من أعمال المصورة التونسية سلوى الجوادي
المقالة

الأدب.. وصراع الأسئلة

يتحدث أحد العراقيين عن فترة الحرب وارتداداتها، وأن الناس وجدوا في الرواية والشعر والأدب عمومًا بديلًا عن رؤية شظايا الأجساد ورعب أزيز فوهات المدافع، وذلك لا يعني أن الأدب يزدهر ويحتفى به حين يكثر الخراب، ولكنه يساعدنا على تجاوز الممرات المظلمة ومحاولة الخروج من أزماتنا النفسية بأقل الخسائر. ربما لكونه يمثل حالة تفريغ القلق الوجودي الذي يحاول القارئ تشتيته أوالهروب منه، أو لأن الأدب كما يشير الدكتور شاكر عبد الحميد في مؤلفه «الغرابة» بأنه «الكتابة عن أطياف، أشياء غائبة وحاضرة، غائبة عند مستوى الإدراك والواقع وحاضرة عند مستوى الذاكرة والحلم والتمني» ص79.

ولارتباط الأدب باللامرئي في أروقة الخيال المتوثب، تصبح اللغة والأفكار والصور بظاهرها الغامض شفافة بالمعنى التأملي، وقديمًا قالوا (سمي الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره)، أي يعلم مسالك الرؤى التي ينبغي الاتجاه إليها، وبذا يتولد الإحساس المشترك بين الأديب والمتلقي من واقع تشخيص الأول لما هو ماثل في وعي الآخر، وكذا ما يمكن اعتباره تواطؤًا ضمنيًا للمتلقي لما يمثله الكاتب في تعددية أدواره عبر النص، فهي فرصة للتحرر من الظل ولو من خلال قناع، وتبنى على ذلك ضرورة فهمه لتلك الشخصيات المختلفة التي صورها الكاتب في أعماله، ويبقى هو والكاتب وحدهما من يقررا لحظة التوقف عن المراوغة لإظهار ذواتهما الحقيقية وفق منظور هذه الرؤيا.

وذلك لا يعني أن الأدب له مميزات ملائكية أوشيطانية تجعله يقف مع أوضد، وبثوابت وقوالب محنطة لكنه الاثنان معًا، فالتاريخ يعرفنا بنماذج تطيح بتلك الشروط وتقذف بمعاييرها خارج أسواره، فهو كيفما كان هامشيًا أو أرستقراطيًا، ماركسيًا أو رأسماليًا.

وإن بقى التجاذب بين ما هو رومانتيكي وواقعي متوازنًا حتى هذه اللحظة مع فورة المجتمعات العربية وحراكها الاجتماعي والسياسي، نجد في المقابل نزوعاً عند الكاتب وهو يعيد تصورات أفكاره بعيدًا عن خصائص الإطار الزمني، ومع ذلك فهو مصنف بشكل أو بآخر مع أو ضد السلطة أوالدين أوالمجتمع.

إن الكاتب لا يمتهن المعارضة ترفًا، ولكنه يحاول صياغة مفاهيمه بشكل مستمر ويراجع في كل مرة الأنساق المغذية لتلك المفاهيم بغية تصحيحها وفق رؤاه الخاصة، لذا فهو معرض للصدام ويدفع أحيانًا للتمرد دفاعًا عن أفكاره، بالإضافة إلى ذلك ينبني سياق معين يصفه الكاتب يوسف القويري في كتابه «على مرمى البصر» بأنه «لا يكون غير منسجم أو غير متوافق مع بيئته فحسب، بل يكابد تناقضًا حادًا معها، ومع ذلك بإملاء من استنارته عليه أن يحيل التناقض إلى قوة بانية» ص27، وكيفما تمت للكاتب هذه المراجعة، فهو يطرح في النهاية سؤاله المرحل عن مدى أهمية ما يكتب، وتشابكاته الدائمة مع الخطوط الحمراء، وكيف له أن يوائم بين قناعاته وما هو متاح له في هامش الصدام الأزلي؟ وهل يلزم الغطاء الانتسابي ليمرر قناعاته عبرها دون عقاب على رأي مايكل دينينغ في كتابه «الثقافة في عصر العوالم الثلاثة» بأن «ما يتصل بإمكانات النشاط الثقافي وظروف إنتاجه يكتسب قوته مما أسماه بالانتساب لتلك الشبكة من الارتباطات الثقافية الخاصة مع المؤسسات والأطراف الفاعلة والطبقات والقوى غير المحددة» ص165.

