في بلاد البغتة والعجائب تُمطر السماء بالمصائب و»العصبان» أو تسحبك من أنفك إلى خيمة القائد سيان، ما لم يكن من المُمكنات يحدث لأن إرادة «القائد» فوق كل حساب ولا تقبل الطرح وتقبل الزيادة والضرب ولا تقبل القسمة، جاءني «الشاعر إدريس الطيب» رفقة الكاتب سعد نافو إلى بيتي في بنغازي ليبلغني أن القذافي استدعانا إلى خيمته بطرابلس، وأن علينا السفر في التوّ. أخذنا من قبل الكاتبة فوزية شلابي في اليوم التالي إلى القذافي في خيمة بمزرعة بطريق المطار، فوجئنا في الخيمة بالكاتب الصادق النيهوم رفقة الدكتور رجب بودبوس.
في مساء اليوم التالي أيضا قابلنا القذافي في بيت عبدالسلام الزادمة»وهو من أعد العشاء، وكان الصادق النيهوم في صدارة الجلسة التي كانت أريحية ووضحت العلاقة الخاصة بين النيهوم والقذافي، حيث الصادق النيهوم دخل في محادثة مع القذافي فيها التبسط والمزاح والألفة: تعرف يا خيي معمر أنهم يتهمونني بتأليف كتابك الأخضر، هذا الكتاب مش ممكن نكتبه وإلا لا؟ وأخذ القذافي يضحك دون أن يعلق على حديث النيهوم التهكمي، وحينها بدا لي كما لو أن «الكتاب الأخضر» ليس في المستوى الذي يستحق أن يُتهم النيهوم بكتابته، وأن النيهوم يتبرأ في حضورنا من هذه التهمة، وأن القذافي يمنح النيهوم هذا الحق كما يمنح السلطان نديمه. لحظتها والساعة ومما طالعته وسمعته تبين لي أن الصادق النيهوم صاحب الكتابة والأفكار في مسودة أُعيدت صياغتها دون رضى النيهوم، ولعل لهذا منح القذافي الصادق النيهوم تلك اللحظة الاستثنائية.
الصادق النيهوم في أسر القذافي
حَظي أشهرُ الكتاب الليبيين، خليفة التليسي وأحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني وعلى الخصوص الصادق النيهوم بعلاقةٍ مميزةٍ مع العقيد معمر القذافي، الذي عَقِبَ استيلائه على السُلطة بانقلابه العسكري في سبتمبر 1969 عَقدَ لقاءً مُوسعاً بالمُثقفين الليبيين نُقلَ مُباشرةً عبر التلفزيون لعدةِ ساعات ولأيام وعُرف بـِ»ندوةِ الفكر الثوري»، في ذاك اللقاء تحدث الصادق النيهوم الكاتب النجم عن علاقة القطيع بالملك، واصطدم بالرائد عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة المُشارك في إدارة الندوة، وقد تدخلَ القذافي وانحازَ إلى جانب «الكاتب النجم»، وعلى إثر ذلك توطدت العلاقة بينهما، بعدها بمدةٍ قصيرةٍ أمسى الكاتبُ المُتمرد الصادق النيهوم أمينَ لجنةِ الدعوةِ والفكر في الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي للعقيد القذافي لقيادة البلاد، لم يُرض ذلك الكاتب والفنان إلا لمدةٍ قصيرة، ليخرُج من البلاد قاصدا قبلة المُثقفين والمُبدعين العرب بيروت دون أن يتركَ منصبه، في الفترة تلك كتب خُطاطةً فكريةً نظرية كحل للمشكل السياسي الاجتماعي قُدمت في كُتيب تحت عنوان «نقاش» للاتحاد الاشتراكي، ولم يتمّ تداولها بشكلٍ عام في حينها، تقريبا هذه الخُطاطة المرجعية التي اعتمدها القذافي لما أسماه بـ»النظرية العالمية الثالثة» مع إضافات للبُعد القومي عند الكاتب المصري عصمت سيف الدولة، وإضافات للبُعد الإسلامي من الكاتب السوداني بابكر كرار، وكل منهما كان على علاقة مميزة ومعروفة بالقذافي والدولة الليبية.
في لقائي مع القذافي بمعية الصادق النيهوم لاحظت أن الأول يُنصت للثاني، وأن ثمة إعجابا يُضمرهُ القذافي للنيهوم وعلاقة فيها حميمية بينة، وكأنما القذافي يعتبر النيهوم من أنارهُ ونورهُ وأن هذا جعل في نفس الدكتاتور تضادا، فكأنما، وهو السلطة المطلقة، صنيعة هذا «الهيبي»، وهذه الحقيقة جعلت من علاقتهما كما علاقة المثقف بالسلطة فيها الفكر «رأس المال الرمزي» الذي يُشكل سلطة تُقارع سلطة، وبمعية هذه العلاقة المُشكل وقع النيهوم في الأسر.
