كلمَةُ (أجواد) الَّتِي تُطْلَقُ في عامِّيَّتِنَا اللِّيبيَّةِ على كِرَامِ القومِ، وَأَهْلِ السَّخَاءِ وَالعَطَاءِ وَالْبَذْلِ والْمَعْرُوفِ، هيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ الصِّفَاتِ الحميدَةِ، حَاوِيَةٌ لِكُلِّ خِصَالِ الخيرِ، وَهْيَ لا تقتصرُ في معانيها المتعدِّدةِ على الكرمِ وما يدورُ في فلكِهِ من عطاءٍ وبذلٍ للمالِ، ومنحِ ما في اليدِ من رزقٍ وغيرِهِ فَحَسْبُ؛ بل هي تعني، فيما تعني، الَّذِي يجودُ بمالِهِ، ويُحْسِنُ إلى جَارِهِ، ولا يُقَابِلُ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، وقد تُقَابلُهَا في لُغَتِنا العربيَّةِ مَعَاني( الخِيِّرِ الطَّيِّبِ ذِي النَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ) ، فَالجودُ بَحْرٌ لا سَاحِلَ لَهُ، ولا تحدُّهُ مَعَانٍ ملموسَةٌ، بل هو الخيرُ كلُّهُ “.
وقصيدةٌ (امواير ولد لجواد) للشَّاعِرِ عبد السَّلام بوجلاوي، قَصيدَةٌ جَامِعَةٌ في وصفِ (ابنِ الأجواد)، ذَكَرَ فيها الشَّاعِرُ كُلَّ صِفَاتِهم العظيمَةِ، وِخلَالِهِم الحَسَنَةِ، الظَّاهِرَةِ المتجسِّدَةِ في ابْنِهِم ( ولد الأجواد )، فَسَردَ – ببراعَةٍ وإتقانٍ – كُلَّ مَنَاقِبِهِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا على أَقْرَانِهِ فَضِمَنَتْ لَهُ السُّمُوَّ والتَّفَوُّقَ، وَاحْتِرَامَ الآخَرِينَ لَهُ، فنَالَ صِفَةَ ( أجوادي )، كما تحدَّثَ الشَّاعِرُ فَيها عنِ الأصلِ الطَّيِّبِ وَتَأْثِيرِهِ الإِيْجَابِيِّ في حَيَاةِ الْفَرْدِ، سَارِدًا الصِّفَاتِ القِيمِيَّةَ الَّتِي يَتَمِيَّزُ بها الجَوَادُ، ذو المحتدِ الأَصِيلِ، وَالْحَسَبِ والنَّسَبِ العَرِيقَيْنِ المُمِيِّزَيْنِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ عن بعضٍ، يَقُولُ الشَّاعِرُ عبدُ السَّلام بوجلاوي:
زين لصل زين أصله إن زال يْهفَّه * الجار والرَّفيق اختار بالتَّاصيل
امواير ولد لجواد لك نوصفَّه * إن كان خالطك تلقى عليه دليل
إن حدَّث صدق، وإن كان عاهد وَفَّى * ويشيل الصَّلايب فوق حمل ثقيل
وإن فيها برم بسياستَهْ تِصَفَّى * إن خاضت وحاست حَوْسَةْ البِنْتِيل
وايديِّر عليك إن كان حالك شَفَّه * وإن كان عاندك تنظر أمعاه الوَيل
أعداه صَفَّهم خاسر ورابح صَفَّه * إن صار سوق مقبوضه فَرَاسَةْ خيل
فالزَّينُ (الأجوادي) كما يراهُ الشَّاعِرُ، ذو أَصْلٍ طَيِّبٍ حَسَنٍ، ما انفكَّ أَصْلُهُ مسيطرًا على جميعِ تصرُّفَاتِهِ، مُوَجِّهًا لكلِّ حركاتِهِ وسكناتِهِ، فيدعوهُ إلى فعلِ المكارمِ والسَّعْيِ لنيلِ المحامِدِ، والكَفِّ عنِ فعلِ المقابحِ، وتحقيقًا لكلِّ هذا؛ فهو يَخْتَارُ الجَارَ الصَّالحَ الَّذِي يُوَافِقُهُ في صِفَاتِهِ، ويلائِمُهُ في سَجَايَاهُ، فَأَهْلُ البَادِيَةِ يرونَ ذلكَ ضَرُورَةً مُلِحَّةً، لذا فهم يقولونَ: (الجار قبل الدَّار).
كَمَا أَنَّهُ اختارَ – أيضًا – الرِّفَاقَ الكُرَمَاءَ في كُلِّ مراحلِ حَيَاتِهِ فـ (الرَّفيق قبل الطريق)، والكريمُ لا يُرَافِقُ إلاَّ كريمًا مثلَهُ، وذاكَ خُلُقٌ إِسْلَامِيٌّ نَبِيلٌ؛ يقولُ الرَّسُولُ : “المَرْءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِلُ”
ثم يَشْرَعُ الشَّاعِرُ في سَرْدِ صِفَاتِ وَلَدِ الأَجْوَادِ؛ تَتَّضِحُ لَكَ صِفَاتُهُ اْلمْثُلَى بِجَلَاءٍ إِذَا مَا صَادَفْتَ هَذَا ( الأجواديَّ ) ابنَ الأَجْوَادِ الْكِرَامِ، فَهْوَ:
إِنْ حَدَّث صدق وإن كان عاهد وفَّى * ويْشيل الصَّلايب فوق حمل ثقيل
وفيها إن برم بسياسته تَصَفَّى * إن خاضت وحاست حَوْسَةْ البنتيل
فَالصِّفَاتُ الْقَوِيمَةُ الَّتِي يمتازُ بها تُثْبِتُ طِيبَ أَصْلِهِ، وَاكْتِمَالَ أَخْلاقِهِ، وَتَنْفِي عَنْهِ الصِّفَاتِ الدَّنِيئَةَ، وَتَطْرَحُ مِنْ شَخْصِيَّتِهِ الخِصَالَ القَبِيحَةَ الَّتِي أَثَبَتَهَا حَدِيثُ رُسُولِ اللهِ في المنَافِقِ إِذْ قَالَ: “آيَاتُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا أُؤتُمِنَ خَانَ”.