وإذا كانت درجة هذا التجاذب تتفاوت من مكان لآخر فإن سيف الرقيب خصوصًا مع الأنظمة الشمولية يبقى دائمًا في مخيلة الكاتب وعليه أن يبني عالمه وفق إيقاع تداخلاته المقلقة.

ولكن السؤال هل تبدو علاقة الأدب مع السلطة دائمًا مع أو ضد، ألا يمكن أن تتواجد صيغ أخرى لهذه العلاقة ..؟ يحلل الناقد المصري رجاء النقاش مأساة الأدب الروسي كمثال للأدلة أن الأدب الروسي تهاوى بعد اعتناقه أو إرضاخه لمبادئ الاشتراكية اللينينية، لأن الكاتب أريد له أن يكون متكيفًا مع آراء تلك المبادئ، وفقد علاقته مع القارئ عندما أدرك أن ما يكتب لا يمثله، لكنه أيضًا في هذا الإطار وحتى مع بروز الأدب البروليتاري وأشكال الواقعية الراديكالية يشير دينينغ بالخصوص «أنه مع إعلان كتاب نيتهم إنتاج كتابات ملتزمة، إلا أن ما كتب بالفعل على مستوى الرواية مثلًا لم يتوافق إلا نادرًا مع تلك البيانات، وغالبًا ما أثار مزيدًا من الجدل» ص78.

ويفسر إدوارد سعيد هذه العلاقة في كتابه «آلهة تفشل دائمًا» بما ذكره عالم الاجتماع ملز «أن المثقفين وجهوا دائما إما بنوع من حس محبط بالعجز نتيجة تهميشهم أو بخيار الانضمام إلى صفوف المؤسسات أوالحكومات، فالإدراك الحسي والحديث هنا لملز يتضمن القدرة على نزع الأقنعة باستمرار، وتحطيم قوالب الرؤية والفكر التي تغرقنا بها وسائل الاتصال الحديثة التي تكيف عوالم الفن والفكر الشعبي مع المطالب السياسية» ص36.

وإذا ما استطاع التحرر مما هو سلطوي فهو في ذات الحالة قد يكون في صراع مع ما هو ديني ويخبرنا التاريخ بشواهد كثيرة وضع فيها الأدب في صورة يراه كهنة التأويل تعديًا على ثوابت النص المقدس، كما حدث لطه حسين في كتابه «الأدب الجاهلي»، وقد تتطور ردود الأفعال حين تستهدف حياة الكاتب نفسه مثلما جرى مع الروائي نجيب محفوظ على خلفية عمله «أولاد حارتنا») أونفيه خارج الوطن في حالات أخرى.

ومن زاوية يواجه الكاتب سؤال التجديد وهو كيف يتمكن الكاتب من رؤية نفق الخروج من قالب التكرار، وربما تكون الإجابة نسبية فما يراه الكاتب والروائي إبراهيم الكوني في دفاعه عن أعماله ضد الرأي القائل بأنه يعيد إنتاج الرموز والأفكار والصور في الخسوف والفم والفزاعة والسحرة… إلخ، أن الصحراء كانت أستوديو الحدث إلا أن المضمون مختلف، بل ذهب إلى أن الروائي الكولومبي ماركيز هو من يستنسخ الأفكار في أعماله «مائة عام من العزلة، الجنرال في متاهته، خريف البطرياك»، ولكن تبقى النتيجة عند الكوني وماركيز وهمنجواي ونجيب محفوظ أن ما كتبوه يظل أدبًا بأبعاده المختلفة، ولازال الأدب يخوض معاركه باحثًا عن مواطن الرؤيا التي يجب أن ننظر منها للحياة والناس.

مقالات ذات علاقة

سوء حظ آداب حضارات الشرق الأوسط القديم

عمر أبوالقاسم الككلي

الفرص الضائعة

رافد علي

من أجل انقاذ ليبيا !

المشرف العام

اترك تعليق