التيه في ألوان الدهشة
إن مجرد محاولة المرء لأن يقتحم عالم أحمد يوسف عقيلة (القصصي) بكل خباياه ومفارقاته وآلامه وقفشاته وأشجانه لكي يتبين ملامحه الأساسية على الأقل، هو أمرٌ مُربكٌ ولا شك. وأنا شخصياً أرى أنه من الأجدى بدلاً من صياغة أية قراءة في أدب أحمد يوسف عقيلة أن يُرخي المرء العنان لذاته تتحسس ما تنقشه يراعة أحمد يوسف عقيلة على جدران الوجدان الإنساني من بوح، لأن يراعته هي الأقدر والأجدر بتوصيل وتوصيف عوالم الحلم والألم والفرح والبؤس والرعب والحب وكل لواعج الذات. لاسيما إذا كان من يريد اقتحام ذلك العالم راغباً افتضاض قدسيته الغامضة قصير الباع مثلي، خصوصاً إذا ما قورن بقامة سامقة من طراز (أحمد يوسف عقيلة).. لكن وعلى أية حال، وانطلاقاً فقط من أننا أحرار في أفكارنا وما نكتب بغض النظر عن قيمته، فإنني سأتحدث الآن عن (الحرباء).. المجموعة القصصية الخامسة لأحمد يوسف عقيلة حسب علمي.. محاولاً استجلاء واستظهار ما أوقعني فيه هذا الكاتب (الظاهرة) من تيه لذيذ في فضاءات الألوان، ألوان الأمكنة والأزمنة والوجوه والأشياء.. حيث أعتقد جازماً أن اختيار اسم (الحرباء) إحدى القصص بهذه المجموعة كعنوان لها لم يكن وليد الصدفة وحدها. تماماً كما هو الأمر مع كل لفظة وجملة ومشهد وشخصية وتفصيلة من تفاصيل قصص هذا الكاتب. لأنه لا يجب أبداً أن نحمل مقاصده فيما يكتب على افتراض (حسن النية) أو على مجرد الانجرار وراء السياق. إلى الدرجة التي أحسب معها أن أحمد يوسف عقيلة – وبدون مبالغة – يتعمد كل شيء فيما تنتج أنامله بما في ذلك النقط والفواصل والأقواس وكل علامات الترقيم بل وأرقام الصفحات؟!.. ولكي أترجم ما أردت قوله هنا بكلمات أخرى فإنني سأقول: أن التنوع كسمة من سماتالنتاج القصصي لهذا الرجل تتجلى بكل وضوح ليس فقط بين قصة وأخرى، بل أننا نصادف هذا التنوع في داخل (سياج) القصة الواحدة.. مما ينفي البتة أن تكون الحروف التي يستعملها في حياكة هذه اللحظات التي تدثر أحداقنا ونحن نقرأ له هي ذات حروف اللغة التي نعرف، أو على الأقل أنها لاتشبه الحروف التي نعرف سوى من حيث رسمها.. ولعله بإطلاق هذه التسمية على مجموعة (الحرباء) أراد أن يوحي إلينا بهذا المعنى الخفي (معنى التنوع).. كتنوع ألوان الحرباء ذاتها.. وهأنذا أتذكر الآن تماماً – تأكيداً لما أوردته – وفي نفس هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، تلك العبارة التي أرسلها إليَّ أحمد يوسف عقيلة في رسالة على هاتفي (الجوال) بعد فترة من إهدائه إياي نسخة من مجموعتة القصصية (الحرباء) قائلاً:
” أرجو أن تكون مستمتعاً بألوان الحرباء “..
عن ماذا سأتكلم وأنا أحاول تتبع خيوط الأحداث والزمن والملامح فيما يتناوله هذا الكاتب؟ بالتأكيد أنني لن أتكلم عن لغته الجديدة الغضة وكأنها بواكير ثمار قطفت لتوها ولم تمسها يدٌ ولو لمجرد إزالة غبار الحقول عنها.. ولن أتكلم أيضاً عن أسلوب كتابته الأنيق المتلاحق المقتضب.. الزاهد إلى حد الرهبنة.. المختزل إلى حد الإعجاز.. الساطع إلى حد الإبهار..