الهيبي والكولونيل
كتب الكوني عن ذكرياته مع النيهوم «في بداية التسعينات، عندما جاورته في رحاب الألب، كنا نتسكع في الأمسيات، في حديقة الزهور في جنيف، ليروي لي الطرائف بأسلوبه الممتع، المستعار من روحه النقية، إلى أن جاء اليوم الذي أدلى لي فيه باعتراف لم أقرأ له حساباً، اعتراف أدهشني، ربما بسبب فكرتي الرومانسية القديمة عن الإبداع كقُدس أقداس. قال لي يومها إن غايته كانت دوماً السلطة، كل ما هنالك أن العسكر ذهبوا إليها من أقصر طريق، وخسرها هو لأنه سعى إليها من أبعد طريق! لقد استنكرتُ أن يسعى مبدع في حجم صادق يومها إلى ما اعتبرته عملاً لا أخلاقياً».
إن هذه العلاقة المُبكرة بين السلطة والكاتب النجم تضرب في التاريخ منذ أفلاطون وعلاقته بحاكم صقلية من قدم له تقارير ضد فلاسفة كان على خلاف شديد معهم، ولعل علاقة المتنبي بالسلطة أوضح مثال في الثقافة العربية، خاصة مع سيف الدولة وكافور الإخشيدي، لقد كان المتنبي لا يرى ولا يكتفي بأنه سلطان الشعر، المتنبي يريد أن يكون السلطان حيث أنه السلطان الحق وسلطان الحق، سلطان المدينة الأفلاطونية التي كان أحد منادمي سيف الدولة قد كتب فيها كتابا: المدينة الفاضلة للفارابي.
هكذا منذ البدء يتضح أن موقف المثقف المعارض للسلطة عند أمثال المتنبي من أجل الاستحواذ على السلطة باعتبارأنها مشروع المثقف المشروع، وهذه المشروعية تستمد مشروعيتها من ذاتها لأن الإنسان كائن مفكر وأن الفكر ما يسوس البشر وبذلك فالمفكر هو القائد، ولقد تم توكيد ذلك في الأنظمة الشمولية والطغاة فرادة منذ نيرون إلى لينين وماو. وفي التاريخ الإسلامي أخذ هذا عند الشيعة مسوغه في مفهوم «ولاية الفقيه» إذا كان الملك هو ظل الله على الأرض فالفقيه أولى أن يكون الملك.لكن في حال الصادق النيهوم المفكر استحوذ العسكري الطاغية على الفكر، وجعل معمر القذافي من نفسه القائد المفكر والمعلم الثائر والشعار ما ردده أتباعه وحشود الجماهير التي تحشد لتوكيد ذلك.
نجم النجوم
الصادق النيهوم النجم ظهر على صفحات جريدة الحقيقة، ليكتب من هلسنكي عاصمة فنلندا عن الليبيين مقالات ساخرة ومثيرة، ولينشر مقالات صحفية مترجمة أعاد صياغتها، هذه المقالات التي تتناول مواضيع الساعة في تلك المرحلة وتمس القضايا الساخنة من العالم، وفي أسلوب ساخر وتهكّمي وطازج ومثير جذب القراء، وتحوّل صاحب هذا الأسلوب إلى كاتب الصحيفة الأول والمبرز؛ علي يد صحفي قدير هو رشاد الهوني رئيس تحرير صحيفة الحقيقة التي تنشر هذه المقالات مسلطة الضوء على كاتبها في شكل صحفي جديد وجذاب.
وحين حققت الجريدة ذلك كان النيهوم قد أمدها بروح جديدة، بأسلوبه المميز من حيث تركيب الجملة التي تغترف من الأساليب الصحفية العربية «البيروتية» ومن الأساليب الكتابية في الصحف إنكليزية اللغة، ومن الأدب الأميركي في مرحلة ما بعد الحرب كما تمثل في كتابة أرنست هيمنجواي وترجماته العربية على يد منير البعلبكي وهو من ترجم رواية هيمنجواي «الشيخ والبحر» التي كانت إنجيل جيل النيهوم، لقد عجن هذا الكاتب ذلك في تحولات جعلت أسلوبه متميزا وجملته مسبوكة مصبوغة بروحه التهكمية كابن لمدينة متوسطية صغيرة، تبدو كما لو كانت ميناء لقراصنة غدوا أشباحا.
كان النيهوم يرسم شخصية كتاباته السردية في شكل رجل عاطل، ليس لديه ما يفعل سوى أن يتكئ في ركينة شارع ليرمي المارة بنظرة ساخطة ولسان لاذع، وفي مقالاته الفكرية يبدو كمتفرّج استعار باروكة فلسفة العبث السائدة آنذاك التي تكرس مفاهيم اللامنتمي الحصيف.
فيلسوف هيبي
لقد أشارت -حينها- صحيفة الصن البريطانية إلى الصادق النيهوم -في مقالة صحفية عن ليبيا- بأنه يبدو كما فيلسوف هيبي: الفيلسوف الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا، وكان الكاتب علي فهمي خشيم قد كتب مقالة بعنوان «الظاهرة النيهومية».
