ملامح الشعر العربي الليبي في القرن الثاني عشر الهجري
الشاعر الأديب محمد العربي “ابن الصُّغيِّر الهاشمي” [ ت 1143هـ] نموذجاً
” دراسة أدبية “
.
صلاح الحداد الشريف
.
أولاً: الشاعر:
هو أبو عبد الله محمد العربي بن محمد بن حمودة بن الصغير الهاشمي، أديب طرابلس وشاعرها المطبوع، بها ولد ونشأ، وأخذ العلم عن أفاضل عصره، كان كلفاً بالقراءة، ثاقب الذهن، جميل الحفظ، جيد الفهم، عذب الفكاهة، حلو المجالسة، له باع في الأدب، وخبرة تامة بالشعر والخطب.(1)
ارتحل إلى مصر، ولقي الأفاضل، وسمع وتفقه في العلوم، من الأصول والفروع، وشارك في كثير من الفنون، ثم آب إلى طرابلس حـوالى سنة 1130هـ، أي في عهد ولاية أحـمد باشا القرمانلي، وألقى عصا الترحال فيها إلى أن وافته المنية سنة 1143هـ.
ثانياُ: عصره:
في هذا القرن ـ تحديداً ـ لم تشهد ليبيا استقراراً سياسياً قط، فقد عصفت بالبلاد عواصف سياسية حادة كانت نتائجها قاسية على الشعب والوطن معاً. بدأت أولى هذه العواصف بهجمات المستعمرين الأوروبيين على شواطئ المتوسط الدافئة ؛ ذاق من خلالها الليبيون أصنافاً شتى من العذاب الأليم. وليس هذا فحسب، بل إن فتنة التناحر والاقتتال بين الولاة الحاكمين والتي كان مسرحها الوطن آنذاك ساهمت هي الأخرى في تأجيج أوار العذاب. ولا أدل على هذا من أن ثمانية من الولاة المستبدين انتهت عهودهم بالقتل أو النفي في خلال السنوات العشر الأولى من القرن.
كل هذا وذاك لم يكن كافياً بعدُ؛ حتى نودي على رؤوس الأشهاد في دراماتيكية فريدة من نوعها اعتلاء الأسرة القرمانلية سدة الحكم في ليبيا؛ لتكون علامة فارقة على انتهاء الحكم العثماني المباشر الأول؛ ولتخضع من بعد ذلك لنظام حكم الباشاوات الجديد. ذلكم العهد الذي أعلن فيه رسمياً عن وفاة الثقافة ورموزها إلى أجل غير مسمى !؛ وليكون هذا العصر عنواناً لدراما الانحطاط الثقافي !! بالرغم من دفاع الشاعر ابن عبد الدائم الأنصاري المستميت في قصيدته المشهورة، وكذا قرينه الشيخ المؤرخ ابن غلبون، شارح القصيدة.
ويبدو من سوء طالع شاعرنا هذا أن وجد في عصر كان الانحطاط الثقافي فيه في أوجه، وقد التقطت عدسة الرحالة الحسين بن محمد الورثيلاني سنة1179 هـ، أي أواخر القرن الثاني عشر لقطاتٍ حيةً من المشهد الثقافي الليبي السائد آنذاك، مصحوبة بانطباعاته وتأملاته وتعليقاته الشخصية التي سجلها في كتابه الشهير: نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار، والتي خصَّ فيها القطر الليبي حوالى ربع الكتاب.
وكان من ضمن ما تناوله بالتصوير والتحقيق والتعليق حركة التدريس في طرابلس والتي أشار فيها بوضوح تام إلى الضعف الشديد الذي كانت تعانيه آنذاك، ما أدى في رأيه إلى تناقص في النشاط العلمي والثقافي، فقال(2): ” أما طرابلس وعمالتها فقد ضاقت على أهلها المعيشة وما هي إلا بالكد والجد والسعي الكثير، ومع ذلك فلا يستقرون على طائل، فقد انعدم التدريس للعلم في طرابلس، وقلَّ الاشتغال بالعلم رأساً، فلا تجد مجلساً فيه، وكيف يتصور العلم فيها مع أن علماءها أفضل علماء الأوطان، غير أنهم لما انعدم التدريس منهم صاروا قاصرين؛ لعدم إنفاق العلم، فإن العلم يزيد بالإنفاق وينقص بعدمه، فلما ضعف أمر البلاد قصر العلم فيها، بل كاد أن ينعدم العلم “. ويعزو الورثيلاني هذا الانحطاط إلى تدهور الأوضاع السياسية، وانعدام الأمن والعدل، منذ بداية حكم الأتراك، وانتهاءً بعهد القرمانليين الذي ازداد فيه الوضع تفاقماً !. وقد تحدث أيضاً بإسهاب عما حل بالوطن من مجاعات وأمراض وفقر، وسرقة وتعدٍ على أموال الناس وخاصة الحجيج، فهو يقول: ” وبالجملة فأهل برقة يموتون بالجوع موتاً كثيراً عن أبواب الديارة، فترى السائل الكثير يصيح على الباب بالطعام إلى أن يموت على عتبة الدار، فهلك من أجله كثير من الناس “. اهـ
ولم يخل عصره بالرغم من كل هذا وذاك من شعراء وأدباء وعلماء نجباء، فقد كان قائماً فيها من الشعراء كل من: الشاعر أحمد بن حسين بن سيد الناس البهلول الطرابلسي المتوفى سنة 1113هـ، والشاعر الفقيه عبد السلام بن عثمان التاجوري المتوفى سنة 1139هـ، والشاعر أحمد بن عبد الدائم الأنصاري المتوفى سنة 1145هـ، والمؤرخ الشاعر ابن غلبون صاحب التذكار المتوفى سنة 1177هـ، والشاعر عبد الكريم بن أحمد النائب الطرابلسي المتوفى سنة 1189هـ. ولعلنا في فرصة أخرى نعرض لشعرهم وأدبهم الذي لم يصل منه – للأسف ! – إلا النزر اليسير.
ثالثاً: موضوعات شعره:
نحصرت موضوعات شعره في شعر الشكوى والمديح، وفي شعر الغزل والحب الذي تبدت فيه دون الأول الشاعرية المتدفقة ذات الجمل المتماسكة، والمشاعر الجياشة، والموسيقى الناصعة.
1. شعر الشكوى:
وقد مثَّل مرحلة قدومه إلى الوطن بعد غربة خيَّم فيها بين ضفتي النيل وقتاً غير قصير، لكنه ما فتئ يحن إلى الوطن ويرمقه بمقلتين أرَّق جفنيهما ألمُ البَيْن، فلم يمكث وقفل راجعاً إلى موطن حنينه لا يلوي على شيء سوى أن يستمتع جالساً بين ظهراني قومه يستمع إليهم ويستمعون إليه يحكيهم ويحكونه، يقصُّ عليهم تجاربه وما لاقه في غربته، يقرضهم شعره ويتحفهم بأدبه وعلمه؛ فيكون محط تقدير واحترام !. لكن ما أقسى الزمن حينما يولد شاعر أو أديب أو عالم في محيط لا يقيم للأدب أو للشعر والفكر وزناً !! وهكذا كان نصيب شاعرنا المُجيد، فقد حل في الوطن دون أن يجد داراً تأويه وسقفاً يحميه وأناساً َيحتفون به يجلسون ويستمعون إليه؛ فكان أن نشأ صراعٌ مرير بين إرادته القوية وبين هذه الحياة القاسية التي تبدَّت فيها المرارة من الإحساس بمرور الزمن أمام النتيجة الخاسرة، فالأيام تمر والحياة لا تريد أن تتخلى عن قسوتها؛ فيحقق المرءُ آماله وأحلامه.
