلك المرجعيات تراثهم العربي بشكل عام وشعرهم الشعبي بشكل خاص ، والذي لو تعمّقوه للاموا كل الذين تركوه واستعاضوا عنه بغيره آتين إليهم بما لا علاقة لهم به وبما وقف سدا منيعا دون تحقيق مشروعه التنموي الدائم الذي لا يقبل الحصر في أطر مصطنعة جاهزة أخضعت المغني إلي الغناء ، وطوّعته لأوزان متطوّرة لا نامية ومتنامية، بداية بالخليل نفسه ، ونهاية بما أبتدع من الخوارق سالفة الذكر وما تلاها من خوارق أخرى . إن مغناهم الذي ألجموه لهم بأوزان متطورة ما كان لسارقيه وتلاميذهم فهمه وإدراكه، إذ به من الأوزان ما هو أبلغ وأعمق وأكثر اتزانا من كل حركات التجديد المزعومة، ولنأخذ – مثلا – هذا النص العربيّ الشّعبي الفصيح :
-( أيجن أيام ملبوسي حرير
ويجن أيام نقصر عالعبيّه
ويجن أيام نقدر علي ملي وادي
ويجن أيام تقدرني وليّه.
أيجن أيام غوّارات
ويجن أيام غدّارات
ويجن أيام ميخوذ مالهن
ويجن أيام جضرانات
حتي ولعزيز إقبالهن
ويجن أيام للخاطر
ايضيق نين ينهال ياعلم .)
قصيدة حديثة قبل الشعر الحديث ، وليس فيها تلاعب لا بسبب خفيف ولامتحرك ولا فاصلة كبري أو صغري وتعتمد أوزانا لم يحلم بها لا الخليل ولا تلميذه الأخفش ، وهي واضحة من خلال توالي سواكنها التي أشبه ما تكون بحلقات سلسلة و دون تكييف عمدي للرويّ وأيضا هذا النّص الأكثر شعبيّة وفصاحة:
( والله والنّبي والله
وسبع جمال شايلات غلّه
وكل حبّة قمح تسبّح وتقول والله
غلاك يازين مبد وع
مسّع اطري بين العرب. )
تنويعات في وحدة موضوعية واحدة متكاملة وغير قابلة للتجزئة ، ولأن مغناها فيها فهي تعمل علي تأكيده وليس علي خلقه ، وميزتها أنها تجمع بين الشعر والنثر ، وكما أسلفنا وبذات اللغة الجماعيّة التي يعيها ويدركها الكبير والصغير علي السّواء لأنها وببساطة منهم واليهم ، وأيضا ولنأخذ نصّا آخرعن السيرة الهلالية في وصف ( الصّفيرة عزيزة ) الأميرة التركية التّونسية وصاحبة ( يونس ) ابن ( شيحه ) أخت ( أبي زيد الهلالي سلامة )
( رقيقة بشر
لولا الشّعر
أما شمس طايحه
واللا قمر . )
وكذلك هذا النّصّ في وصف ( شيحة ) ذاتها :
( وين تسّقّد فيهم ” شيحة “
في نقرة الضّحي
تعفس علي البهمة وتوطا
عالوطا
أخفّ من غربال في أيدين شايل . )
مغني شعر وشعر مغني لمجتمع غير مركّب (13) يوحّده ثالوث طبيعي ( الصّوت / الكلمة / الصّورة ) . مسجّلا أعظم مشروع تنموي لم يشهده أيّ مجتمع من مجتمعات الأرض ، ومعتمدا اعتمادا مباشرا علي جماعيّة القول والفعل ضمن تآلف طبيعي من شأنه توظيف الحياة الدّنيا للحياة الحياة المؤكّدة علي بقائها ودون انقراض ، ولذلك فان أقصي ما يمكن أن يقال عنه أنّه المشروع الحياة ، والذي لاسبيل معه إلي فصل الأشياء – وأية أشياء – عن بعضها البعض . وإذا كان المقام لا ييسّر لنا – هنا علي الأقل – قصّ أثر مجمل عطاءته وإبداعاته ، فإننا لانألو جهدا في الوقوف منها علي الآتي : أولا / عمله علي توثيق العملية الإنتاجية بين المنتج والإنتاج ، من حيث تحفيزه وتشجيعه لبذل المزيد من الجهد والعطاء وهو ما يتبدّي واضحا من خلال أغاني الرحى والجلامة والحصاد والدّراسة والأعراس والختان والتقذير والميلاد والطهارة أوالختان وقطع قيد الطفل وكل ما له من تفرّعات أخري . ثانيا / تأكيده علي تأصيل وتعميق الرّابطة الاجتماعيّة من خلال حواريات الرّبابيط والمشايلة وبيوت الجلآّس . ثالثا / مواءمته ومجانسته للإنتاج بأدوات ووسائل الإنتاج .