النيهوم في سيرته غير الموثقة وغير الموثوق فيها -لأنها مليئة بالثغرات ولأن صاحبها نجم تحول إلى رمز لهذا حشاها محبوه بما يحبون أن يكون عليه نجمهم الساطع- أنه حين تخرّج في الجامعة الليبية قد ذهب إلى القاهرة كي يعد رسالة الماجستير ومن ثم الدكتوراه في مقارنة الأديان وأنه اصطدم هناك بالدكتورة عائشة بنت الشاطئ، الشخصية المعروفة حينها بكتاباتها في الفكر الإسلامي وأستاذة الجامعة المبرزة، التي كما يشيعون كانت أقل مقدرة من أن تستوعب الأفكار الطازجة والمميزة للصادق النيهوم الذي قفل راجعا، متخطيا البحر المتوسط إلى أصقاع أوروبا متوجها إلى فنلندا حيث أعد رسالته المفترضة في مقارنة الأديان، التي لا توجد أي معلومات عنها حتى معلومات صحفية ولا أي إشارة من الكاتب إلى حصوله على هذه الشهادة العلمية.
هذه الشخصية ستترادف مع الكاتب وتمتزج عند المتلقي مع كتاباته التي ستصير أكثر إثارة، والتي جعلت من النيهوم ظاهرة يتزاحم الناس للحصول على عدد الصحيفة الأسبوعي الذي ينشر مقالته، وحتى الأميّ سيتأبط نسخة من هذا العدد، عند هذا الحد سيقفز الصادق النيهوم قفزة مميزة في كتاباته؛ حيث سينحو للكتابة في الفكر الديني، وقدم أطروحات صادمة في حينها بأسلوبه ككاتب صحفي من طراز رفيع يعرف أصول كتابة كهذه، من سماتها التكثيف المبسط الاختزالي ما يتخذ من الجملة كحامل للفكرة، فيبدو كما لو كان يكتب حكمة في ثوب «مانشيت» صحفي يدير الرؤوس ويبث التأويل ونقيضه في ذات الجملة، ويزيغ النظر بتحريكه لسطح الظاهرة التي يتناولها، كمن يرمي حجارة في بركة راكدة، التي هي في الحقيقة سبخة ماؤها تبخر ولكن سطحها اللامع يوهم بوجود الماء.
إن النيهوم لاعب في بركة الوحل التي أراد أن يرسم على سطحها علامته المميزة كنجم يعطي بظهره للكرة ويعطي وجهه وعينيه للجمهور. لكن ما يميز هذا النجم أنه لا يستهين بجمهوره ولا بوسائل جذب هذا الجمهور التي هي القضايا المثيرة التي في الظل وما يسلطه عليها من ضوئه الخاص الجذاب بتعدد ألوانه.
طريقة في الكتابة
النيهوم من القلة الذين أثاروا قضايا دينية واجتماعية تبدو كما لو كانت قضايا ميتة مثل قضية المرأة، ولعل أهمها محاولته -في سبق صحفي ومثلا قبل أن يفطن مصطفى محمود لذلك- تفسير القرآن تفسيرا عصريا في دراسته المطولة «الرمز في القرآن».
قبل أن نشير إلى ما أثارته هذه الدراسة من ردود أفعال لا يفوتني أن أنوه بأن النيهوم القابع على بعد ألاف الأميال عمن يكتب عنهم ولهم وعن الصحيفة التي يكتب فيها، قد كرس نفسه لشكل من أشكال الغموض حول شخصه وسيرته، وأن الصحيفة التي كرسته ككاتب أول لها، كرست هذا الغموض الذي نبعه ليس القضايا التي يتماس معها، أو المفاهيم التي يتخذها طريقة لأطروحاته الإشكالية فحسب، ولكن قبل ذلك الأسلوب الذي اتخذه، هذا الأسلوب المازج بين الكتابة الأدبية والكتابة الصحفية المطعمة بأساليب الترجمة في حينها، مع مزيج من الرمزية والسريالية والفنتازيا أحيانا، في دأب وجهد لإدهاش القارئ في الجملة قبل الفقرة وفي التراكيب المتجددة دائما، وفي هذا المضمار بذل النيهوم جهدا خارقا استنزف طاقته الفكرية والإبداعية الأهم.
الرمز في القرآن
الدراسة البوتقة التي دخل منها النيهوم الفكر والفكر الديني على الخصوص، كانت بمثابة مرحلة ثانية في كتاباته ونقلة نوعية حيث سيظهر أن النيهوم يعتمد على نقلات مفارقة في سلم إيقاعه إثارة القارئ الذي هو الشغل الشاغل المشروع عند هكذا كتّاب، ولهذا المرسل إليه هو محمول المرسلة وأسلوبها.