وشاعرنا لم يملك من أمر الحياة شيئاً كما شاهدتم، وبالتالي لم يشأ للزمن أن يمر ولا للأيام أن تنقضي، ولما لم يجد بدّاً من مرور الزمن بكل هذه الرتابة، راح يشنف مسامع القوم بمثل هذه الآهات والزفرات الحرّى التي تخرج من فؤاد يضطرم، ودموع تجرح الخدود، وعبارات وجدانية يقولها الشاعر في لحظات صدق، وعصارة حزن.
وشاعرنا العَرْبي هذا، وبحساسيته وشفافيته وصدق عاطفته وصراحته وبذوقه السليم، لهو أقدر الناس على كتابة هذا النوع من الشعر، فمضى قائلاً (3):
ألاَ هل ترى العينُ الألى قبلُ ودّعوا وهل سيل أجفاني التأرق والهمعُ
وهل تبلغ نفسي الأمانيَّ برهة وهل يُسرِج الإحلاكَ من ليلنا شمعُ
أو الموت أدنى من لُبانة قاصد يسامره جُنحَ الدجى الشعرُ والدمعُ
بلى إن دهري والعٌ بتبدُّدي إلى الله أشكو من زمان به ولعُ
فمالي وللأفراح من بعد جيرة تقضّى بهم رشدي وأعْوزني الجمعُ
لقد سئمتْ نفسي الحياةَ وطولَها تساوى لديَّ القبرُ والسوق والربعُ
ولا سيما في منبر الجهل هذه فكل سليم الذوق ضاق به الذرعُ
فلولا الأمير المرتضى لم يكن بها سجيس(4) الليالي في خواطرنا وقعُ
2. شعر المديح:
ولما بلغ أحمد باشا القرمانلي تلهفه وتبرمه الشديد أمر بإعطائه داراً، وأجرى له راتباً وعقد له مجلساً ينشد فيه شعره، ويلقي فيه درسه؛ الأمر الذي دعا قريحته أن تجود بقصيدة مدحٍ للأمير، كان غايته فيها أن يجعل الشاعرُ من الممدوح مثلاً أعلى في السخاء والشهامة والكرم والندى. علماً أن الشاعر لم ينحُ منحى الشعراء في التكسب من خلال قصائد المديح، ولم يعن به عنايته الخاصة البالغة كما يبدو من خلال قصيدته هذه، اللهم إلا هذه الأبيات التي أقرضها حينما وجد نفسه مضطراً لرد الجميل، وليس حرصاً على الاستعطاء وطلب النوال، ويظهر هذا جلياً في قوله في آخر الأبيات مخاطباً الأمير أحمد باشا:
لها منك حاجات وفيك فطانة سكوتي بها أولى لكم من توجعي
فها هو نراه يفضل السكوت في دلالة على عزة نفسه وتعففه وخشيته من الدهر والأيام من بعده. وقد جاء في القصيدة:
لك الخير عرَّج بي على طلل الربع محط المنى مغنى الكمي(5) المقنع
وكن خالعاً نعليك بين مرابع مقدسة تبلغ مناك وترفع
هناك المنى والعز حيث تقطعت تمائمه والمجد منك بمسمع
به صادحات الورق(6) تصدح في الضحى تنادي هديلاً بين أدواح أجرع(7)
يحاكيني إذا شط عني وليْهم وقد خلفوا جمر الغضا بين أضلعي
وبتُّ بليلٍ نابغيٍّ كأنني ظبية شرْك فرخها وسط بلقع(8)
وأحزان يعقوب تسربلتُ درعها وحيك فراش من سلالة أدمعي
وزهر رياض مائس بين جدول به الماء منساب إلى كل ممرع
يحاكي جنى وردٍ نديٍّ بوجنة فباء بفضح في صدور ومشرع
فماذا عليهم لو أباحوا اجتناءه لمقلة صب مدمن السهد مصرع
وعيناي قد أعماهما كثرة البكاء فديمتها(9) تهمي على كل مربع
تحاكي نوالاً لاح من كف أحمد يقسمه ما بين كهل ومرضع
على الغيث شبه من نداه كأنما يمر يداً فوق السحاب المرفع
ألا فاعجبوا من أربع وملاعب سحائب سيب منه ليس بمقلع
ولم لا يكون الورد موطئ أرجل تجاورها من كل شهم سميدع(10)
أديب أريب فاضل متعفف نجيب حسيب عالي القدر أروع
أقول لأصحابي عليكم بأحمد أفاد فجاء بالحياء المنوع
فكم أضحك المحزون من نقش رسمه وأبكى جريئاً بالشكاسة مولع
أتيت وجيش الهم جر خميسه فقهقر جبناً من حسام مروع
إليك أبا الأمداد حنت مطيتي وآمالها سفن وجسمي بموضع
لها منك حاجات وفيك فطانة سكوتي بها أولى لكم من توجعي
متى تعلم الأيام والدهر مدحتي لكم ترعوي عني وترثي وتخضع
3. شعر الغزل:
لم يقدم شاعرنا لمقطوعاته الغزلية هذه بالتشبيب كما هي سنة الجاهليين في الوقوف بالأطلال وذكر الديار، إنما كان غزله هذا موزعاً بين ذكريات الشاعر لشبابه وبين وصفه للمرأة وصفاً ظاهرياً، فقد تعرَّض لثغرها ومبسمها وجسدها وشعرها وعينها وخدها وريقها كما تعرض لزينتها وحُليها. في حين نجده قد تفادى التعرَّض لمغامراته معها ولقاءاته ومواعيده كما تفادى ذكر اسمها.
وأحس من خلال قصائده الغرامية هذه أنه لم يكن ممن شغف الحب قلوبهم، فهو يتغزل؛ كي يرضي سامعيه، لا كي يرضي نفسه، أو يتغزل أخذاً بتقليد متبع ك ” زهير بن أبي سلمى ” نموذجاً. وكل ما في الأمر أنه شاعر يعرف كيف يصور العشق، فهو ليس من العشاق ولا ممن يشغلون أنفسهم بالغزل وبيان لوعة الحب، إنما يتحدث في ذلك مترسماً سنناً موضوعة؛ كي يظهر قدرته على التصوير الفني. وكان شاعرنا بالتأكيد مبدعاً في بعض تصويره الذي يعرضه عرضاً حيّاً مليئاً بالحركة.
وهذه المقطوعات تمثل الغزل الصريح الذي يتبع الجمال أينما كان، ويركز على إبراز الجمال الحسي للمرأة أيما إبراز، مع اتصافه بعدم التحرج في التعبير عن المشاعر. وهو في قصيدته سريع في وصفه ملمح في معانيه لا يطيل الوصف ولا يتعمق المعنى، بل ينتقل في رشاقة من وصف إلى وصف وكأنما القصيدة صورة لحياته التي لا تقف عند شيء ولا تتعمق في شيء.