كما أنني لن أتكلم عن حجم الدهشة التي يستطيع خلقها باقتدار وفق معادلة دقيقة عثر عليها تتكون من متغيرات شتى منها توظيف التراث الشعبي لبيئة (بكر) تركت بصماتها واضحة بين تلافيف ذاكرة طفل عاش هناك يدعى: ” أحمد يوسف عقيلة “.. قافزاً بذلك فوق فخ التسطيح والإسفاف. ولا أنا سأتكلم عن مدرسة جديدة استطاع وضع أساساتها في هذا الجنس الأدبي من الكتابة الذي ينزع دائماً إلى التطور وعدم الإستقرار باعتبار أن القصة لا تحدها أشكال مقولبة تحاصرها كما (القصيدة) ولكنها تعكس غالباً شكلاً متفرداً حسب كل قاص مما أضفى عليها تغيراً مستمراً.. ولا عن البساطة (المعقدة) في البناء القصصي واستنطاق الشخوص وعوالم النبات والحيوان والأجرام السماوية.. إلى الدرجة التي نظفر معها بدلالات مختلفة ومتباينة تشاكسنا وتستفز أذهاننا ويخوننا معها ذكاؤنا من أية زاوية نظرنا منها إلى بناء تراكيب أحمد يوسف عقيلة الحبلى دائماً بمعانٍ متجددة ومتناسلة !. ولا عن عالميتة أوإنسانيتة المنبثقة من رحم محليته وانغماسه وانهماكه فيما لا يتجاوز حدود قريته.. ولا عن.. ولاعن.. ولا عن.. ولكنني سأكتفي في هذه القراءة المتواضعة لقصص (الحرباء) التسع والعشرين بمحاولة تتبع مزية أعتبرها من أهم مزايا كتابات أحمد يوسف عقيلة، ألا وهي (كشف الكوامن المتمردة على المألوف في النفس البشرية).. فعند تتبع هذه السمة وتلمسها بين ثنايا قصص (الحرباء) وفي ملامح شخوصها، نجد أن أحمد يوسف عقيلة يحاصرنا بحقائق ذواتنا وكنهها الذي كثيراً ما نود إخفاءه عن الآخرين.. يجعل نوازع الشر التي لا تخلو منها نفس الإنسان والتي تراوده عادةً عندما ينظر في صمتٍ إلى الآخرين أو إلى (الأخريات) تطفو وتظهر في تصرفات أبطال قصصه وعلى ألسنتهم.. يجبر الصفات الإبليسية التي غالباً ما نجهد في تمويهها في دواخلنا وإخفائها بتقمص وإظهار أضدادها من الصفات الملائكية في جُل أقوالنا وأفعالنا، يجبرها على أن تتعرى وتنكشف ببهائمية الإنسان البدائي الأول.. وإن أردنا تهذيب الألفاظ فسنقول بطفولية الإنسان وعفويته وسليقته.. ففي حوار التنور مع الرغيف داخل أولى قصص المجموعة نجد:
– دعنا من هذا.. وقل لي: لماذا تلتصق فيَّ بقفاك..؟!
معنىً لا يخلو من البذاءة لا أشك أنه أول ما يتبادر إلى ذهن كل إنسان كلما اجتمع في ظروف قاهرة مع آخر لايروقه الإجتماع به حتى وإن حاول إظهار العكس.. وهذا هو ما رميت إليه بقولي (الكوامن المتمردة على المألوف).. فالمألوف والمتعارف عليه هو كتم وكظم مثل هذا التعبير في مثل هذا الموقف. لكن ألا ترى أن التنور هنا قد عبَّر تماماً عما يشفي غليلك تجاه هذا المشهد لو أنه حدث معك؟. أن التنور صاغ سجية النفس كما هي عليه دون مواربة؟. وفي ذات هذا الإطار (إطار البذاءات المكبوتة) نجد في قصة “نزغات الملائكة “:
– كنت أنظر بين فخذيه وتساءلت:
– الشيطان له عضو؟
وانهالت تصورات رفاقي [… ] إلى آخر القصة..