توخى بهذه الدراسة إثارة قضايا دينية شائكة؛ اعتبر القرآن نصا رمزيا تؤول رموزه بمعطيات لغوية سيمائية، فالنص القرآني نص لغوي واللغة تجريد لصورة واقعية لذا فإن مريم –مثلا- حملت طفلها من خطيبها يوسف النجار… الخ، وكونها حبلت كما هو شائع دون اتصال جنسي فهذا ترميز على طهارة العلاقة المقدسة. هذه مجرد إشارة مقتضبة لموضوع الدراسة، لكن المهم كان آنذاك ما أثارته من ردود أفعال وسيجنح الكاتب منذ أن بدأ بردود الأفعال هذه إلى الانشغال بها في الكثير من المواضيع التي نشرها.
ولأن عامة الناس يغذّون التناقض ويعشقون التضاد فقد ظهر النيهوم باعتباره الغامض السهل، وفي هذه الدراسة بدا وكأنه لا يعني ما يقول، ويقول ما لا يعني لهذا جنح قراؤه إلى تزكية آرائه في مواجهة خصومه.
ومن هذه اللحظة المفارقة سيضع النيهوم رجله علي عتبة الباب الذي يحب، فقد كان خصومه هم رجال الدين المحافظون ومن في حكمهم، والنظام الملكي الليبي آنذاك أسسه هؤلاء أو أنهم على الأقل أهله بحكم أن للدولة الليبية علاقة بالحركة السنوسية الدينية الإصلاحية بالتبعية وأن ملك البلاد مؤسس الدولة هو وريث لزعامة هذه الحركة، لكن الملك إدريس السنوسي كما تشير شخصيته يميل إلى جناح التحديث في نظامه وإن بشكل خفيّ؛ فتكوينه في قصره في مصر فترة شبابه وتواجده وسط النخبة المصرية المستنيرة وعلاقته المبكرة بالإنكليز ساهم في هذا التكوين.
لهذا يذكر البعض أنه حين طالب علماء الجامعة الإسلامية بمحاكمة -أو ما يشبه ذلك- الصادق النيهوم، كان حينها الشاب عبدالحميد البكوش من عمره (32 سنة) وزير العدل ثم رئيس الوزارة فيما بعد يُطالب أساتذة الجامعة والطلبة والنخبة المتنورة أن تعاضد النيهوم في كتاباته هذه؛ حيث أن الدولة لا تستطيع ذلك لأسباب معروفة، ولهذا أوقف نشر هذه الدراسة فقط وأعاد النيهوم نشرها تحت اسم آخر وفي صياغة مموهة وتحت عنوان «العودة المحزنة للبحر».
الكاتب والسلطة
النيهوم الذي يظهر أنه كاتب غير سياسي ستكون علاقته بالسلطة السياسية مشتبكة وشائكة، سيكون هذا الكاتب كما لو كان الجافل عن القطيع، القطيع هذه المفردة التي سيرددها النيهوم في مداخلاته كثيرا، وسيظهر نفسه كمتمرد يلبس (الجينز والتّي شرت)، وينظر بغضب لقطيع السلطان وسيضع في نفس السلة كل النخبة الليبية -وحتى العربية- دون تمييز مستثنيا بطبيعة الحال مريديه من الشباب وعامة الناس.
لقد تبوأ مبكرا مركزا مميزا في السلطة حين نالته الشهرة فغدا بسلطة الفكر رأسا حاسرا ينال مراده بجمهوره الكثير، ولهذا أفصح عن عداء لأعداء افترضهم ومنحهم هذا الدور؛ هم النخبة خاصة السياسية منها وكان رأس شيطانها اليسار بالمعني العام من قوميين ناصريين وبعثيين ووطنيين وشباب يشده الأدب العالمي الذي كان بحكم المرحلة يساري الطابع.
كما لو كان مخلصا للعلاقة التاريخية بين المثقف والسلطة كان فعل النيهوم ككاتب منذ ظهور هذه الدراسة، كذلك العلاقة بين الكتابة والقارئ الذي يستمد منه الكاتب سلطته خاصة متى تحول إلى نجم غاية غايات أغلب الكتاب لكن النيهوم على الخصوص منهم كان النجم. وكان الكاتب البارع والمبدع المميز.
ظاهرة النيهوم
لم يكُن النيهوم ظاهرة وحدها حين خرج على الناس بتمرده وأفكاره الجريئة، فجيلُ الستينات -جيله- جيلُ التمرد والعبث واللامعقول والثورات والهيبز والبتلز، والذي يأتي ولا يأتي والهزيمة العربية في حرب 5 يونيو، وكان آنذاك اليسار الفرويدي مُتسيّدا جبهة الفكر الإعلامية: هربرت ماركوز وإريك فروم… الخ، وكان اللامنتمي صرعة اللحظة على يد صحفي نابه تحول إلى أيقونةٍ للشباب الناقم يدعى كولن ولسون.
في هذه اللحظة بدا وكأن العالم قد سلم زمامهُ للأفكار وحاملها الأيديولوجيات وتحولت الصُحف إلى أسفار أنبياء العصر: ماركس وفرويد ودارون… لقد قفز إنسانُ تلك اللحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية من قرد إلى سيدِ الكون، بعد أن طال غاغارين الفضاء.