وهذه لوحات شعرية صفت فيها نفس الشاعر، وهشت فيها روحه وبشت؛ فكانت تعبيراً صادقاً عن الحنان الذي يغمر جوانبه، والجمال الذي يملأ مكامنه؛ فراح يصور محبوبته في أبهى حلل الجمال. قائلاً:
أمَا ومبسمك المُفتر عن برد وما بثغرك من خمر ومن شهد
وما بطرفك من كحل ومن كحل وما بقدك(11) من مَيل ومن مَيد
لقد حللت محل النور من بصري لا بل حللت محل الروح من جسدي
يا راقد الليل خلواً من أليم هوى ليهنك النوم إني دائم السهد
سقا الحيا عذبات الرند(12) من أضم حيث الظباء حمتها أعين الأسد
قد كان لي كبد بالشوق آهلة واليوم أصبحت ذا شوق بلا كبد
فهل درى من رعيت النجم بعدهم أني تعلمت فيهم صنعة الرصد
وفي قصيدة أخرى يتغزل في حبيبته ويصور الخد والنظر والعذاب والحزن:
ياقوت خدك للقلوب مفرِّح أي الجوانح نحوه لا تجنح
قالوا العَذَار(13) غداَ لحسنك كاتماً هيهات وجهك بالجمال مصرح
نظري إليك كما يقال عبادة إذ كنت لما أراك أسبح
ولئن غدوت بعذب ريقك باخلاً فأنا الذي بدمي ودمعي أسمح
إني لأحزن حين تعرض نائياً عني، وأطرب إذ أراك وأفرح
قسماً، وحقك يا بديع جماله إن التصبر عنك شيء يقبح
يهتز من مرح الشبيبة قل صاً أنت غصن البان إذ يترنح
وإذا بدا القمر المنير ووجهه لم أدر أيهما وحقك أملح
لا تخش سلواي عليك فإنني عن رتبة العشاق لا أتزحزح
باب التسلي عن جمالك مغلق حَكَمَ الغرامُ بأنه لا يفتح
ثم يقول في قصيدة أخرى عرج فيها على ذكر شبيبته وأيام مراهقته قائلاً:
وحياة وجهك يا حياة الأنفس لا حلت عنك أسأت لي أو لم تسي
فلئن جفوت فإن طيفك واصل أو غبت عن عيني فذكرك مؤنسي
أمطيلَ ليلي منذ طال صدوده من لي بصبح جبينك المتنفس
ما ضرَّ ذا الوجه الجميل لو أنه برضاه يلبسني جميل الملبس
لله عصر شبيبة قضيته حلف المسرة من ظباء كنس(14)
ترنو بأحداق إليَّ فواتراً أرأيتَ قط حديقة من نرجس
وبمهجتي رشأٌ(15) أتاني زائراً متبختراً في حلة من سندس
كذب المنجم في الذي هو قائل أنا من رأى بدر الدجى في الأطلس
وقال أيضاً:
دب العَذَار بعارضيه وإنني لأحب ديباج الخدود مقندس(16)
أرأيت خطاً لا انتهاء لحسنه فلقد تحير فيه كل مهندس
يا موحشاً طرفي ويعلم أنني أبداً بغير هواه لم أستأنس
خداك من ورد وريقك قهوة فإذا سخوت بها تكَّمل مجلسي
وفي قصيدة لا تخلو من طرافة وخفة ختمها بالتوسل والتشفع برسول الله قال:
حوى الحب خمساً، نكهته لما سنا، رونقاً، لولا جمعتني به، لما
وقد حاز خمساً رقة ولطافة وحسناً، وإحساناً، وثغراً تبسماً
حوى خده خمساً، بياضاً وحمرة وخالاً وناراً يا خليليَّ ثم ما
حوى لحظه خمساً، فتراً وفتنة وغزلاً وسحراً ثم سهماً لقد رمى
حوى ثغره خمساً سلافاً وسكراً ومسكاً وشهداً ثم دراً منظماً
لقد فاق خمساً غصن بان جآذراً(17) وشمساً إذا لاحت وبدراً وأنجما
تعشقت خمساً عجبه ودلاله ولفظاً حلا والقد إذ ماس والفما
وأعشق خمساً فيه، بسماً ولفتة ودعجاً(18) وسحراً ثم صدغاً منمنما
وقد حاز خمساً عزة ولطافة وملكاً، وحظاً وافراً وتحكماً
تعلم خمساً قسوة، غضباً، قلى جفاً، وهجراً ثم ألا واقتسما
وأورثني خمساً سهاداً وحسرة ووجداً وسقماً زائداً وتألما
سأطلب منه خمساً طاعة ورضاً وداداً، وعطفاً ثم وصلاً مسلما
أخالف خمساً فيه أهلي وأهله رقيباً وعذالاً، كذلك لوَّماً
وحسن خلاصي بالذي حاز خمسة هدى وتقى جوداً ندى وتكرماً
وقد عمه خمساً رضاً سؤدداً علا كمالاً مقاماً في الأنام لقد سما
رابعاً: الدراسة الفنية.. وسمات التجربة الشعرية:
من أوضح سمات الشاعر في تجربته الشعرية هذه أنه كان يعبَّر في معظم شعره عن حياته الخاصة؛ عن شكواه وتبرمه، وغزله ووصفه، وعلى هذا فإن تجربة الوجدان الذاتي كانت تشغل في قلبه مكاناً واسعاً، الأمر الذي أكسبه قدرة فائقة عن التعبير الصادق عن انفعالاته تجاه الحياة والمصير تعبيراً مباشراً دقيقاً؛ حتى كدنا نحس حزنه ونشعر بفرحه ونشاركه رغباته وآماله وتطلعاته.
نهج القصيدة
النهج الذي سار عليه الشاعر عموماً نهج تقليدي في القصيدة العربية من حيث البناء والصور والمعاني والأخيلة، حيث نرى في قصائده عمق التأثر بطريقة القدامى في نسج قصائدهم على طريقة وصف الأطلال والربوع، فقد استهل شاعرنا مثلاً قصيدته في المدح على طريق شعرائنا القدامى الذين كانوا يبكون الأطلال ومواطن الحب والذكريات ويعرجون عليها كلما مروا بها، يستلهمونها الأوقات السعيدة واللقاءات الخالدة وفي نهاية المطاف يدعون لها بالسقيا والخير. قال في مطلع قصيدته:
لك الخير عرَّج بي على طلل الربع محط المنى مغني الكمي المقنع
وكن خالعاً نعليك بين مرابع مقدسة تبلغ مناك وترفع
وللقصيدة تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها، فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها وما تنتهي به من روي، وعلى طريقة الشعراء النابغين نظم أكثر شعره في الطويل والبسيط والكامل. وانتهج نهج الشعر الغنائي؛ في غزله وشكواه؛ لصلته الوثيقة بالعاطفة التي تجول في مشاعره، فتصوره فرحاً أو حزناً، وتصور نفسيته وما يعتلجها من عواطف وأحاسيس.