وفي قصة ( الشاعر ) نجد:
– كثر الهمس.. والتلفت.. سرت الوشوشات:
– لا.. لا تقل ذلك.
– هل من المعقول أن الشاعر فقد عضوه..؟!
– لاحول ولا قوة إلا بالله.
– يا خسارة..!
[… ]
رويداً رويداً بدأت الساحة تخلو.. تسللت معجبات الأمس المتأوهات.. وبدت لهن قصائد الشاعر أكثر اعتيادا.. وبروداً..!
منتهى التحرر من أصفاد (المألوف).. كما يتكرر الأمر في مواضع كثيرة من المجموعة لا يتسع المقام لحصرها جميعها.
كامنٌ آخر من كوامن النفس يظهر على لسان الحرباء نجده في قصة (الحرباء) أجزم أنه وضع الكثيرين عراةً أمام المرآة:
– هل عليَّ أن أغيَّر لون جلدي في كل خطوة..؟! لا بأس.. جنادب السفح المقابل تستأهل العناء.. هل أسمع أحداً يعيب كثرة التلوُّن..؟
وتقابلنا ونحن نقرأ في مجموعة (الحرباء) العشرات إن لم أقل المئات من مثل هذه الإضاءات التي تضعنا أمام أنفسنا وجهاً لوجه.. وربما قد يتساءل البعض قائلاً: أليس الاقتصار على مجرد إبراز ما يخالجنا من نوازع الشر ومصارحتنا بها من خلال السرد لكي نرى ذواتنا كما هي، دون إبراز جوانب الصفاء والخير فيها يعتبر من الإجحاف وانعدام الحيادية والإنصاف؟. وإجابةً عن ذلك نقول: نعم.. نعم لو أن الكاتب عمد إلى ذلك فعلاً.. لكن الواقع أنه لم يفعل.. فهو وفي مواطن كثيرة من هذه المجموعة القصصية يصور لنا أدق ما ينتابنا من مشاعر الود والعطف والإصرار والشوق والصدق والحنين، لكنها ليست تلك المشاعر التي نفاخر عادةً بالتصريح بها.. بل هي تلك التي نخجل ربما أو نخاف أو نتردد في إظهارها للآخرين.. مما يجعلنا تجاهها كما هو الحال تجاه كوامن السوء في دواخلنا نقف وجهاً لوجه مع حقيقة أننا نحن هم نحن.! دون لثائم.. ولا أصباغ.. ولا أقنعة..
تخيل مثلاً مدى شعور الإنسان بالغبن والضربات تنهال عليه من كل جانب دون أن يكون قادراً على الرد. لا شك أن إصراره على أن يقاوم هذا الغبن وينتقم له يملأ عليه كيانه وإن لم يصرح بذلك. ربما كان الرد منه عل الأقل نظرة تحدٍ لإغاضة المعتدي.. تخيل لو أن كاتباً استطاع أن يجعلك أمام هذا الإحساس المعقد والمتداخل والدقيق وهو فقط يصوِّر لك حال شجرة (خروب).. عند أحمد يوسف عقيلة في قصة (الحطاب) نجد:
– على حافة الجدار الصخري المقابل غراب يرقب لمعان الشفرة.. وينتفض مع صدى الضربات.
– الخروبة لا تزال تلقي ظلها على الحطاب.. قطع النشارة تضيء عتمة الظل.. وبين لمعان الشفرة وصدى الضربة الأخيرة ترقد قرون الخروب مفترشةً القش انتظاراً لأول شآبيب الخريف.
ضاق المقام عن المزيد.. ولم نورد مما أردنا قوله شيئاً.. ألم أقل لكم عند بداية الكلام أنه من الأجدى القراءة لأحمد يوسف عقيلة بدلاً من الاستماع لما يقال عن كتاباته؟.. لكن السؤال الآن هو: ما الجديد الذي سيدهشنا به أحمد يوسف عقيلة قريباً؟.. وهل بقي من الإدهاش شيءٌ عنده حتى ننتظر منه المزيد؟..