المقالة

سُــلْطَةُ الصُّــورَةِ!

ثَمَّةَ تَسَاؤُلٌ جَوْهَرِيٌّ مَشْرُوعٌ يَطْرَحُهُ العُنْوَانُ وَهُوَ: هَلْ غَدَا لِلصُّورَةِ اليَوْمَ سُلْطَةٌ حَقّاً؟، وَمَا طَبِيعَةُ تِلْكَ السُّلْطَةِ؟، تَكْمُنُ الإِجَابَةُ بِدَايَةً فِي تَعْرِيفِ السُّلْطَةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَالمَقْصُودُ بِهَا هُنَا ذَلِكَ النِّظَامُ المُشْتَمِلُ عَلَى النُّفُوذِ وَالسَّيْطَرَةِ وَالتَّأْثِيرِ مِنْ قِبَلِ طَرَفٍ مَا عَلَى طَرَفٍ آخَرَ، وَبِالتَّالِي تَمَّ اسْتِعَارَةُ جُزْءٍ مِنْ مُكَوِّنَاتِ ظَاهِرَةِ السُّلْطَةِ فِي مَدْلُولِهَا السِّيَاسِيِّ لِيَتِمَّ بِهَا تَوْصِيفُ تَأْثِيرِ الصُّورَةِ عَلَى المُشَاهِدِ أَوِ المُتَلَقِّي فِي عَصْرٍ أَصْبَحَ يَمُوجُ بِطُوفَانٍ جَارِفٍ مِنَ الصُّوَرِ المُتَعَدِّدَةِ المَلاَمِحِ وَالدِّلاَلاَتِ، حَتَّى غَدَا وَصْفُ ذَاكَ التَّأْثِيرِ بِأَنَّهُ سُلْطَةٌ تُمَارِسُهَا الصُّوَرُ عَلَى مَنْ يُشَاهِدُهَا، مُجَرَّدَ مُحَاوَلَةٍ لِتَوْضِيحِ طَبِيعَةِ تِلْكَ العِلاَقَةِ الفَارِقَةِ بَيْنَ الصُّورَةِ وَانْعِكَسَاتِهَا عَلَى طَرِيقَةِ تَفْكِيرِ وَسُلُوكِ المُشَاهِدِ أَيّاً كَانَتْ ثَقَافَتُهُ أَوْ جِنْسِهُ أَوْ عَقِيدَتُهُ.

إِنَّهَا سُلْطَةٌ رَمْزِيَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَلَيْسَتْ سُلْطَةً حَقِيقِيَّةً مَحْضَةً، فَالصُّورَةُ تُعِيدُ إِنْتَاجَ العَالَمِ فَتَغْدُو حَدَثاً مََحْسُـوساً مِمَّا يُقَوِّي مِنْ دَوْرِهَا، وَيَفْرِضُ وِصَايَتَهَا عَلَى المُشَاهِدِ الذِي تَبْتَلِعُهُ بِهَيْمَنَتِهَا، وَلاَ تَدَعُ لَهُ فُرْصَةً لِلتَّأَمُّلِ، وَلَقَدْ ذَهَبَ أَحَدُ المُفَكِّرِينَ الغَرْبِيينَ وَهُوَ “جي ديبور”، إِلَى القَوْلِ إِنَّ المُنْتَجَ الأَسَاسِيَّ لِلْمُجْتَمَعِ الحَدِيثِ (أَي الأُورُوبِيِّ الغَرْبِيِّ حَسَبَ رُؤْيَتِهِ) هُوَ مُجْتَمَعُ المُشَاهَدَةِ، وَالمُشَاهَدَةُ، تَبَعاً لِتَعْرِيفِهِ، هِيَ مَرْدُودُ الصُّوَرِ المُتَرَاكِمَةِ بِتَرَاكُمِ رَأْسِ المَالِ، فَمَا كَانَ مَادِّيّاً غَدَا تَمْثِيلاً لِلْمَادَّةِ، وَفِي ذَاتِ الصَّدَدِ يَذْهَبُ البَعْضُ إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ العَوْلَمَةَ مَا هِيَ إِلاَّ صَنِيعَةُ “الصُّوَرِ المُتَبَادَلَةِ” عَبْرَ الوَسَائِطِ الإِلكَترُونِيَّةِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ تَغَيُّرَاتٌ فِي وَسَائِطِ الاتِّصَالِ التَّقْلِيدِيَّةِ أَتَاحَتْ مَصَادِرَ جَدِيدَةً لِتَخَيُّلِ الذَّاتِ وَالآخَرِ، بَلْ إِنَّهَا لاَ تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ مُجَرَّدِ الاتِّصَالِ، بَلْ تُمَارِسُ التَّأْثِيرَ بِأَكْثَرِ الأَدَوَاتِ نُفُوذاً وَمَكْراً، وَهِيَ الصُّورَةُ، وَمِنْ ثَمَّ تُمَارِسُ إِعَادَةَ الصِّيَاغَةِ الثَّقَافِيَّةِ لِلْبَشَرِ تَبَعاً لإِرَادَةِ صَانِعِي الصُّوَرِ وَمُرَوِّجِيهَا.