معاني شعره
أما معاني شعره فقد كان أغلبه واضحاً بسيطاً لا تكلف فيه ولا بُعد ولا إسفاف، ولذا كان شعره وثيقة دقيقة لمن يريد أن يطلع على حياته وبيئته وعصره، فهو كثيراً ما ينزع في تخيلاته وتشبيهاته إلى عالمه الطبيعي، يستقي أخيلته من العالم الحسي المترامي حوله وكأنه نحات يصنع تمثالاً، أو مصور فوتوغرافي يحاول استيفاء ما يصفه بجميع أجزائه وتفاصيله الدقيقة. فانظر إليه وهو يصف حبيبته قائلاً:
دب العَذار بعارضيه وإنني لأحب ديباج الخدود مقندس
أرأيتَ خطاً لا انتهاء لحسنه فلقد تحيَّر فيه كل مهندس
يا موحشاً طرفي ويعلم أنني أبداً بغير هواه لم أستأنس
خداكِ من ورد وريقكِ قهوة فإذا سخوت بها تكَّمل مجلسي
ويقول في وصف دار الأمير أحمد باشا:
به صادحات الوُرق تصدح في الضحى تنادي هديلاً بين أدواح أجرع
وبت بليل نابغي كأنني ظبية شرْك فرخها وسط بلقع
وزهر رياض مائس بين جدول به الماء منساب إلى كل ممرع
ويقول في وصف حبيبته أيضاً:
ترنو بأحداق إليَّ فواتراً أرأيت قط حديقة من نرجس
وبمهجتي رشأٌ أتاني زائراً متبختراً في حلة من سندس
ويمثل شعره تعبيراً رومانتيكياً عن الآم الذات الإنسانية التي تمزج بالطبيعة؛ لتعكس من خلالها تجربتها الانفعالية الذاتية وتشرك الطبيعة في أوجاعها وألامها حيناً في حنو رقيق، وحيناً آخر تنزوي إلى نفسها تتجرع كأس اللوعة والأسى، ثم لترقى بهذه التجربة الذاتية وتجعلها لوحة لكل البشر الذين يكابدون الشقاء بين تطلع الحلم ووطأة الواقع.
يقول:
أمطيل ليلي منذ طال صدوده من لي بصبح جنبيك المتنفس
ما ضرَّ ذا الوجه الجميل لو أنه برضاه يلبسني جميل الملبس
كذب المنجم في الذي هو قائل أنا من رأى بدر الدجى في الأطلس
ويقول:
ولئن غدوت بعذب ريقك باخلاً فأنا الذي بدمي ودمعي أسمح
إني لأحزن حين تعرض نائياً عني، وأطرب إذ أراك وأفرح
قسماً، وحقك يا بديع جماله إن التصبر عنك شيء يقبح
ويقول أيضاً:
وهل تبلغ نفسي الأماني برهة وهل يسرج الإحلاك من ليلنا شمع
أو الموت أدنى من لبانة قاصد يسامره جنح الدجى الشعر والدمع
وتبلغ مشاعر الشاعر وأحاسيسه ذروتها في شكواه وأنينه؛ فنحس من الأبيات أن الشاعر يمر بمرحلة ضياع وشتات، يبحث فيها عن شط ترسو عليه سفينته بعد طول رحيل ووعورة إبحار قي القلق والغربة وعدم الاستقرار. فقد سادت تعابير وألفاظ النص سمة الكآبة والفجيعة؛ ليتلاقى إحساس التذمر المر بالتعبير الفاجع، إذ أن كل لفظ أو تركيب يرسم حالة من حالات المأساة التي ترهق نفس الشاعر كمثل هذه الألفاظ (التأرق، الهمع، الدمع، الذرع)، لذلك دارت معظم الكلمات والمفردات حول معاني الأنين والوجع والليل. وقد وفق الشاعر في أن يستخدم هذه المفردات الشعرية التي تلائم عالمه المضطرب القلق، وتوافق روحه الساخطة المتمردة الباحثة عن الحقيقة في عالم المُثل. ومهما يكن من أمر فمذهبه في هذه القصيدة هو التوافق التام بين التعبير والمعاني، فاللفظ صورة الإحساس المباشرة بما في ذلك من معنى الدقة وسلامة الأداء.
ولا يعني أن الشاعر يختار الألفاظ والتعابير ويدقق في أدائها، بل إن العاطفة تفجر التعبيرَ تفجيراً عفوياً فكأنه لا إرادي، أو كأن الشاعر انساقت الكلمات منه انسياقاً فطرياً لا صناعة فيه ولا تكلف. ونلحظ مع ذلك أن ألفاظ النص سهلة لا تكاد تعثر على لفظ صعب أو غريب. هذا ولم يخف استعارته بعضاً من ألفاظ القدامى كما في قوله (سجيس الليالي) أي الدهر كله، وهو ما ورد في بيت للشاعر الشنفرى قائلاً:
هنالك لا أرجو حياة تسرني سيجيس الليالي مبسلاً بالحرائر.
وتأتي العلاقة الجدلية بين الأفعال في تراوحها بين الماضي والمضارع كلبنة أساس تربط بين حاضر الإنسان وماضيه، كما تنم في تراوحها هذا عن الاضطراب النفسي للشاعر، فانظر مثلاً هذه الأفعال (ترى، سيَّل، تبلغ، يسرج، يسامره، تقضَّى، سئمت، ضاق). كما يلاحظ كذلك بروز الجملة الاسمية الخبرية بروزاً مفاجأً في منتصف القصيدة، وبمؤكدات قوية تهز النفس؛ وذلك للدلالة على ثبات الألم ورسوخه في روح هذا الإنسان الذي ولد وولد معه الشقاء. فانظر مثلاً إلى قوله:
بلى إنَّ دهري والع بتبددي إلى الله أشكو من زمان به ولع
وقد لجأ الشاعر إلى التقديم والتأخير في بعض تراكيبه؛ وذلك ليعزز لغته الشعرية؛ ولينبض بها النص فهو وسيلة للتشويق والإثارة، كما يعطي بعض الألفاظ بروزاً تعبيرياً، إذ جاءت هذه الألفاظ متأخرة عن محلها الطبيعي ومتوافقة مع تفعيلة القافية، ويبرز عنصر التشويق والإثارة أكثر في تأخير الفاعل؛ ليمسك من خلاله بنفس المتلقي وتلابيبه، وذلك كما في قوله (وهل سيل أجفاني التأرقُ والهجعُ) وقوله (وهل يسرج الإحلاكَ من ليلنا شمعُ)، فهو في مثل هذا يدفع عن المتلقي رتابة التركيب العادي ويزيده ولهاً على وله الشاعر.
هذا ولم يخل نصه من الجمل الإنشانية التي عبأ بها مطلع قصيدته، إذ أن مثل هذه التراكيب من طبيعتها أن تضفي مع المعاني في البوح بالقلق النفسي الذي سيطر على حال الشاعر. كما حاول شاعرنا أن يخلع على ممدوحه خصالاً كان يشغف بها الجاهليون ويرونها أمارة للسيادة والشرف والكرم، كما في قوله:
على الغيث شبه من نداه كأنما يمر يداً فوق السحاب المرفع
ألا فاعجبوا من أربع وملاعب سحائب سيب منه ليس بمقلع
ولمَ لا يكون الورد موطئ أرجل تجاورها من كل شهم سميدع
أتيت وجيش الهم جرَّ خميسه فقهقر جنباً من حسام مروع
ولقد كان متكلفاً بعض الشيء في اختيار ألفاظه ومعانيه سالكاً أحياناً مسلك التكرار المخل فانظر مثلاً إلى كلمة (طلل) كم كانت ثقيلة على المسامع، وانظر مثلاً إلى كلمة (الربع) و ( مرابع ) و (مربع ) و( أربع) وقد كررت كل هذا التكرار في قصيدة لم يتجاوز عدد أبياتها عشرين بيتاً، وكذا إلى كلمة (يحاكي) فقد كررت أكثر من مرة، وهو مما يضفى على أذن السامع نوعاً من الممل والضجر. هذا وقد أعطى للمكان والزمان وجوداً فنياً يعادل وجودها الحقيقي الواقعي، يقول الشاعر:
به صادحات الورق تصدح في الضحى تنادي هديلاً بين أدواح أجرع
وبت بليلٍ نابغي كأنني ظبية شرك فرخها وسط بلقع
ويلاحظ ورود بعض مصطلحات الهندسة والتنجيم، وهو ما يدل على سعة ثقافة الشاعر ومعرفته بمصطلحات العلوم المختلفة؛ لا بل نجد براعته الحسابية تسطع في قصيدته التي قسَّم فيها الجمال تقسيماً خماسياً؛ فجعل لكل قسم مراتبَ وأعداداً، الأمر الذي دفع الأستاذ علي المصراتي إلى أن يزعم معلقاً بقوله(19): وهذه تقاسيم عجيبة سار فيها الشاعر على منهاج ما أظن أحداً من الشعراء قبله قسَّم هذه القسمة وعدَّد ذلك العدد. اه.
