أهدى في لفتة لها دلالتها الكاتب الليبي يوسف الشريف مكتبته الخاصّة لجامعة بنغازي، تقديراً لكلية الآداب التي درس بها علم الاجتماع وعطفاً على بنغازي التي ضربها العنف الأهلي في صميمها المجتمعي، وحاق بجامعتها العتيدة فصيرها حلبة صراع حربي بين صفين من أبناء المدينة التي رّبت بطريقتها ـ مضرب المَثل ـ آباؤهم الذين ربما كانوا زملاء الشريف وقت درس بها1959 ـ 1963، عندما كان اسمها الجامعة الليبية.
من طرابلس ذاتها وبعد الشريف بإحدى عشرة سنة التحقت دفعتي بالثانوية في74 ـ 1975 بالجامعة. الملحوظ من أول وهلة لكل الطُلاب القادمين من الثانويات الأدبية الليبية أن بنغازي متماهية في الجامعة وكأنها هي المركز الذي تتمحور فيه أغلب فعاليات المدينة. بينما زميل سبقنا في الدراسة بقسم الاجتماع، شخص المسألة بأن مفارقة بنغازي أن مجتمعها يؤثر في الجامعة وليس العكس
نرجع إلى بداية الأشياء، فنعلم أنّه تمّ في4 سنوات بعد الاستقلال أمر تأسيس فرع الإنسانيات بالجامعة الليبية الأولى عام 1955 ، في بنغازي .
ربما السبب الأبرز، كان لملمة تداعيات حدث اغتيال ناظر الخاصة الملكية الذي دفع الملك لنقل رئاسة الجكومة من بنغازي إلى البيضاء التي تهيمن عليها قبيلة موالية للسنوسية ونقل إقامته وحاشيته، إلى طبرق حيث توجد القاعدة العسكرية البريطانية، لضمان حمايته الشخصية. وأن يهدي قصره في بنغازي للمدينة تفتعله جامعة تعويضاً عن خسارتها، وأن يُتثبّت في دستور شكلي لقبها العاصمة الثانية لأولى غير مُحدّدة.
في حديث عابر ويتيم ، حققته الصدفة في حديقة بشارع النصر بطرابلس أخبرني الكاتب الليبي ، عبد الله القويري الذي عمل وقتها موظفاً في البرلمان، أن نيّة الحكومة في تأسيس الجامعة حظيت بجلسة نقاش برلمانية انقسمت فيها رؤية النوّاب إلى وجهتين أن تكون الجامعة على غرار الأميركية ومثالها الساطع بيروت. أو أن تكون تقليدية كالنمط المصري الذي تحقق لاحقاً في لبنان. بأن أسس النظام الناصري لغرض منافسة الجامعة الأميركية جامعة بيروت العربية .
القويري الذي درس بسبب هجرة عائلته إلى مصر الجغرافية ومبادئ الأنتربولوجيا بجامعة القاهرة وتخرّج منها عام 1957، لأسباب برغماتية ـ بدت مضادة لميوله التقدّمية ـ كان منحازاً لوجهة النظر الداعية إلى نظام تعليم جامعي يكون مفعوله تقدمياً في تكريس نخبة متعلمة تقود عملية التغيير المجتمعي بما يلائم التوجّهات التنموية التي وعدت بها مساعي استكشاف البترول في ليبيا.
المؤسف أن نتيجة النقاش انصبت في صف الموالين للتوجهات العروبية التقليدية، فتأسس فرع الإنسانيات في بنغازي على النمط المصري، بينما فرع العلوم التطبيقية في طرابلس أنقذه إلى حدّ بعيد من هذا القدركون الجامعة تأسست مدعومة من وكالات الأمم المتحدة، فتبنت إلى حدٍّ بعيد النمط البريطاني ـ الأميركي.
اختبار تأثير المجتمع في الجامعة أو العكس تمظهر عام 1964 فيما عُرف بأحداث يناير الدامية، فكان طلاب الجامعة واجهة شكلية لتأثير سياسي نخبوي مثلثته بؤر تنظيمات سياسية مصطنعة أعلنت عن نفسها في ليبيا كالبعثيين الذين رسموا اللعبة والقوميين العرب الذين نفذوها في الشارع، وكان الحدث قد جمعهما مع القوى القبلية والمحافظة المعادية لهما لإعطاء الفرصة لإحباط الملكية محاولة تجديد نفسها بدماء ليبرالية شابّة.
حركة القوميين العرب الليبيين، تُحمّل النظام الملكي هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل لتؤلب الشارع، عام 1967ومتضمنه التظاهري الطالبي، في أحداث شغب تمركزت في طرابلس وانتقلت تداعياتها إلى بنغازي بثت الفوضى، وضربت الاقتصاد، وهجرّت الأقليّة المتبقية من الجالية اليهودية لإسرائيل. وفي عام 1968 قيادات الحركة يصطدمون كتنظيم سياسي سرّي بالبوليس بتدبيرهم مهرجانا خطابياً معارضا من شرفة مباني مقابلة لميدان الشهداء بطرابلس، وإشعال حرائق في آبار البترول فيلقى بهم في السجن، ويخرجون لتشكيل الحكومة الأولى في العهد الانقلابي للعسكر 1969 ولتقلّد مناصب في حكومات لاحقة، وسفارات ومنشآت اشتراكية وأمانات مؤتمر الشعب العام.