وَقَدْ تَنَاوَلَ العَدِيدُ مِنَ الكُتَّابِ الصُّورَةَ عَلَى أَنَّهَا: “لَيْسَتْ سَابِقَةً عَلَى المُمَارَسَةِ الإِنْسَانِيَّةِ، بَلْ إِنَّهَا فِي المُمَارَسَةِ وَجُزْءٌ مِنْهَا، إِنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِخِطَابٍ إِنْسَانِيٍّ، يَجْنَحُ إِلَى مَنْحِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ أَبْعَاداً دِلاَلِيَّةً، تَتَجَاوَزُ الأَبْعَادَ المَادِّيَّةَ الوَظِيفِيَّةَ. وَرُغْمَ انْفِرَادِ الصُّورَةِ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الخَصَائِصِ الَّتِي تَجْعَلُهَا تَدْخُلُ طَبِيعِيّاً ضِمْنَ حُقُولٍ تَطْبِيقِيَّةٍ عِدَّةٍ، نَرَى أَنَّهَا مِثْلَ الكَلِمَاتِ لَمْ يَكُنْ فِي إِمْكَانِهَا تَجَنُّبُ الارْتِمَاءِ فِي لُعْبَةِ المَعْنَى، أَوْ فِي أَلْفِ حَرَكَةٍ تَأْتِي لِتُعَالِجَ الدِّلاَلَةَ فِي قَلْبِ المُجْتَمَعَاتِ”، فَمَهْمَا حَاوَلْنَا تَبْرِئَةَ الصُّورَةِ مِنَ القَصْدِيَّةِ أَوِ الدِّلاَلاَتِ الخَفِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَكْمُنُ وَرَائَهَا، فَإِنَّهَا تَظَلُّ فِي قَفَصِ الاتِّهَامِ، لِتُوَاجِهَ تِلْكَ التُّهَمَ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهَا عَلَى الدَّوَامِ، وَالَّتِي تَتَعَلَّقُ بِذَاكَ البُعْدِ القَصْدِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَلَفاً، وَإِذَا كَانَتْ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ تُغْنِي عَنْ أَلْفِ كَلِمَةٍ –كَمَا يُقَالُ- فَإِنَّ هَذَا يَعْنِي أَنَّ الصُّورَةَ تَتَكَلَّمُ، وَأَحْيَاناً تَصْرُخُ، حَتَّى وَإِنْ بَدَتْ فِي طَبِيعَتِهَا صَامِتَةً سَاكِنَةً. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، يَذْكُرُ ريجيس دوبريه فِي كِتَابِهِ “حَيَاةُ الصُّورَةِ وَمَوْتِهَا” قِصَّةً طَرِيفَةً عَنْ أَحَدِ أَبَاطِرَةِ الصِّينِ، الذِي طَلَبَ مِنْ كَبِيرِ الرَّسَّامِينَ فِي القَصْرِ أَنْ يَمْحُوَ الشَّلاَّلَ الَّذِي رَسَمَهُ فِي لَوْحَةٍ جِدَارِيَّةٍ؛ لأَنَّ خَرِيرَ المِيَاهِ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنَ النَّوْمِ. وَيَرَى دوبريه أَنَّ “الصُّورَةَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الدِّلاَلاَتِ تُمَارِسُ الفِعْلَ، وَتَحُثُّ عَلَى رَدِّ الفِعْلِ، بِوَصْفِهَا مِنْ وِجْهَةِ نَظَرٍ وَسَائِطِيَّةٍ تَحْمِـلُ كُـلَّ غُمُـوضِ المَنْهَـجِ الوَاقِـعِ بَيْنَ تَقَاطُـعِ مَعَـارِفَ عَدِيدَةٍ، كَتَارِيخِ الفَـنِّ وَتَارِيخِ الدِّيَـانَاتِ وَتَارِيخِ التَّقْنِيَـاتِ.