يقول الشاعر معبراً عن خماسية يورثها الحب:
وأورثني خمساً سهاداً وحسرة ووجداً وسقماً زائداً وتألماً
كما يطلب منه خمساً ويخالفه في خمس قائلاً:
سأطلب منه خمساً، طاعة ورضاً وداداً، وعطفاً ثم وصلاً مسلماً
أخالف خمساً فيه أهلي وأهله رقيباً وعذالاً، كذلك لُوَّما
هذا وإنني لا أجد في شعر الشكوى ولا شعر المديح خيالاً خصباً وعميقاً يشبع نهم النفس برغم أساليب الاستفهام والنداء والأمر. كما أنني أملس أن مديحه جاء غير مستوفٍ لمعانيه. وهذا ربما يرجع إلى أن فن المديح لم يكن يستهوي الشاعر كما كان يستهويه فن الغزل؛ وذلك لتعفف نفسه عن الطلب والسؤال كما صرَّح هو ذاته.
الصورة الشعرية
يعد التصوير الأداة البارزة التي اعتمد عليها الشاعر في التعبير عن أبعاد وجوانب تجربته الشعرية، فبواسطة الصورة شكَّل أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل فني محسوس، وبواسطتها أيضاً صوَّر رؤيته الخاصة للوجود وللعلاقات الخفية بين عناصره، وعن طريقها تمكن من التأثير في نفس المتلقي وإثارة مشاعره وانفعالاته، وخلق جواً من الجمال الذي يطيب للنفس البشرية أن تتملاه برؤاه الحالمة المعبرة.
والصورة الشعرية تبقى ذلك الممثل المكاني للمشاعر العاطفية، و الصدى الحقيقي لِمَا يعجّ في النفس من هموم والآلام وتشاؤم، وذلك عبر وسائل تصويرية، كالتشخيص والتشبيه والاستعارة والمجاز، وهذه ذاتها التي استعملها شاعرنا على تشكيل صوره الشعرية. ولنبدأ بالتشخيص الذي يعد وسيلة فنية تقوم على أساس تشخيص المعاني المجردة ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات حية تحس وتتحرك بالحياة، وتوحي بالفرح والسرور والولع. ويظهر هذا في قول الشاعر:
بلى إن دهري والع بتبددي إلى الله أشكو من زمان به ولعُ
فلقد شخَّصَ الشاعرُ الدهرَ، أي الزمن في صورة إنسان حيّ متحرك كامل الإدراك والوجدان، ثم خلع عليه صفة وجدانية من صفاته ألاَ وهي الولع؛ فطفق الدهر كائناً حيّاً تتفجر من قلبه الأحاسيس تفجراً، ويتدفق منه الولع تدفقاً. والشاعر أراد في هذا أن يؤكد على قسوة الزمن الذي جاء فيه وقسوة أهله وأناسه حينما باتوا مولعين بتفرقه وتمزقه وتشتت عقله وروحه؛ الأمر الذي دعاه إلى الشكوى من زمن ماتت فيه الروح ومات فيه الفكر والإحساس.
وإلى صورة أخرى تبدو في غاية الجمال الفني، بل وكأنما رُسمت بريشة فنان بارع أفرغ فيها كل فنه وإبداعه؛ فبدت لوحة معبرة عن إنسان بلغ به الحزن والوجع مداه، حتى إنه قد لبس الحزن والألم لباساً كما يلبس الثوب. فلقد استعار الشاعر اللفظ الدال على المشبه به وهو اللبس للمشبه وهو الانغمار في الأحزان، ثم اشتق من اللبس الفعل (تسربل ) وجاء بقرينة عقلية دلت على أن الأحزان لا تلبس، إنما الذي يلبس الثوب. وأترك لخيالك الواسع أن يتملى الشطر الآخر من البيت، قال الشاعر:
وأحزان يعقوب تسربلت درعها وحيك فراش من سلالة أدمعي
ولئن كانت قصيدته الأولى لم تحلق في سماء الإبداع والتخيّل الفني كثيراً، فإن قصائده الأخرى بلغت مرحلة من السمو الجمالي التصويري المليء بالصور واللوحات الفنية الرائعة. نعم، لقد أودع الشاعر كل ما يملكه من مهارات ومن أدوات الجمال كالتشبيه والتصوير والاستعارات في شعره؛ معتمداً عليها في تشكيل الكثير من صوره، وفي التعبير عن مشاعره وخواطره؛ حتى غدت اللون الفاقع؛ ليثبت أنه شاعر صنعة.
ومن نماذج إبداعه هنا نجده يمضي في تشبيه نفسه بظبية تتخبط هي وصغيرها في شرك الخديعة، كتعبير عن مرحلة العجز والضعف التي ألمت به وعصفت بعمره؛ لا بل وربما ألمح إلى أمر الوشاة الذين أفسدوا عليه حياته كما توحي كلمة (شرْك) فقال:
وبتّ بليلٍ نابغي كأنني ظبية شرْك فرخها وسط بلقع.