لكن في الإقليم العربي من الأرض بدأ ما سمّي «بنكسة حزيران» يقظة الهزيمة لهذا تزامنتْ وتراصت الشيوعية والوجودية والأفكار الدينية في سلةِ اليوم الصحفية، لعلنا نذكر ما أثاره كتاب جلال العظم عن الفكر الديني من ضجة، وكذلك الكتابة الصحفية في جريدة «صباح الخير» التي تُفسر القرآن تفسيراً علمياً علي يد كاتب طبيب عُرف بكتابته القصة حتى ظهوره مُفسرا قرآنيا فجاءةً وهو الدكتور مصطفي محمود. لقد تأبط النيهوم كتابه بقوة المرقون بروح العصر، وبدأ من هناك ينظر إلى هنا بسخطٍ وبسخرية، وبحكم تواجده في هلسنكي اتخذ من هنا هدفا لنقمته التي بدورها شتت ذهنه وفاعليته، لقد صار كاتباً صحفيا لجريدة محلية مُلزما بكتابةِ مقالةٍ أسبوعية، هكذا وقع النيهوم في أسر الطريقة الناجحة والمجربة إلى الجمهور؛ بهذا صار « النيهوم في الأسر».
يكتبُ ويُترجم -دون ذكر مصادره- ويرسُم، يكتبُ التقارير الصحفية والمقالة النثرية الساخرة المُطعمة باللهجة المحلية التي تحكي عن الحاجة أمدلله التي تتعاطى الشعوذة، ونتاشا التي تتعاطى الفودكا، فيما الحاج الزروق المُتكئ على التكية يغمزها.
هكذا سوّقَ النيهوم نفسهُ ككاتبٍ صحفي، مشغولٍ بالشخصياتِ المحليةِ البسيطة وكرجلِ فكرٍ يهتمُ بقضايا تُشكل ذهنية هذه الشخصية، لقد كان الدينُ أبرز المحطات التي أثارتها فترة الستينيات خاصة عقب الهزيمة العربية أمام دولة اليهود! كتب النيهوم في القضايا الدينية الشائكة، وقضايا المرأة بجرأةٍ وقليلٍ من التمحيص والدقة ودون مرجعية ما أو منهج، ولهذه الاعتبارات المُثيرة التي جعلت منه الكاتب والصحفي النجم تساوق النيهوم وسُلطة الدولة، لقد حوّل المُشكل إلى قضايا ثقافية اجتماعية فيما كانت النخبة جملة بعقائدها المختلفة تركزُ المُشكل في الدولة التي وُصمت بالرجعية من جهة ومن جهة أخري باللاإسلامية، ومن ثالثة بالمُرتهنة للدوائرِ الامبريالية. لقد تسلطت كُل الأضواءِ على هذا المُختلف الذي عُد كظاهرة.
النيهوم الفنان
لكن النيهوم لم يكن برجلِ اللحظة الراهنة تلك فحسب بل لأن النيهوم كان قبل هذا وحتى بعده الفنان. لم تكن موهبة الفنان أهم ما في رصيده، ولكن شكل وأسلوب الفنان كان ضمن هذا الرصيد، كفردٍ صبغ جسدهُ وسلوكهُ بروحِ الفنان، وكمبدعٍ نمّى موهبتهُ بدأبٍ ودون كلل.
المُتأمل لجملةِ النيهوم في كتاباتِه سيجدها جملةً تصدعُ بروح الفنان، فهي جملة كافية ومُكتفية، نابضة وحيوية، وماكرة لدرجة بدا أن الكاتب يكتبُ رموزاً -عند عامة قُرائه -وأنه بحاجةٍ لتأويلٍ وتفسيرٍ مُطّردين هذا من جهة، ومن الأخرى ردد قراؤهُ أولئك جُملهُ كما حكم ومحفوظات.
وقبل اتخاذ المقالةَ السرديةَ صيغةً يحُوكُها لمُقتضى الحال، أحياناً لم تكن المقالةُ ذات دلالة لكن صيغة السرد والسريالية تجعل من المقالة عند المتلقي كما لو كانت أحاجي ورموزا حتى أن بعض هذه المقالات أثارت لغطاً عند تأويلها بأنها تمس هذه الشخصية أو تلك السلطة أو حتى تمس الذات الإلهية أو مُسلمات ما.
هكذا كان النيهوم فناناً من طرازٍ خاص لعلهُ استفاد من فن الشطح الصُوفي المحلي البسيط في رفع اللغة إلى درجة الإيهام؛ لأن مقالاته وجلّ ما اطلعنا عليه مما كتب لا يُدلل على صلةٍ وثيقةٍ بالنتاج الصوفي الكلاسيكي المعروف لكن هذا النتاج كان قد تحوّل على يدي مريديه إلى فنون في الزوايا والتكايا، واللغة في هذا النتاج تبدو في الظاهر مُموّهة ومُحمّلة بمستوياتٍ عدة من الترميز والدلالة.
هكذا هو من طرازٍ خاص فلقد تنبه للغةِ المحكية كلهجة عامية، وكمُصطلحات ثقافية وفنية، وكما أشرت أنه استخلص أسلوبهُ من عدةِ أساليب فإنه أولى اللغةَ منزلة المنازل في شُغلهِ وفكرهِ معا.
لقد عاش في فنلندا فترة شبابه العشرينية، وكان يُطالع بالإنكليزية، ويكتبُ بالعربية ويتحدث بعاميةِ مدينته بنغازي الستينية حتى وفاته.
لم يكن بمُكنة شخص آخر غير هذا الفنان جعل هذه الخلائط عجينةً واحدةً مصبوغةً بروحِ الفن التي توحي قبل أن تومئ، و تومئ قبل أن تُشير وتصمت كي تتكلم.
ومن هذا الفنان وضع تضاريسه الخاصة ذات الطبع المُستقل عن محيطها، وإن كانت مربوطةً به بالعُروة الوثقى، تجانب هو وقراؤه والصحيفة التي يكتب لها ما تريد وما يرغب والدولة، لكن ككاتب محلي كانت تعوزه سُلطة الذات المنفقة من احتياجاتٍ أولية، لهذا كان مأسوراً لهذه الحاجات؛ من هذا العوز تحاذى والسلطة السياسية دوم حياته لكن بشروط روح الفنان التي كانت ديدن الروح.
بعد بحثه الأولي في تفسير القرآن تيمم بالفن، واتخذ من مكة محرابه فكانت روايته غير المكتملة «من مكة إلى هنا»، هذه الرواية أثارت -أيضا- لغطاً محلياً؛ منهُ أن الشاعرَ علي الفزاني صرحَ في حوارٍ معهُ أن الرواية بحاجةٍ إلى ثلاثين عاما كي تُفهم، ومنه أن بطل الرواية مسعود الطبال قد رسم شخصية والد أسرة من مدينة بنغازي حيث تقع بعض أحداث الرواية. وقد كان الصحفي رشاد الهوني يعمل بجهده المتميز لترويج كتاباتِ نجمِ «الحقيقة» -صحفيته -: الصادق النيهوم.
«من مكة إلى هُنا» الشخصية الرئيسة فيها قد تكون الشخصية الأولى في رواية عربية تقع أحداثُها في إقليم العرب التي بطلها زنجي، وقد تكون الرواية الأولى التي تثيرُ مسألة اللون في اشتباكٍ مع مسألةِ الدين، وفي قريةٍ ساحلية فترة الاحتلال الإيطالي، وتُمارس الشخصية الصيد البحري، لقد دخلت الرواية في نسيجٍ شائكٍ ومتصدعٍ، وفي شبكةٍ من القضايا التي لم يتخللها السردُ بعد.
أيقونة النيهوم مَسُّ ما لم يُمسّ بعد
من مكة إلى هنا
الروائي الصادق النيهوم والمسألة الدينية
اتخذ النيهوم منذ رواية «من مكة إلى هنا» مسارا نوعيا آخر في تجربته الإبداعية، حيث اتجه إلى الكتابة السردية التي كان فيما قبل يستخدمها ضمن سياق كتاباته المتنوعة، بهذه الرواية سيبدأ مسارا كان قد وكده في قصص للأطفال، وكما يبدو لي أن الكتابين يمثلان مرحلة جديدة في مساره الإبداعي، خاصة في «الحيوانات» فالرواية تستمد روحها من رواية «1984» و»القرود» التي يمكن اعتبارها الجزء الثاني للحيوانات، وسردية النيهوم تحتاج مبحثا خاصا لكننا هنا نتناولها في إطار مبحثنا في جانبه الفكري المحض.
وفي الرواية سيتخذ من السرد طريقة لطرح أفكاره الأساسية في المسألة الدينية، كمنظر متخذ المنهج التأويلي في النظر لهذه المسألة، وسيكون السرد استعادة للأساليب القديمة للحكي ولكن بروح جديدة تجعل الغرض البيّن ضمن المسار الدرامي لهذا الحكي. وبهذا فإن النيهوم سارد من طراز المتنبهين للفن وأساليبه؛ بحيث أن السردية في عمله ستكون المستهدف الأساس وأنها بنية العمل فيما موضوعه نسيج في هذه البنية.
لكن التيمة الرئيسة عند هذا الكاتب تظل مركزية؛ إن الشخوص الروائية تلبس لبوس الفكرة المراد صياغتها ضمن البنية السردية، إن مسعود الطبال في رواية «من مكة إلى هنا» زنجي محنك يتخذ من زنوجته أيقونة للوجود؛ وجوده ومعنى هذا الوجود، وإن الراوي يجعل من هذا الزنجي معاركا شرسا في مواجهة الفكرة الدينية والمسألة العنصرية، كما لو كان نبيا جديدا يبشر برؤيا وليس برؤية في هاتين المسألتين.