المتابع للشأن الثقافي يلحظ أنه في العامين 68 ـ 1969 كرّست الجامعة نفسها أن تكون مكانا للصفوة. أساتذة عرب وطلاب حوتهم محاضرات مدرّج الشاعر رفيق، ومجلة قورينا وراديو الإذاعة والمسرح. وفي عام 1972 يفتتح الرأس الثاني في تنظيم الانقلاب المجمع الجديد لكليات الجامعة، في خطابه يصرح بعدم جدوى مبنى جامعي بهذه الفخامة في مدينة غير مؤهلة بشريا لتسهم في عملية التنمية .. وفي آخر العام يلتقي رأس النظام الدكتاتور بطلبة الآداب في نقاش ضبابي ومتوتر عكس استلهام بعض الطلاب للتوجهات الفلسفية الأوروبية البرجوازية التي عبرّت عنها الوجودية الفرنسية.
وهو ما سيكون ملهماً لما سمي بالثورة الثقافية التي حظرت الكتب ربيع 1973. بينما يتفاعل طلبة الحقوق بتحريض من زملائهم القوميين والناصريين للتجاوب مع نداء زعيم الانقلاب للانخراط في مجهود تخفيف ازدحام ميناء بنغازي بالبضائع المستوردة. ومكافأة لهم يتم نقلهم بدون امتحانات بالترتيب إلى المستويات الجامعية التالية. أما المحرّضون فهم من سيقودون مؤسسة الاتحاد الاشتراكي، والروابط الناصرية، ولاحقاَ تحت مظلة النظرية العالمية الثالثة التي سيبلورها الكتاب الأخضر: المؤتمرات واللجان الشعبية وفيما بعد تنظيم اللجان الثورية.
ربما يكون استثناء مكتبة جامعة بنغازي من الحظر الذي شمل الكتب المرّوجة للفلسفة الوجودية السارترية المتمركسة واتجاهات المُحال (العبث) واللامعقول واليسار النقدي للماركسية ومنع تداولها صيف عام 1973 المُحفّز الرئيسي، لانتقالي من كلية التربية التي نُسبت إليها 1974 في العاصمة السياسية طرابلس التي تصدر الثقافة القومية الرسمية في ليبيا، إلى المدينة الثانية التي تم تهميشها سياسياً منذ عام 1954 لتصير منذ 1970 بؤرة القومية الناصرية، وقد تصدّر طريقها إلى مطارها الوحيد تمثال ضخم للزعيم المصري عبدالناصر الذي رحل عن الدنيا ذاك العام.
وبعد الحدث القمعي للحركة الطلابية في 7 أبريل 1976 تُصيّر الجامعة بأساتذتها الليبيين في الفروع الثلاثة الآداب والحقوق والاقتصاد مؤسسة شارحة ومرّوجة لنظريات الكتاب الأخضر بفصوله الثلاثة في ندوات داخل ليبيا وعبر العالم.
غالباً ماتُفهم السلفية بأنها الدعوة الإسلامية الدوغمائية إلى إعادة الحقبة النبوية وسلفها الصالح، بحذافيرها كما يتم تصوّرها في المخيال المسلم المعاصر. ولكن من ضروب السلفية أيضاً تثبيت المدن في حقبة ثقافية ومجتمعية متوهمة، والدعوة إلى إعادتها بحذافيرها المتصورة دون النظر إلى الدمار الحّال بالمكان، والذي سبّبه نزاع أهلي مسلح وعنفي ولا أفق مجتمعيا له أملته لستة عقود إكراهات القبائليات والجهويات، والأوليغارشية والدكتاتورية بمنزعها الأتوقراطي الفوضوي، وهو الذي يتجلى في العمران البشري كراهية، وفي المعمار المادي خراباً وعلى المعالم سخام حريق وظلام نفق دخلته الحاضرة بنغازي بإرادتها وبإرادة قبائلية موازية منذ عام 1954 تمثلها اليوم طبرق التي تحوز البرلمان المعطل لليبيا، والبيضاء التي تحتضن حكومة مؤقتة متأبدة لايعترف بها المجتمع الدولي في مشهدية انقسامية ليبية فارقة. دهليزلن يفلح في إعادة إضاءته بصيص نور الكتب المُهداة، أو استرداد خرابة قصر المنار لممتلكات الجامعة أو تمرير منهجية التفكير الناقد لطُلاّب وأساتذة لايلعب التفكير دوراً في حياتهم.