وانظر إلى روعة التشبيه البليغ وهو يضفي وشاحاً من الجمال والرونق في قوله مخاطباً حبيبته:
يهتز من مرح الشبيبة قل صاً أنتِ غصنُ البان إذ يترنح
وإذا بدا القمر المنير ووجهه لم أدرِ أيَّهُما وحقك أملح
ويشبه ممدوحه بالحسام قائلاً:
أتيت وجيش الهم جرَّ خميسه فقهقر جبناً من حسام مروع
ففي كليهما عمد إلى التشبيه من غير ذكر أداة التشبيه، وذلك لتأكيد الادعاء بأن المشبه عينُ المشبه به، وهذا ما يُسمى تشبيهاً مؤكداً؛ لأن الشاعر عمد إلى المبالغة والإغراق في ادعاء أن المشبه هو المشبه به عينه، ولذلك أهمل الأداة التي تدل على أن المشبه أضعف في وجه الشبه من المشبه به، وأهمل ذكر وجه الشبه الذي ينم عن اشتراك الطرفين في صفة أو صفات دون غيرها. وانظر هنا إلى شاعرية الصورة في غياب العنصر الخفي الذي يحتاج إلى تفكير عميق للوصول إليه واكتشافه، وهو ما يحقق لذة الاكتشاف لدى القارئ، قائلاً:
وبمهجتي رشأ أتاني زائراً متبختراً في رحلة من سندس
فقد خبأ حبيبته وراء ستار جميل، ستار الظبية الأنيقة المتبخترة؛ ليوغل بالفكر أيما إيغال في تملي الصورة المخبوءة. وفي صورة أخرى لا تقل جمالاً عن الأولى شبه أنينه وحنينه بأنين وحنين الناقة حينما تنزع إلى أوطانها أو أولادها؛ فتطرب بصوت رخيم تتجلى فيه أبهى مظاهر وصور الحنين والاشتياق، ثم استعار اللفظ الدال على المشبه به (حنَّت مطيتي ) للمشبه الحنين على سبيل الاستعارة التصريحية، قائلاً:
إليك أبا الأمداد حنت مطيتي وآمالها سفن وجسمي بموضع
وإلى فن الاختزال الذي أجاده الشاعر إجادة تامة في مثل هذا الموضع، فنراه قد اختزل كل همومه ومشاعره الفياضة في كلمة (سئمت)، هذه الكلمة التي تعني في أجراسها وإيقاعاتها كل هذا النزوع الرومانتيكي الذي انطبقت فيه صورة اليأس من الحياة كل هذا الانطباق !. أما المجاز فيأتي دوره المهم في الإيحاء بالموقف الشعوري إلى جانب الاستعارة والتشبيه والكناية، إذ كان الشاعر يستوفي من خلاله حظوظاً مختلفة من الجمال في عباراته وصيغه، وهي صور بعيدة لا تقع إلا في ذهن يكثر من التخيل والإغراق في التصور، ذهن يتعمق في الأشياء والمعاني حتى يتخيلها أحياء حقيقية، فهو مثلاً يسند العلم إلى الأيام والدهر، وهو إسناد مجازي، وأمر معنوي نشعر به ولكن لا نحسه، إذ الأيام فاعل غير حقيقي، والذي سوَّغ للشاعر مثل هذا الإسناد العلاقة الزمانية؛ لأن الأيام أوعية وظروف يحدث فيها العلم، والقرينة عقلية. وفي هذا قال الشاعر:
متى تعلم الأيام والدهر مدحتي لكم ترعوي عني وترثي وتضخع
وتحس بأن الشاعر يعبر عن شعور ممزوج بالخوف تارة وبالفرح تارة أخرى، إنه توجس من نوعٍ ما لدى الشاعر لم يُرد هو الإفصاح عنه نهائياً، إنما ترك مصيره للأيام والدهر. ولعل هذا البيت والذي قبله يصور الجو النفسي للشاعر خير تصوير، إنه الجو الذي يبحث عن العزاء في كل شيء.
إلى جانب هذا استعمل الشاعر بعضاً من الكنايات وبالأخص حينما أراد أن يعبر عن كثير مما يتحاشى التصريح به؛ فتجد نفسه الطريق الآمن، والمسلك الخالي مما يسبب له كل هذا. كما في قوله:
إليك أبا الأمداد حنت مطيتي وآمالها سفن وجسمي بموضع
وقوله:
يحاكيني إذا شط عني وليتهم وقد خلفوا جمر الغضا بين أضلعي
وقد حاول شاعرنا أن ينمَّق من شعره ويضفي عليه لوناً من الزخرفة والتنويع وهو ما انعكس على ورود بعض المحسنات البلاغية خاصة في شعر الغزل؛ اللفظية منها والمعنوية كسمة من سمات القرن الخامس في الأندلس كما هي عند ابن دراج وابن شهيد. وذلك كالجناس في قوله:
بلى إن دهري والع بتبددي إلى الله أشكو من زمان به ولع
وقوله:
وما بطرفك من كحل ومن كحل وما بقدك من ميل ومن ميد
قد كان لي كبد بالشوق آهلة واليوم أصبحت ذا شوق بلا كبد
وقوله:
وحياة وجهك يا حياة الأنفس لا حلت عنك أسأت لي أو لم تسي
وقوله:
قد حاز خمساً رقة ولطافة وحسناً، وإحساناً، ثغراً تبسماً
والطباق في قوله:
إني لأحزن حين تعرض نائياً عني، وأطربُ إذ أراك وأفرحُ
وفي قوله:
تحاكي نوالاً لاح من كف أحمد يقسمه ما بين كهل ومرضع
الموسيقى
لم يتجاوز شاعرنا عدداً معيناً من الأوزان الخليلية التي صبَّ فيها قصائده، سواء ما كان منها في الشكوى المديح، أو الغزل، فهو موزع بين ثلاثة أبحر تبدو من الأوزان التقليدية ذات الإيقاع الرصين والنبرة الخطابية التي وجدت بالشعر القديم كثيراً، وهي: الطويل، والكامل، والبسيط. ولقد اختار لشعر الشكوى والمديح البحر الطويل، واستخدم لشعر الغزل البحر الكامل والبسيط. ولاشك أن ثمة علاقة بين البحر وغرض القصيدة ومستواها الدلالي، لا سيما إذا عرفنا أن البحور عبارة عن أشكال عروضية، وكون البحر مكوناً من تفعيلتين مختلفتين فهذا يوحي بالاختلاف والتباين في العواطف التي يشكو منها الشاعر. ويبدو أن اختياره للبحر الطويل في قصيدتي الشكوى والمديح جاء من جهة كون هذا البحر قادراً على استيعاب الحال النفسية التي يمر بها الشاعر، ومن جهة أخرى رغبة منه في إيجاد فسحة من القول يعبر فيه عن مشاعره الجياشة وعواطفه الفياضة التي تتفجر كالنبع. وقد اعتمد شاعرنا كثيراً على هذا البحر بحر الفخامة والجزالة.
ولم يختر الشاعر في كل قصائده إلا التزام القدماء في المحافظة على استخدام تفاعيل البحر تامة، سواء منها البحر الطويل، أو البسيط، أو الكامل. هذا وقد جاءت تفعيلات البحر الطويل مقبوضة العروض والضرب معاً، والقبض(20) هو حذف الخامس الساكن؛ لتصير “مفاعيلن” “مفاعلن”. ومثاله قول الشاعر:
ألاَ هل ترى العين الألى قبل ودعوا وهل سيل أجفاني التأرق والهمع
حشو عروض حشو ضرب
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعول مفاعلن
أما تفعيلات البحر البسيط فقد دخل حشوه نوعين من الزحاف هما: الخبن، وهو حذف الثاني الساكن؛ لتصير “فاعلن” “فعلن”، ودخل الخبن أيضاً في “مستفعلن” فحذف منها السين؛ لتصبح “متفعلن”. والنوع الثاني: الطي، وهو حذف الرابع الساكن، ويدخل هذا الزحاف في مستفعلن كذلك، ولكن في موضع آخر حيث تحذف الفاء؛ لتصبح التفعيلة “مستعلن”. وقد استعمل الشاعر هذا البحر تاماً، أي بثماني تفعيلات جرياً على أصله، وحين يستعمل تاماً لا تبقى عروضه صحيحة، بل تتغير من “فاعلن” إلى “فعلن”، وضربه كذلك كثيراً ما يكون مثله. ومثاله قول الشاعر:
لقد حللت محل النور من بصري لا بل حللت محل الروح من جسدي
حشو عروض حشو ضرب
متفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
أما تفعيلات البحر الكامل فقد استعمله تاماً بتفاعيله الست، مع دخول زحاف الإضمار، وهو تسكين الثاني؛ لتصير “متفاعلن” “مستفعلن”، وغالباً ما كانت عروضه صحيحة، وضربه مقطوعاً على النحو الآتي:
قالوا العذار غداً لحسنك كاتماً هيهات وجهك بالجمال مصرّح
حشو عروض حشو عروض
مستفعلن متفاعلن متفاعلن مستفعلن متفاعلن متفاعل
أما القافية فقد التزم بها الالتزام التقليدي في الشعر القديم وكانت أشهر الحروف تردداً في قوافي قصائد الشاعر المقطعية هي: العين والدال والحاء والسين والميم. هذا وقد سعى في بعض قصائده إلى اختيار الإيقاع الداخلي والموسيقى الداخلية لإظهار مناخه النفسي، كما جاء في مطلع قصيدة الشكوى والأنين، حيث بدأ الإيقاع الحزين مع بدايات القصيدة. يظهر ذلك في المقاطع المتناغمة والحروف الكلمات المكررة والاستدراك والنفي؛ ليمزج بين الإيقاع النغمي والنفسي الحزين. والملاحظ فيما سبق أنه لا يخلو بيت من الزحافات وأهمها الخبن وهو حذف الساكن الثاني. وهذا النوع من الزحاف يوحي بالوجوم المغلف للأبيات..
