إبراهيم مشارة
أحببت أن أعلق على هذا الكتاب المهم للشاعرة جمانة حداد لسببين: أهميته وكونه يسلط الضوء على جانب مظلم في الشعر المعاصر خاصة الشعر العربي، حيث تبقى حياة بعض الشعراء طلاسم يصعب على قارئ الشعر فك خيوطها، وفي ثقافتنا العربية ميل كبير إلى التعتيم حتى لقد ألفنا حياة العتمة وتعودنا عليها فأصبحت قيمة من قيم حياتنا الفكرية.
وكتاب جمانة حداد من الكتب التي تضيف رصيدا إلى مكتباتنا فلقد بذلت الكاتبة الشاعرة جهدا مميزا وحسبك أنها أتت على قرن كامل من الشعر في الشرق والغرب تترجم لحياة الشاعر وتثبت نتفا من أشعاره تترجمها من لغتها الأم وهو جهد مضاعف قمين بكل تقدير.
وهؤلاء الشعراء من القرن العشرين قد اختاروا أن يرحلوا بإرادتهم لأسباب عدة خاضت الكاتبة في تفاصيلها فكشفت الستار عن كثير من الغامض والمبهم واصطنعت عنوان قصيدة لشاعر إيطالي رحل بإرادته كذلك تشيزاري بافيزي 1908 – 1950 عنوانا للكتاب وعنوان قصيدته : “سيجيء الموت وستكون له عيناك”.
وكنت في إحدى مقالتي في كتاب “وهج الأربعين ” قد عرجت على هذه الظاهرة وتحديدا في مقالة “بيدي لا بيدك عمرو .. ظاهرة الانتحار في أدبنا الحديث” وذكرت في جملة من ذكرت الشاعر أحمد العاصي وصالح الشرنوبي من مصر والشاعر الكبير خليل حاوي من لبنان.
وكنت أود والكاتبة أحصت من الشعراء المنتحرين مئة وخمسين شاعرا – حتى أنها تكاد لم تترك زيادة لمستزيد – أن تذكر الشاعر النابغ صالح الشرنوبي من مصر الذي عاش بين سنتي 1924 و1951 والذي انتهت حياته تحت عجلات القطار مثل الشاعر التشيكي جوزيف أتيلا، وقد خلف الشاعر دواوين عدة “أصداف الشاطئ”، و”نسمات وأعاصير”، و”وطنيات”، و”في موكب الحرمان”، و”أشعار ورسوم”، و”ظلال وألوان”، و”مع الريح”، وكان الكاتب والشاعر صالح جودت قد أتى على ذكره في كتابه “بلابل من الشرق”وأثبت نتفا من أشعاره وقد كان صديقا له ومن أشهر أشعاره:
غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا ** وآمالنا تفنى وتفنى المشاعر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى ** ويحكم فينا الموت والموت قادر
وقد كان العقاد قد أثنى على الشاعر وتنبأ له بمستقبل زاهر في الشعر الحديث وقد مارس الشرنوبي التجديد قبل السياب والملائكة في قصيدته “أطياف”:
إذا ما لعاشق المجهول أغرى الشمس باللقيا
وراء الأفق الضاحي
فمنته ومدت، كخيوط الوهم إشعاعاتها الحمرا
كما منيتني يوما وفي خديك توريدُ
وسالت من شفاه السحب الترانيم
تهدهد ربة الإشراق إذ أسكرها الحب
لكن لا تعجل الخطوا
وأسكرها نداء الحب فاستقبلت الليلا
وحيته وألقت ثوب نساك معابيد
وغيب خصرها البحر
فكانت في مرائي العين محرابا من التبر
وغنى الليل في الآفاق أنشودة أشواقه
وهوم ذاهل الحسن وفي كفيه مصباحه
وظلل جنحه الدامي نجوما مثل أيامي
توالى السعد والنحس عليها
واصطلت حرب ليال حصدت عمري
وعمر الأنجم الزهر
وماس الضوء
بربك إن صحا الفجر وسار الأفق بالبدر
وغادتك مع الأنسام أطياف الهوى الطهر
فلبى الهاتف المجنون قد ند عن الصدر
وذاب مع النسيم ندى ليوقظ ناعس الزهر
وتيمه شعاع الفجر فانساب مع الفجر
وشاقته معاني الروح راووق أشعاره
فمثل شوقه الملتاع أشباحا وأطيافا
وكنت أود أن تتحدث عن الشاعرة التعيسة ناهد طه عبدالبر من مصر1920- 1950 كذلك وتعاستها زادت حين لم ينشر ديوانها بعد رحيلها، وكانت أوصت بطبعه لكن الحظ السيئ يضاف إلى الحظوظ السوداء الأخرى، وقد ربطتها علاقة بالناقد أنور المعداوي ولها نفس شعري لا يخفى فى سوداوية ظاهرة، وقد ثارت على التقاليد التي تكبل الأنثى في الشرق فقالت في قصيدة “وفاء وحنان”:
إلهي أفـي الغرب هـذا الـوفاءْ؟ ** أتحظى النسـاء بـهـذا الـحنانْ؟!
وفـي الشّرق يظلـمهـنّ الرّجالُ ** ويـقسـو عـلـيـهـنَّ صرف الزمان
أتُظْلَمُ حـوّاءُ روحُ الـحنانِ ** ويُجزَى الـوفـاءُ بـهـذا العقـوقْ؟!
أتُظلَم بالشّرق مهد الهداةِ ** وأرض الشّداة بنـيل الـحقــوق؟!
أرى حكـمةَ اللّه فـي شــرعِهِ ** تـردُّ الفساد وتَهدي الضلالْ
ففـيـم الـتلاعبُ بـالـدّين ربّي ** وبـاسم الشـريعة يـطغى الرجال؟!
يريـدونهـنّ متـاعًا لهـم ** تعـدّدنَ مـثنى بـه أو رُباعْ
أهـذا هـو الشّرع؟ يـا ويحهـم ** لقـد صـيّروه سبيلَ الخداع
أخذتـم مـن الغرب تلك القشــورَ ** وحـبَّ الـمظاهـر دون اللّبـابْ
وأنـتـم لعـمـريَ لا تبتغون ** سـوى الجسمِ مـثل جـيـاع الـذّئاب
وأنكرتـمُ الرّوحَ يـا ويحكم ** وأيـن هـو الرّفق؟! أيـن الـحنانْ؟
ونـبـل النفـوس؟ وصدق الـوفـاءِ ** وأيـن النّبـيل بـهـذا الزّمان؟
ويـا لهفَ مـن ضلّلـتهـا الـمعـاني ** وحثّت خطـاهـا ابتغاء الكـمالْ
فطـاح الخـيـال بعذب الأمـاني ** ولـم تدرِ أيـن تحطّ الرّحالْ
ضننـتُ بأحلامهـا أن تُسـامَ ** صغارَ الجسـوم وثقْل الأثـامْ
أنهـوي إلى الطّيـن بعـد الـتّسـامي ** كـمـا يسقط النّجـم فـوق الرّغام؟
وهذا النص يلقي الضوء على نفسيتها الغارقة في السواد والانطوائية، ويبدو أن مرضها زاد في كآبتها فأنهت حياتها بيديها.
كتاب مهم لجمانة حداد تستحق عليه الثناء، وهو كتاب خليق بأن يقرأ، ففيه من الأشعار الجزلة المعبرة عن النفس الكثير، وكنت أحب أن لا تسقط الكاتبة هذين الشاعرين القديرين من عالمنا العربي، خاصة وأنها ذكرت الجميع: أحمد عاصي، منير رمزي، أنطون مشحور، خليل حاوي مصطفى محمد، تيسير سبول، عبدالله بوخالفة، فاروق سميرة، إبراهيم زاي، قاسم جبارة وغيرهم.