وينسج النيهوم شخصيته بتؤدة في مكان يبدو كمسرح أو صالة عرض؛ حيث الكرة الأرضية هي الإنسان، فإن الطبيعة المنتقاة في هذه الرواية الأرض؛ إن قرية سوسة البحرية تجمع اليابسة والبحر والجبل والمعاش فيها يكون على ما ينتج البحر، لذا سوسة رحم هذا الوجود عند مسعود الطبال الصياد أما صيد السلاحف ( الفكارين باللهجة المحلية لسكان الرواية -سوسة) فهو المسألة الميتافيزيقية التي تنسج العلاقة بين الصياد الطبال وشخصية فقيه القرية الناطق بسم المقدس، الفقيه من يجرّ خلفه سكان القرية المحليين (القرية تقع على الشواطئ الليبية في تضاريس الجغرافيا لكن الرواية غير معنية بذلك)، والعلاقة مع صاحبة المطعم الإيطالية من يزودها الطبال بهذه السلاحف كي تقدمها لزبائنها الإيطاليين.
«من مكة إلى هنا» رواية الشخصية المتفردة؛ نجد مسعود الطبال كما بطل تراجيدي يقع تحت براثن قدر محبوك؛ المقدس فيه مرجعيته الدينية أو تفسيره التقليدي للدين وكذا مجموعة من الأساطير الشعبية التي مرجعيتها هذا التفسير للمقدس. في صيد السلاحف يجد الطبال قوته الثمين حيث يتمكن من هكذا صيد الحصول على ما يمكنه من التوفير لشراء ماكينة لقاربه، وبهذا يقدر على الدخول في غور البحر ومصارعة جنونه والتمكن من صيد سلاحف وفير، هذه الماكينة يملكها إيطالي يعرضها للبيع.
تجد الشخصية التراجيدية أنها محكومة بالمطرقة والسندان: البحر الذي يلتهم الصبي، في الوقت نفسه الذي يرجع فيه الفقيه ذلك إلى غضب الله لاختراق سننه وصيد السلاحف المباركة، والزوجة زوجة الطبال التي تحلم ليل نهار بأداء فريضة الحج.
لقد أعد النيهوم شخصيته بقوة بُنية وعناد رأس وأفكارٍ محمومة، كي تطفئ حُمّى الطبيعة والبشر الذين هم آل الطبال أو على الأقل من يحمل لغتهم ودينهم ومن عليه اتباعهم، رغم زنجيّته التي تجعله على خطوة من طرفي القرية: السكان المحليون من جهة والإيطاليون من جهة أخرى.
بهذا تظهر شخصية مسعود الطبال مفارقة: القوت يضعه في حاجة للإيطاليين، والحياة الاجتماعية تجعل منه محليا متمردا، كذا فهو بهذا التمرد يواجه المقدس كما هو مؤول محليا.
النيهوم أراد أن يجعل الطبال شخصية الرواية أو يجعله الرواية بالمرة؛ فبقية الشخصيات تثير مسائل في حلّ منها شخصية الطبال الذي وجوده كما الحياة لا تحتاج لتأويل، ولعله لهذا جعل علاقة الشخصية بالطبيعة أوتد، من البحر بل من الماء كل شيء؛ مسعود نفسه شخصية مائية وطيد المعرفة والوجدان بالبحر.
وإذا أردنا فإن مسعود الطبال كأول زنجي بطل لرواية عربية في حدّ علمنا، قد جعل ذلك من الرواية تنسج في منطقة غير مسبوقة، لهذا تحررت هذه الشخصية من تراث سردي لا مثيل له في التراث السردي باستثناء معروف هو الملحمة الأسطورية: عنترة بن شداد. لعل الروائي عند الصادق النيهوم قد طال لاوعيه الروائي هذه الأسطورة فتماس معها دون أن يستعيدها، لأننا نجد هذا الزنجي كما في منسوج الحكي التراثي قوي البنية جسورا ويغرد مع البحر خارج السرب.
الزنجي البطل اللامنتمي
النيهوم معروف في نتاجه الفكري اهتمامه المركز بالمسألة الدينية؛ لعل هذا يوضح كيف أن التيمة الرئيسة في رواية «من مكة إلى هنا» هي هذه المسألة: ثمة قيم تقليدية راسخة تتمظهر في شكل أساطير وخراريف تراثية شعبية، الناطق الرسمي بها فقيه القرية، الذي يواجه بتطرف يصل إلى العراك الجسدي مسعود الطبال، مسعود الطبال المتحقق أن الآلة (الماكينة) التي يملكها الإيطالي هي الحل لمسألة المعاش، وبالتالي فإن السلاحف ليست مباركة وإن كانت كذلك فهي جديرة بتوفير الحياة لبني آدم، أما حج زوجة الطبال فقد مثل مسألة إثقال كفة الميزان في غير صالح الطبال.