الوصف
جالت عدسة كاميرا شاعرنا – في معظم أبيات شعره – تصف ما حولها من مظاهر الطبيعة، الجامد منها والمتحرك، ولا ننسى أن الشاعر استخدم الطبيعة في تحمل أحاسيسه ومشاعره الجياشة؛ لأن الطبيعة تبقى أم رؤوم تضم الشاعر في سويداء قلبها محققة له الفردوس الذي فقده، ومن هنا احتل الوصف مكانة كبيرة في شعره، كقوله مثلاُ يصف الطبيعة:
وزهر رياض مائس بين جدول به الماء منساب إلى كل ممرع
يحاكي جنى وردٍ نديٍّ بوجنة فباء بفضح في صدور ومشرع
ويقول:
سقا الحيا عذبات الرند من أضم حيث الظباء حمتها أعين الأسد
ويقول:
وهل تبلغ نفسي الأماني برهة وهل يسرج الإحلاك من ليلنا شمع
أو الموت أدنى من لبانة قاصد يسامره جنح الدجى الشعر والدمع
ويقول:
على الغيث شبه من نداه كأنما يمر يداً فوق السحاب المرفع
ألا فاعجبوا من أربع وملاعب سحائب سيب منه ليس بمقلع
ويمضي واصفاً الحمام بقوله:
به صادحات الورق تصدح في الضحى تنادي هديلاً بين أدواح أجرع
يحاكينني إذ شط عني وليهم وقد خلفوا جمر الغضا بين أضلعي
هذه الأوصاف المتعددة الملونة من وصف الحمام صادحاً والذي يعكس اشتياق الشاعر الشديد إلى مستقبل واعد يحقق فيه أمانيه، إلى الإسراف في وصف الدموع المنهمرة كل هذا الانهمار المبالغ فيه، والذي يناسب طبيعة الإنسان البدائي، كون هذا الإنسان مطبوعاً على سجيته وهو ما جعله صادقاً في حال الأسى، ومن جهة أخرى؛ لكونه يطابق واقعه النفسي الشجي. إلى وصف الشاعر الليل كعادة الشعراء، وهدفه في ذلك الربط بين السكون الذي يحسه في نفسه وبين سكون الليل، بين الوحشة التي تغمره ووحشة الليل، بين الحياة التي تنبض في عروقه والنجوم الحية النابضة في سديم الليل وقد صاحبته موسيقى ثقيلة بطيئة حزينة، إلى وصف المطر والغيث وسحبه ووصف رياضه وجداوله كأنما يريد أن يتسلى عن هذا الألم الذي يؤرقه.
وقد نحا في وصفه هذا نحواً قدَّم فيه الأشياء التي وصفها كما هي – كما لو كان رسَّاماً – على غير النحو الذي يعتمد في الوصف على سرحان الفكر بعيداً عن هذه المناظر، وحينها تنبسط الأفكار؛ لتتخطى الأحاسيس الحاضرة إلى الأحاسيس الماضية. وبدا الشاعر في أحيان كثيرة متأثراً بوصف القدماء، خاصة في ربطهم بين جمال الظباء وجمال النساء؛ فكثر استدعاء مثل هذه المناظر الخلابة؛ لتزيد من متعة التملي والنظر.
وجاء وصف الشاعر للمرأة في شعره الغزلي مهتماً اهتماماً ظاهراً بوصف المظاهر الخارجية للجمال كالثغر والطرف والشعر والجسم والخد والريق والوجه. ولم يذهب بنا الشاعر مذاهب أخرى في الوصف كامرئ القيس، وأبي نواس، وغيرهما، ربما انطلاقاً من ثقافة الشاعر الملتزمة.
وأعود؛ لأؤكد أن قصائده الغرامية هذه لم يكن فيها ممن شغف الحب قلوبهم، إنما هو يتغزل؛ كي يرضي سامعيه، لا كي يرضي نفسه، أو يتغزل أخذاً بتقليد متبع كزهير بن أبي سلمى نموذجاً، أو يتحدث في ذلك مترسماً سنناً موضوعة؛ كي يظهر قدرته على التصوير الفني من جهة، ومن جهة أخرى؛ كي يثبت أنه شاعر يعرف كيف يصور العشق.
لغة الشعر
تعد اللغة بنية الخطاب الشعري ومادته الخام، وهي في الوقت ذاته مخزون تاريخي واجتماعي يصب فيه فكر الإنسان وتطلعاته وهمومه، ويعكس الشعر من خلال مناخه الروحي المرتبط بالطاهرة الاجتماعية والنفسية. وقد وفق الشاعر في أن يستخدم معجماً شعرياً يلائم عالمه القلق أحياناً والسعيد أحياناً أخرى. فانظر إلى كلمة (سئمت) على سبيل المثال، تجدها شديدة الدقة في التعبير عن حال الشاعر الذي مل طول البقاء والتجارب، وهي توحي باليأس في أوجه.
وها هنا إحصائية لمعظم المفردات ومصادر الأفعال التي دار شعره في نطاقها: (لبانة، الدجى، الولع، الجيرة، تقضى، الربع، المرابع، المربع، الأربع، الذرع، التعريج، الطلل، الكمي، المنى، التمائم، صادحات، الهديل، أجرع، الغضا، نابغي، ظبية، بلقع، تسربل، الدرع، مائس، ممرع، الوجنة، الاجتناء، المقلة، السهد، مصرع، ديمة، تهمي، نوالاً، سيب، سميدع، النقش، الشكاسة، الخميس، الحسام، المطية، حنت، ترعوي، تخضع، المفتر، المبسم، البرد، الكحل، القد، الميد، الرند، أضم، العذبات، الجوانح، جنح، العذار، أسمح، القلص، البان، الحلف، الكنس، رشأ، دبَّ، مقندس، ديباج، مدمن، الخمر، المبسم، الليل، الروح، النوم، الأسد، الظباء، الشوق، الكبد، النجم، الرصد، الياقوت، الخدود، الجمال، التصبر، أطرب، الغصن، الغرام، العشاق، السلوى، الشبيبة، التسلي، الأنفس، الطيف، الجميل، المسرة، الأحداق، الحديقة، النرجس، السندس، الأطلس، البدر، القمر، المنير، اللطافة، الحسن، الإحسان، الرونق، السنا، الرقة، التبسم، البياض، الحمرة، الخال، النار، الفتنة، الغزل، المسك، والشهد، الدرّ، الشمس، العجب، الدلال، الماس، اللفتة، الدعج، السحر، الصدغ، العزة، الملك، الحظ، القسوة، الغضب، القلى، الجفاء، الهجر، الحسرة، الوجد، السقم، التألم، الطاعة، الرضا، الوداد، العطف، الوصل، العذال، اللوم، الجود، الندى، التقى، الهدى، السؤدد، الأنام، السمو).