وَيُقَدِّمُ بَعْضُ البَاحِثِينَ تَوْصِيفاً لِلْمَشْهَدِ الكَوْنِيِّ فِي ظِلِّ سُلْطَةِ الصُّوَرِ بِقَوْلِهِ: “تَبَدَّى هَذَا المَشْهَدُ الكَوْنِيُّ كَمَا لَوْ أَنَّ الأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِغَزْوٍ مُؤَجَّلٍ، فَانْفَلَتَ مِنْ عِقَالِهِ فِي غَفْلَةٍ مُرِيعَةٍ مِنْ مَـشِيئَةِ المُقْتَدِرِينَ عَلَى أَمْرِهِ، هَكَذَا حَالُ العَالَمِ اليَوْمَ فِي مُوَاجَهَةِ سَيْلِ الصُّوَرِ، وَهِيَ تَجْتَاحُهُ تَحْتَ طَائِلَةِ الهَيْمَنَةِ وَالإِمبِرْيَالِيَّةِ الجَامِحَةِ لِجُنُونِهَا، تَأْتِي الصُّوَرُ لِتَنْتَقِمُ لِحُضُورِهَا ـ الغَائِبِ فِي غَمْرَةِ الزَّمَانِ المُنْقَضِي ــ لِتَسْتَيْقِظَ فَجْأَةً وَتَلْتَهِمَ العَالَمَ بِلَذَّةٍ، وَتُحَاصِرَ الكَائِنَ الإِنْسَانِيَّ بِطَرِيقَةٍ لاَ مَثِيلَ لَهَا”، كُلُّ هَذَا الصَّخَبِ الذِي يُثِيرُهُ وَهَجُ الصُّوَرِ البَرَّاقَةِ، المُلْتَقَطَةِ بِأَحْدَثِ العَدَسَاتِ الإِلكتْرُونِيَّةِ، وَالمُعَالَجَةِ بِتَقْنِيَاتِ الحَاسُوبِ المُتَطَوِّرَةِ، الذِي يَكَادُ يُصِمُّ الآذَانَ، وَيُعْمِي الأَبْصَارَ، يَبْدُو أَنَّهُ يَهْدِفُ إِلَى التَّأْثِيرِ عَلَى إِدْرَاكِنَا لِلْوَاقِعِ المُعَاشِ، وَطَرِيقَةِ تَعَامُلِنَا مَعَهُ، لِخَلْقِ وُجُودٍ مَرْئِيٍّ تَخْتَلِقُهُ الصُّـورَةُ وَتُرَسِّخُهُ، فَمُجْتَمَعُ المُشَاهَدَةِ الذِي نَنْخَرِطُ فِيهِ نَحْنُ كَمُسْتَهْلِكِينَ، إِنَّمَا يُمَارِسُ عَلَيْنَا تَسْوِيقَ الذَّاتِ عَلَى حِسَابِ الآخَرِ، ـ الذِي هُوَ نَحْنُ ـ بِهَـدَفِ إِخْضَاعِهِ، وَمِنَ الإِخْضَاعِ مَا لاَ يَتِمُّ بِقُوَّةِ السِّلاَحِ، فَالإِخْضَاعُ الثَّقَافِيُّ أَقَلُّ كُلْفَةً وَأَقْوَى تَأْثِيراً، وَأَبْقَى رُبَّمَا عَلَى المَدَى الطَّوِيلِ؛ لأَنَّهُ يَتَغَلْغَلُ دَاخِلَ الذَّاتِ المُسْتَهْدَفَةِ بِالغَزْوِ حَتَّى يَتِمَّ إِخْضَاعُهَا دُونَ أَنْ تَسْتَشْعِرَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَرَى المُفَكِّرُ الفرنسِي جون بودريار أَنَّ: “ثَمَّةَ عِلاَقَةً نَفْسِيَّةً بَيْنَ الصُّورَةِ وَمَوْضُوعِهَا، وَهُنَاكَ نَقْلَةٌ مُضَادَّةٌ فِي تِلْكَ العِلاَقَةِ تَرْتَبِطُ بِالآلِيَّاتِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَرْوِيضِ الأَعْيُنِ، فَهُنَاكَ حَالَةٌ مِنَ السَّلْبِيَّةِ لَدَى المُتَلَقِّي، حَيْثُ يُؤَدِّي التَّرْوِيضُ إِلَى ذُهُولِ العُقُولِ بِالصُّوَرِ، وَقَبُولِهَا بِمَا تَحْمِلُهُ مِنْ مَضَامِينَ وَإِمْـلاَءَاتٍ. وَهُنَا يَكْمُنُ الإِنْجَازُ المُذْهِلُ الَّذِي حَقَّقَتْهُ تكنُولوجيَا الاتِّصَالاَتِ فِي أَنَّهَا تَتَدَخَّلُ بِقُوَّةٍ فِي إِنْتَاجِ وَعْيِّ المُتَلَقِّي مِنْ خِلاَلِ فَضَاءَاتِ ثَقَافَةِ الصُّورَةِ دُونَ أَنْ يَدْرِي أَنَّ الصُّورَةَ تَعْتَدِي عَلَيْنَا فِعْـلاً، إِنَّهَا تَقْتَحِـمُ إِحْسَـاسَنَا الوِجْـدَانِيَّ، وَتَتَدَخَّـلُ فِي تَكْـوِينِنَا العَقْـلِيِّ”. وأَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الطَّرْحَ صَحِيحٌ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ؛ حَيْثُ أَنَّ العَـوْلَمَةَ بِكَافَّةِ أَبْعَادِهَا وَتَجَلِّيَاتِهَا، بِمَا فِيهَا ثَوْرَتَيِّ المَعْلُومَاتِ وَالاتِّصَالاَتِ جَعَلَتِ الصُّورَةَ عُنْصُراً مُهِمّاً وَبَارِزاً فِي الخِطَابِ اليَوْمِيِّ لِلإِنْسَانِ المُعَاصِرِ، حَيْثُ أَصْبَحَتِ الصُّورَةُ فِي ظِلِّ ثَقَافَةِ العَوْلَمَةِ هِيَ المِفْتَاحُ السِّحْرِيُّ لِنِظَامِ إِنْتَاجِ وَعْيِّ الإِنْسَانِ بِالعَالَمِ، فَالصُّورَةُ هِيَ المَادَّةُ الثَّقَافِيَّةُ التِي يُمْكِنُ تَسْوِيقُهَا عَلَى أَوْسَعِ نِطَاقٍ جَمَاهِيرِيٍّ، إِذْ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى المُصَاحَبَةِ اللُّغَـوِيَّةِ كَيْ تَنْفُذَ إِلَى إِدْرَاكِ المُتَلَقِّي، إِذْ أَنَّهَا تُمَثِّلُ لُغَةً بِذَاتِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ مَلاَمِحِ عَـصْرِ العَوْلَمَةِ طُغْيَانُ ثَقَافَةِ الصُّورَةِ عَلَى الوَعْيِّ الثَّقَافِيِّ الإِنْسَانِيِّ، مَعَ التَّرَاجُعِ الشَّدِيدِ لِمُعَدَّلاَتِ القِرَاءَةِ أَمَامَ طُوفَانِ الإِعْلاَمِ السَّمْعِيِّ وَالبَصَرِيِّ، فَالصُّوَرُ تَتَصَدَّرُ صَفَحَاتِ شَبَكَةِ المَعْلُومَاتِ الدَّوْلِيَّةِ (الإنترنت)، وَشَاشَاتِ التِّلفِزيُونِ، وَالسِّينِمَا، وَالهَوَاتِفِ الذَّكِيَّةِ بِكَامِيرَاتِهَا الحَدِيثَةِ عَالِيَةِ الجَوْدَةِ، وَلَوْحَاتِ الإِعْلاَنَاتِ المَوْجُودَةِ فِي الطَّرِيقِ وَفِي الأَسْـوَاقِ وَالمُؤَسَّسَاتِ المُخْتَلِفَةِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى أَغْلِفَةِ الصُّحُفِ وِالمَجَلاَّتِ، وَكَمَا يَقُولُ (ألكسندر أستروك): “فَإِنَّ الكَامِيرَا فِي عَصْرِنَا حَلَّتْ مَحَلَّ القَلَـمِ”، وَهَكَذَا، أَصْبَحَتِ الصُّوَرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَتِمُّ مِنْ خِلاَلِهَا بَثُّ رَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ، وَتَوْجِيهَ خِطَابَاتٍ وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمُتَبَايِّنَةٍ، تَخْدِمُ اسْتَرَاتِيجِيَّاتٍ سِيَاسِيَّةٍ أَوْ ثَقَافِيَّةٍ أَوْ اقْتِصَادِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِطَرَفٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لِجِهَةٍ ذَاتَ مَصْلَحَةٍ مَا، وَعِنْدَمَا يَكُونُ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَضَامِينَ الصُّوَرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً وَصَحِيحَةً، أَوْ خَاطِئَةً وَمُلَفَّقَةً، لِغَرَضِ التَّضْلِيلِ، وَتَزْييفِ الحَقَائِقِ، وَبِالتَّالِي، لَمْ تَعُدِ الصُّورَةُ اليَوْمَ مِرْآةً لِلْحَقِيقَةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَتُوجَدُ عِدَّةُ أَمْثِلَةٍ حَيَّةٍ عَلَى اسْتِخْدَامِ الصُّورَةِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مَوْضُوعِيٍّ، كَمَا يَحْدُثُ فِي شَأْنِ الطَّرْحِ الإِسْرَائِيلِيِّ لِلْقَضِيَّةِ الفِلَسْطِينِيَّةِ، فَفِي أَحَدِ المَعَارِضِ الغَرْبِيَّةِ نَجِدُ صُورَةً تُظْهِرُ بَعْضَ الفِلَسْطِينِيينَ يَحْمِلُونَ المَقَالِعَ وَالنِّبَالَ، وَتَبْدُو كَأَنَّهَا أَسْلِحَةٌ خَطِيرَةٌ وَفَتَّاكَةٌ تُوَجَّهُ إِلَى الإِسْرَائِيلِيينَ المُسَالِمِينَ الَّذِينَ لاَ نَرَاهُمْ أَصْلاً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ!. وَفِي أَوْقَاتِ الحُرُوبِ وَالصِّرَاعَاتِ المُسَلَّحَةِ يَتِمُّ اسْتِخْدَامُ الصُّوَرِ كَجُزْءٍ مِنَ الحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ، لإِضْعَافِ الخُصُومِ وَإِرْهَابِهِمْ، بَلْ إِنَّ الصُّوَرَ تُسْتَخْدَمُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الأَوْقَاتِ لِحَمْلِ رَسَائِلَ لأَطْرَافٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا حَدَثَ فِي الغَزْوِ الأَمْرِيكِيِّ الغَرْبِيِّ لِلْعِرَاقِ عَامَ 2003، حِينَ أُسْقِطَ تِمْثَالُ صَدَّام حُسين فِي بَغْدَاد، فِي إِشَارَةٍ إِلَى إِسْقَاطِ النِّظَامِ العِرَاقِيِّ، وَعِنْدَمَا أُعْدِمَ صَدَّام حُسين فِي عِيدِ الأَضْحَى المُبَارَكِ، وَنُقِلَتْ صُوَرُ إِعْدَامِهِ عَبْرَ كَافَّةِ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ، وَالمَوَاقِعِ الالكَترُونِيَّةِ، كَانَ الهَدَفُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ رُبَّمَا الهَمْسُ فِي أُذُن ِالزُّعَمَاءِ العَرَبِ أَنَّ مَصِيرَ الأَنْظِمَةِ الَّتِي لاَ تَسْتَجِيبُ لِلْمَطَالِبِ الأَمْرِيكِيَّةِ سَيَكُونُ مَصِيراُ مُمَاثِلاً لِذَاكَ الذِي لَقِيَهُ الرَّئِيسُ العِرَاقِيُّ السَّابِقُ. وَبِالتَّالِي، يُمْكِنُ القَوْلُ أَنَّ عَصْرَ الصُّورَةِ الذِي نَعِيشُهُ اليَوْمَ أَصْبَحَ يَعْتَمِدُ نِظَاماً جَدِيداً لِلْحَقِيقَةِ، يُمَارِسُ قِيَادَةً صَارِمَةً لِلْعُقُولِ، بَلْ إِنَّهُ كَمَا يَرَى ريجيس دوبريه: “نِظَامُ سُلْطَةٍ يُقَوِّمُ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ بَدِيهِيٌّ”؛ فَهُوَ يُرِينَا مَا يُرِيدُ، وَيَحْجُبُ عَنَّا مَا يَشَاءُ حَسَبَ تَوَجُّهَاتِهِ وَمَصَالِحِهِ الخَاصَّةِ. وَرُغْمِ كُلِّ ذَلِكَ فإنَّهُ يُمْكِنُ لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ هَـذِهِ المُعْطَيَاتِ، مِنْ خِلاَلِ تَوْظِيفِ الصُّورَةِ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ ثَقَافَتِنَا وَدِينِنَا، وَكَافَّةِ قَضَايَانَا المَصِيرِيَّةِ الَّتِي تَتَعَرَّضُ لِلتَّشْوِيهِ وَالتَّضْلِيلِ المُتَعَمَّدِ بِاسْتِمْرَارٍ، كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَحْتَفِظَ بِسَلاَمَةِ بَصِيرَتِنَا النَّقْدِيَّةِ، وَأَنْ نَتَسَاءَلَ عَنِ المَغْزَى مِنْ شَكْلِ وَجَوْهَرِ مَا نَسْتَقْبِلُهُ مِنْ صُوَرٍ، وَمَا تُخَبِّأُهُ دَاخِلَهَا مِنْ مَضَامِينَ وَرَسَائِلَ تَحْتَاجُ مِنَّا لِبَصِيرَةٍ وَقَّّادَةٍ لِنَعِيَهَا وَنَتَعَامَلَ مَعَهَا بِحِكْمَةٍ وَمَوْضُوعِيَّةٍ.

مقالات ذات علاقة

الزي الليبي حكاية تبدأ منه وتنتهي في الأزل .. الهيبة (عصمّلي) .. والوقار (أندلسي)

زكريا العنقودي

عيادي وسنين دائمة

المشرف العام

د. على فهمي خشيم يطلق «البرهان»

بشير زعبية

اترك تعليق