رابعا / تكفله بالدّور التثقيفي والترشيدي والإعلامي ، والعمل علي تنمية الذهن وتوقيده ، وكذلك تنشيط العقل واستثماره وحثّه علي الإشراك والمشاركة ، وكما – تحديدا – في ” صوب خليل ” و ” المعاني” ، المتضمّنة لصنوف من آداب وفنون شعبيّة تفسيريّة ممسرحة لا نظير لها في المتداول من الآداب الرّسميّة . ولعل اللافت للنظر والمثير للانتباه حقّا ما شهده هذا المغني بوجه خاص من إيقاعات سريعة ومتسارعة ومتنامية ، وليست متبدّلة أو متحوّلة ، وهي وان وجدت – وباختلاف التفاصيل – لدي أمم وشعوب أخري فلها خصائصها التي تميّزها عن سواها ، بل ولها آثارها البالغة في كثير منها ، وكما نري في ” المجرودة ” و”الكشك” و” الطّبيلة ” ، وهذا مرده برأينا إلي ظروف الطقس وطبيعة المناخ التي أورثت مواطن الشّمال الأفريقي عموما حرارة الدّم ، والتي اقتضته وتقتضيه دوما أن يكون سريع الايقاع ولا نحسب تلك إلا صفة حميدة أكتسبها مبكرا ومذ أنطلق أجداد أجداده الأوائل بهجراتهم المتعاقبة من الجزيرة ، ومن المؤكد أن ثمة من سيأتي ممن يهمهم أمر المقامات الموسيقية ليفيد من تلك الصّفة الحميدة ويبدع ما يبدع من مقامات جديدة تضاف إلي ما أبدعه الأوائل من العرب من مقامات وتخلق لهم مواءمة طبيعيّة بين الجملة اللحنية والجملة الموسيقيّة ، وكما مغناهم الصوت الكلمة. إن مغني العرب أكبر من أن نعتبره مغني للتسلّي والتطريب بما يتضمّنه من قيم فكريّة وثقافية سامية وخلاّقة ، وليس عليهم إلا أن يرفعوا من شأنه ويعلوا من مقامه ويعملوا علي تنميته كرافد من روافد ثقافة قدّر لها أن تمضي في سبيلها والي الأبد مرفوعة الرأس .
————————————————————————————–
من كتاب: قليل من الجدير بالذكر.
(1 ) التعالمية : من التعالم ، أو بمعني أن تتعالم النّاس بين بعضها البعض ، مصطلح نقترحه هنا وهو أعمق وأشمل من ” العولمة” ومن شأنه تحقيق موازنة طبيعية بين الجغرافيا المكانية والجغرافية البشرّية ، والتكفل بإحلال الوئام عوضا عن الصّراع .
( 2 ) بمعني أنها ثقافة دعوة مستشرفة للمستقبل بالحاضر، والعكس يذهبها عن الإبداع بالابتداع، والفرق بين الرؤيا والرؤية كالفرق بين البصر والبصيرة.
( 3 ) المواكبة موضوع خارجي ليس من جنس النمو بل التطوّر، والثقافة لا تتطور بل تنمو ، وليس هناك تراث ثقافي بل الثقافة التراث علي اعتبارها مشروع متنامي في وحدة زمن موضوعية ماضيها حاضرها وحاضرها مستقبلها ، ولعلّ ما هدّد المشروع الثّقافي الدائم عبر كل العصور وجعل الحضارات تبيد ولا تسود وكما كنا نقرأ : حضارات سادت ثم بادث .