ليست الرواية رواية أحداث قدر مّا، هي رواية الشخصية فالمنولوج لُحمة الرواية، مسعود الطبال هو الرواية هو المفرد المتفرد الذي كصياد كثيرا ما يكون في المكان وحيدا، ولا زمان له غير الزمن الذاتي، وزمن الطبيعة البحرية ما تعني الشمس في شروقها وغروبها، وكأنما الطبال يعطي بظهره لزمن الناس بانشغاله بالبحر وعراكه ومناجاته.
لذا سوسة قرية كونية دائرتها المكان/الطبيعة ومركزها الزمن: ما يحدث ويضطرم في نفس مسعود الطبال.
هذا الإنسان هو مركز هذا الكون وأفكاره وما يجيش بنفسه هو وجوده، من هذا يستمد الطبال تمرّده وتستمد الرواية من هذا التمرد نسجها، بالتالي تبدو أفكار النيهوم حول المسألة الدينية ومنهجها التأويلي كما لم تكن فهي هنا من نسج الرواية، من جهة أخرى بدأت الرواية رواية أفكار لكن خباء السرد المحكم جعل ذلك من نسج السرد وليس من مرجعية الراوي المتفكّر في المسألة الدينية.
رغم ذلك تثقل الرواية -كعادة النيهوم- بذهنية المتفكر؛ مما جعل شخصية مسعود الطبال متمردا وجوديا يصوغ نفسه كمنولوج في نسيج الرواية، وهو قلب الرواية لكنه في نسيج مكان الرواية/قرية سوسة هو هامشي.
لقد جعلت الرواية من شخصيتها مثل نخبوي يعيش مع أفكاره أكثر منه صيادا يعيش مع ما صيده، ومسكوت الرواية هذا منطوقها من حيث المرجعية الفكرية للروائي التي تتخفى بالضرورة بالسردية؛ فنحن نتلقى نتاجا روائيا مسرودا بحكمة الفنان لا بفن الحكيم، وتتجلى في استنطاق مجمل الرواية «من مكة إلى هنا».
وكما أشرنا إلى أن الرواية ليست رواية أحداث، نؤكد أن اختزال الحدث قد مركز الشخصية وجعل المنولوج مركز البنية السردية، هذا أعطى السرد مكنة طرح الأفكار وتداعيها، فالشخصية الروائية/مسعود الطبال كان على عرض وطول الرواية يعيش وحيدا حتى في سرير الزوجية ثمة جدار بينه وزوجه الحالمة بالحج. والوقائع المسرودة تجعل من مسألة المقدس مسألة تحكم العلائق في الفعل الروائي كما في حياة شخصيات الرواية، أما الرتابة روح القرية البحرية فهي ما تركز مسألة المقدس وتجعل من تصيد الطبال للسلاحف المباركة تهديدا لقرية تعيش دون خوف أو جوع، البحر جواد فالسمك يسدّ الرمق. ومسألة الماكينة والخروج من الكفاف يهدد هكذا حياة، لقد صار الطبال خارجا عن الناموس عدوّ لله عدوهم، وكزنجي كان وجوده مفردا ومن هذا استمدت الشخصية الروائية مركزها كشخصية الرواية.
وهذا الصراع البيّن الفاعل الأساس في الرواية، جعل من الشخصيات الأخرى وهي هنا الإيطالية كخلفية لهذا الصراع المحموم بين طموح الطبال وحمى المقدس عند آل القرية المحليين، فيما الماكينة-موتور القارب المحرك للصراع كامن في الرواية كطرف غائب، والحديث حوله عابر في نسيج أحداث الرواية.
وكما تنقسم سوسة بين شخصية الطبال المركزية وشخصية الفقيه تحوك الرواية نسيجها السردي، ويوضح النيهوم تراجيديا شخصيته من خلال هذا الانقسام الذي يعانيه مسعود الطبال في منولوجه وأحلامه وأحلام زوجه.
إذن المسألة الدينية هنا تندسّ في نسيج الشخصية الداخلي وتفجر وجدانه وتشظّي نفسه.
- هل الطبال عبد مارق كما يقول الفقيه: يقول الطبال لنفسه؟
الروائي جرّد أحداث روايته من أيّ مسائل أخرى، وجعل طرف الميكنة كما طرف أجنبي يثير المسألة لكنه ليس جزءًا داخليا منها، ولعل هذا ما جعل الإيطاليين في الرواية شخصيات ثانوية رغم مركزيتها.
Mالرواية تنتهي وقد فشل مسعود الطبال في تحقيق مشروعه، لكن يبقي في مسرود الرواية -عند القارئ الحصيف- كمشروع، وفي رواية «من مكة إلى هنا» يكشف النيهوم عن جدارته بإثارة مسألة كالمسألة الدينية كسارد دون أن يقع تحت ثقل مسألة كهذه.
إن المسائل التي تناولناها في هذا البحث كل منها بحاجة إلى مبحث خاص، لكن في سياقها وفي سياق البحث قد وضحت أن المفكرين مثل النيهوم كما الشخصيات المتمردة والثائرة التباسية من جهة ومن أخرى هي مثيرة عواصف ذهنية وقد تكون واقعية.