وقد جاء استخدام الشاعر لهذه المفردات ومصادر الأفعال موفقاً في معظمه، تلمس فيه البساطة، والدقة، والوضوح. فانظر مثلاً إلى العذوبة في قوله:
يهتز من مرح الشبيبة قل صا أنت غصن البان إذ يترنح
أو إلى قوله:
باب التسلي عن جمالك مغلق حكم الغرام بأنه لا يفتح
وانظر إلى الوداعة في مثل قوله:
أمَا ومبسمك المفتر عن برد وما بثغرك من خمرٍ ومن شهد
وما بطرفك من كحل ومن كحل وما بقدك من ميل ومن ميد
وانظر إلى الدقة في جرس الفعل وإيقاعه ( أتزحزح )، وإلى التضعيف في الفعل ( تحيَّر )؛ الذي يوحي إلى عمق شرود العقل والفكر برؤيته مثل هذا الحسن في قوله:
لا تخش سلواي عليك فإنني عن رتبة العشاق لا أتزحزح
أرأيتَ خطاً لا انتهاء لحسنه فقلد تحيَّر فيه كل مهندس
وإلى جانب هذه الدقة نلحظ مدى سعة ثقافة الشاعر وسعة اطلاعه على علوم عصره من هندسة وفلك وحساب. كما لا أنسى أن أشير إلى تأثر الشاعر الكبير بمصطلحات الشعر القديم ومفرداته والتي لم يحالفه الحظ في استعمال بعضها كما في كلمة (طلل)، (نابغي) و (مقندس). يقول الشاعر:
لك الخير عرَّج بي على طلل الربع محط المنى مغني الكمي المقنع
وبت بليل نابغي كأنني ظبية شرك فرخها وسط بلقع
وفي قوله:
دب العذار بعارضيه وإنني لأحب ديباج الخدود مقندس
الأسلوب
مال الشاعر إلى استعمال أسلوب المونولوج(21)، أي المناجاة في شعر الشكوى والأنين، وهو ذلك النوع من الشجن الداخلي الذي يقوم على الاستفهام بأنواعه، والذي عكس بوضوح العلاقة المتأزمة بين الشاعر ونفسه، وما نجم عنه من انشطار نفسي تعانيه الشخصية في لحظات تأزمها وشعورها بالاستلاب؛ فكانت المناجاة اللغة الممكنة حين تصل الأزمة ذروتها، وهو في الوقت ذاته يكشف عن النفس القلقة التي تحاول أن تفتح أمامها آفاق الروئ في هذه الحياة من أوسع أبوابها. ويبدو أن المتكلم في القصيدة وهو الشاعر، يوجه الخطاب إلى شخص معين، أو أنه مجرد إيحاء فني وبالتالي لا يخاطب الشاعر إلا نفسه، مختلقاً الموقف والمخاطب وهي طريقة مألوفة في التعبير اصطلح عليها علماء البلاغة بالتجريد(22).
وقد نوَّع في أسلوبه بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية، لذا نراه تارة يفتتح مطلع قصيدته في المدح بقوله (لك الخير) وهذه الجملة جملة خبرية قدم فيها المسند على المسند إليه للاختصاص، أي أن الخير لك وحدك، وانظر إلى الجملة الخبرية في قوله (أديب، أريب) حيث حذف فيها المسند إليه أي: (وهو أديب أريب)، وذلك ليجعلنا الشاعر نفاجأ بهذه الكلمة مفاجأة وكأننا نفاجأ بمقدم إنسان عزيز !!. أما الجمل الإنشائية فاستعماله لها جاء فيما يبدو؛ لتوشيح معانيه في البوح بالقلق النفسي الذي سيطر على حال الشاعر.
وعموماً فإن أسلوبه يتسم بالإيجاز، حيث لا تطول جمله، ولكنها تؤدي المعنى المقصود في بساطة وعفوية، وكذا بالتنويع، فبعد أن يكون جارياً على الأسلوب غير المباشر كما في افتتاحيته، نراه يتوسل فجأة بالأسلوب المباشر وهكذا دواليك. كما نجد التنويع في أسلوب الالتفات، فقد التفت من ضمير الخطاب إلى الغائب والعكس، وهو التفات في محله يعبر عن افتقاده ويوحي بتشتته النفسي والروحي.
وقد جاء أسلوب التقديم والتأخير في التراكيب معززاً آخر في اللغة الشعرية ينبض بها النص فهو وسيلة للتشويق، كما يعطي بعض الألفاظ بروزاً تعبيرياً، إذ جاءت هذه الألفاظ متأخرة عن محلها الطبيعي ومتوافقة مع تفعيلة القافية. وتبرز بعض الألفاظ بروزاً تعبيرياً هاماً في مجيئها أولاً: متأخرة وحقها التقديم، وثانياً: كونها وقعت في القافية، الأمر الذي يدفع عن المتلقي رتابة التركيب العادي. كما اتسم جلَّ أسلوبه بالواقعية إذ كل لفظ مرتبط بالمعنى مباشرة فأنت ترى المعنى مجرد رؤيتك اللفظ أو التعبير. ومهما يكن من أمر فإن عبارة القصيدة تقتضي أثر التجربة فهي تشف وترق حين يعمد إلى الأفكار وحين تستولي عليه الرؤيا كما في وصفه للهموم، وتتهجم وتخشوشن وتغدو ألفاظاً صحراوية جافة المخارج غامضة الدلالة حين يلم بمشهد حسي.
__________
1. انظر: نفحات النسرين، للأنصاري. ص/48– والجواهر الإكليلية، للشريف، ص/224.
2. انظر: مجلة البحوث التاريخية ( الحياة الثقافية في ليبيا في عصر ابن غلبون ) لحاجيات [العدد الأول، يناير، 1982]
3. تنظر قصائد الشاعر في كل من: أعلام من طرابلس، للمصراتي. ص/207 وما بعدها، والتذكار، لابن غلبون. ص/204 وما بعدها.
4. سجيس الليالي: الدهر كله.
5. الكمي: الشجاع.
6. الوُرق: الحمام.
7. أجرع: المكان الواسع.
8. البلقع: المكان الخالي.
9. ديمتها تهمي: المطر ليس فيه رعد ولا برق، وتهمي تسيل وتصب.
10. السميدع: الكريم الشجاع.
11. القد: القامة والجسم.
12. عذبات الرند: أغصان نوع من الشجر.
13. العذار: الشعر.
14. ظباء كنس: الظبي يدخل في موضعه في الشجر يستتر فيه.
15. الرشأ: الظبي إذا قوي وتحرك.
16. مقندس: سارياً.
17. جآذراً: البقر الوحشي.
18. الدعج: شدة سواد العين.
19. انظر: أعلام من طرابلس، للمصراتي. ص/211
20. انظر: علم العروض والقافية، لعتيق. ص/28.
21. انظر: لغة الشعراء، لرجاء عيد. ص/46. 22. انظر: معجم البلاغة العربية، لطبانة. [1:138]