المقالة

عندما تحكم النساء

“البط الأبيض يسير خلف رجل ممسك بعصا في أعلاها علم أبيض، إلى أن يبلغ حقلا من الأرز. وفيما تتواصل رفرفة العلم يثبت الرجل العصا في الأرض، ويترك البط يمرح ويقتات في مساحة محددة. في المساء يعود راعي البط، ويرفع العلم ويضعه على كتفه. ويتجه نحو مسكنه، والبط منتظم وراءه؛ كأنه طابور من البحارة في ملابسهم البيضاء”.

هذا المنظر البديع: طابور البط الأبيض يتبع الرجل، أو الصبي، الكبير المكتنز في مقدمة الطابور وخلفه الصغار، والعلم الأبيض يرفرف على كتفه، هو يشق البساط الأخضر، المنثورة فوقه الزهور الملونة البرية، والراعي يشم رائحة الأرض من تحت قدميه، ويسمع أغانيَ نسائية تصله من بعيد، من هناك من حيث يرتفع دخان مواقد العشاء، أمام أكواخ مزارعي الأرز.

هذه عينة من اللوحات التي يرسمها بقلمه الكاتب (جيمس ميتشنر) الذي توفي سنة 1997، بعدما أصدر حوالي 40 كتابا حصدت عددا من الجوائز، وهي متنوعة ما بين روايات، تحول الكثير منها إلى أفلام سينمائية وأبحاث ودراسات اجتماعيه، ومقالات منها ما كتبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. غير أنه أبدع في أدب الرحلات؛ فكتب: “أقاصيص من جنوب المحيط الهادي- العالم العالم- وصوت آسيا”. ولقد كتب عنه الأديب أنيس منصور، الذي أبهرنا برحلاته حول العالم في 200 يوم، صفحة كاملة في مقدمة طبعة الكتاب الثانية – الكتاب له 24 طبعة – وقال أنه أبدع أروع قصة حب من جزر هاواي.

3000 جزيرة اسمها اندونيسيا
لوحة البط هذه، من مقال عنوانه 3000 جزيرة اسمها اندونيسيا، تناول فيه بأسلوبه الساحر كل ما قد يحتاج المرء لمعرفته عن هذه الدولة التي تعد سابع دولة في عدد سكانها الذين تسودهم الروح الهندية، والتي يعد مسلموها الأكثر في العالم كله.

من جزيرة (جاوه) التي تعد أهم جزر اندونيسيا يقول (متشنز) لو انتقينا مزرعة صغيرة، لا تزيد عن نصف فدان؛ يديرها خمسة فلاحون ستجد أنهم ينتجون أكثر من حاجتهم ويصدرون الفائض إلى الجوار، وتنتج هذه المزرعة الصغيرة الكمثرى والبطاطا والموز والفول، وعلى جانبي جدول صغير تتزاحم فيه الأسماك، تصطف أشجار جوز الهند والمانجو والبرتقال. ففي الكيلو متر المربع الواحد يعيش في اندونيسيا الف نسمة، ليس بينهم جائع واحد.
أما جزر التوابل، التي تنتج أكبر كمية من التوابل في العالم، فهي التي جعلت ( فاسكو داجاما) يدور حول رأس الرجاء الصالح، وهي التي مكنت (كولومبوس) من اكتشاف أمريكا وهو يبحت عنها!.

ويصّر الإندونيسيون على فضح أساليب الهولنديين عندما حكموها، إذ يقول أحد رجال الدولة إنه كان مفروضا علينا النظر في الأرض عندما نتحدث إليهم، وكان محرما علينا أن نتحدث الهولندية، وأيضا لبس الحذاء، والسفر من أجل العلم. وقال: “حكمنا الهولنديون ثلاثة قرون، ومن بعد إجلائهم لم يكن في بلادنا البالغ تعدادها، آنذاك، 80 مليون سوى 70 مهندسا وتبلغ الأمية نسية 96% وعدد خريجي الجامعات لا يزيد عن 200 خريج ليس من بينهم خبير زراعي واحد، نبت في تربة بلادنا البركانية الخصبة، التي جعلت من بلادنا دولة زراعية بالضرورة. وبلادنا يحيط بها البحر من كل مكان ومع ذلك ليس لدينا قبطان واحد.

أما ما لفت انتباهي في هذه المقالة، التي لخصتها لكم، ووجدت فيها ما قد يساعدنا في تجاوز مصيبتنا الليبية الصرفة؛ هو أنه من قرية تعد الأشهر في اندونيسيا اسمها (كوتا جادانج) ظهر رجالات اندونيسيا، الذين بنوها؛ فمنها خرج الأدباء والفلاسفة، ورجال القانون، والاقتصاد والساسة الذين أذهلت فصاحتهم الأمم المتحدة. أما السر في ذلك، مثلما يقول البعض أن أبناء القرية أحبوا المدرسة، وبعض آخر يرجع ذلك إلى الهواء المنعش الذي تتميز به القرية، وغيرهم يرجعه إلى إكثارهم من أكل اللحوم!. ولكن السبب الحقيقي هو أن هذه القرية الصغيرة كانت تحكمها، دائما، النساء بإرادة حديدية في تربية الأبناء وفي حل التنازع بين القبائل، فتوفر الهدوء وتفرغت الفتيات للغناء والرقص، والفهم السليم. ولقد قال إندونيسي ساخرا: “إن عشت في قرية تحكمها نساء إلى أن تبلغ العشرين، فإنك بالضرورة تضاعف عملك لتهرب من حكمهن، وبعد ذلك تضاعفه حتى لا تعود إلى القرية مطلقا!.

أما العجب، أو قد يكون حقيقة لم ننتبه إليها، أن فلاحا اندونيسيا، قال: “لا توجد عندنا إلاّ جزيرة واحدة مسكينة بائسة؛ إنها جزيرة( بورنيو) فلا يوجد بها إلاّ الماس والذهب والحديد.. والبترول!”.

________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

سُــلْطَةُ الصُّــورَةِ!

خالد السحاتي

المثقفون وفن اللامبالاة..

عبدالله عمران

مذكرة إحضار (للفراشية*) !!

سعاد سالم

اترك تعليق