(4) منطق الأنواع : مذهب رأسمالي مستغلّ متعيّش علي تنويع الإنسان وتنويع موارده وحاجاته ومتطلباته ” راجع كتابنا : حاصل الجمع “.
(6 ) الملحون الفطري هو أصل وجوهر النّص، والملحّن المكتسب ما يستعان به علي تأكيده، وانعدام الموازنة بينهما سبيل إلي الخلل.
( 7 ) فقه اللغة الشعبية هو ما فسّرت به النّاس القرآن وما سبقه من رسالات سماويّة ، ومدونات ، ومن غير قواميس ، وفي غيابه يتكلم الإنسان ويكتب لغة غير لغته ، وميزته أنه يضع المعرفة في إطارها الطبيعي ويعمل علي ضبط التحصيل المعرفي المكتسب ، أما الفقه الحالي فهو فقه مذهبي كفقه إسلام المذاهب.
( 8 ) معروفة بكتابها ( قضايا الشّعر المعاصر) وهي من روّاد شعر التفعيلة الذي لا يعتمد علي صدر وعجز البيت في ما دعي بالقصيدة العموديّة ، ولها محاولات في التجديد كغيرها ، ومنها ما دعته بـ ( المتوافر) كتطوير لـ ( وافر الخليل ) ، لكنها ما لبثت أن تراجعت عن كل تجديداتها قائلة في مقدمة كتابها ” شجرة القمر” : ( ..، وانّي لعلي يقين من أنّ تيّار الشّعر الحرّ سيتوقف في يوم غير بعيد ، وسيرجع الشّعراء إلي الأوزان الشّطريّة بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها. )
( 9 ) إلا إذا كانوا يقصدون من النّاحية الفنية أوالتكنيك الذي يخصهم ، لكن العرب لهم أيضا ما يميزهم ، والمهتمون بالأدب المقارن يدركون هذه المسألة ، كما يدركون – تحديدا – بأن تأثيرات آداب العرب في آدابهم ليست في حاجة لأن يري إليها حتّي بعين الغربال ، وإذا كان البعض من مثقفي العرب ما يزال مغرما بما يقولون فلابد أن ذلك ناتج عن قصور وعجز في معرفة ثقافتهم والتي لوذهبوا إليها مباشرة لما كانوا في حاجة للبحث عن الماء وهو فيهم علي حدّ تعبير( شبنجلر) في معرض حديثه عن مواطن الصّحراء !
( 10) نسبة إلي الأمريكي ولت ويتمان Walt Whitman أحد الآباء الروحانيين لقصيدة النثر ، له جمعيات داعمة لآرائه وفلسفته الشّعريّة ذات التهويمات الغرائيبيّة ، والمتجاوز بها ( شكسبير ) ومجا يليه .
(11 ) من بينهم ( أدونيس ) ومريديه ، ظاهرة مفسدة رغم مظاهر الماكياج ، وقد أفسحت المجال لظاهرة أخري وبعد ( الومضة ) تدعي : ( قصيدة البياض ) وأخري متضمّنة فقط للعنوان واسم الشّاعر ، والباقي ورق أبيض ، ولربما غدا أحمر، ومن المتوقّع أن يطوّرها الغاوون من حفاة الأدب دون اسم وعنوان !
( 12 ) تقصير العرب في البحث عن منهج مؤكّد علي ثقافتهم جعلهم يتنصرون لها ، معتقدينها حتّي وان كانت بلسانهم أنها لهم وحسب ، ناسين مكسب اللسان المبين والمستبين الذي رحلها عن ذلك المعتقد الخاطيء منذ صدور البيان الأول للغتها في القرن السّابع الميلادي
( 13 ) المجتمع المركّب ( Compound Society ٍ) الفاقد لعامله القومي أو الاجتماعي