إِذًا فِـ (ابنُ الأجوادِ) لا تخرجُ صِفَاتُهُ وتصرُّفاتُهُ عَمَّا أَقَرَّتْهُ الشَّرِيعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ السَّمْحَاءُ مِنْ قِيَمِ وَأَخْلَاقِيَّاتِ الْمُسْلِمِ الحَقِيقَيِّ . فضلاً عن أَنَّهُ ذو قدرَةٍ عاليَةٍ على الصَّبْرِ والتَّحَمُّلِ، فهو ” يشيل الصَّلايب فوق حمل ثقيل ” وَ (الصَّلايب) جمع (صَلِيبَةُ) هي ما يُزادُ على حملِ الجَمَلِ القَوِيِّ من أَحمَالٍ ومَتَاعٍ وغيرِهَا، فَيَحْتَمِلُهَا الجَمَلُ لِقُوِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الصَّبْرِ وَالاحْتِمَالِ، فَابْنُ الأَجْوَادِ يُضْرَبُ بِهِ المثلُ في تَحَمُّلِ شَدَائِدِ الأُمُورِ بِعَزْمِهِ الْمَتِينِ، وَعَزِيمتِهِ الَّتِي لا تَلِينُ.
كما أَنَّ تجاربَهُ الحياتِيَّةَ المتنوِّعَةَ قد صَقَلَتْهُ فَمَنَحَتْهُ الخبرَةَ الكَفِيلَةَ بِحَلِّ أَعْقَدِ الْمَشَاكِلِ وَأَصْعَبِهَا، فَضْلاً عنِ حكمتِهِ وَحِنْكَتِهِ الموروثَتَيْنِ، حَتَّى وَإِنْ تَدَاخَلَتِ الأُمُورُ، وَتَشَاكَلَتْ وَتَشَاجَرَتْ، وَاخْتَلَطَ حَابِلُهَا بِنَابِلِهَا كَاختِلاطِ الشَّعِيرِ بِالتِّبْنِ الرَّقِيقِ أَثْنَاءِ عَمِليَّةِ دَرْسِهِ فِي مَوْسِمِ الحَصَادِ:
وإن فيها برم بسياسته تصفَّى * إِنْ خاضت وحاست حَوْسَةْ البنتيل
ثمَّ يُؤَكِّدُ الشَّاعِرُ على حقيقةٍ أخرى يتميَّزُ بها ابْنُ الأجْوَادِ، فهو إِنْ خَاضَ أَيَّةَ معركَةٍ كَسَبَهَا، جَالِبًا نَصْرًا مُؤَزَّرًا لَهُ وَلأَتْبَاعِهِ، جَارًّا الفَشَلَ وَالْخُسْرَانَ لأَعْدَائِهِ، حينما يَشْتَدُّ وَطِيسُ الحَرْبِ، وَيَسْتَعِرُ أَوَارُهَا، يَقُولُ عَنْ هَذَا النَّجَاحِ:
أعداه صَفَّهم خاسر، ورابح صَفَّه * إن صار سوق مقبوضَهْ فَرَاسَةْ خيل
والصَّفُّ هَنَا بمعنى الجمَاعَةِ الَّتِي ينتمي إِليها أو يَقُودُهَا، وَالْفِرْقَةِ الَّتِي يَرْأسُهَا، أَيِ الأَتْبَاعِ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ يُنَاصِرُونَهُ وَيَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ، وَيَنْتَهُونَ بِنَوَاهِيهِ.
يَقُولُ ابْنُ الرُّوميِّ الشَّاعِرُ في مَدْحِ أَحَدِهِم:
غَدَا السَّاعُونَ خَلْفَكَ في الْمَعَالِي * كَمِثْلِ الصَّفِّ يَقْدُمُهُ الإِمَامُ
وَقَالَ أميرُ الشُّعَرَاءِ أَحْمَدُ شوقي:
وَسارَت خَلفَكَ الأَحْزَابُ صَفًّا * وَسِرْتَ فَكُنْتَ فِي الصَّفِّ اللِّوَاءَ
ويمضي الشَّاعِرُ متدفِّقًا مستمتعًا بذِكْرِ المزيدِ من صِفَاتِ الأَجْوَادِ الَّذِينَ أَنْجَبُوا هذا الابْنَ المثَالِيَّ، مُوضِحًا أَنَّ الرِّجَالَ الحقيقيِّينَ يَظْهَرُونَ وَقْتَ الكُرُوبِ، وعندَ حلولِ الأَزَمَاتِ، فَيَمْتَازُونَ عن غَيْرِهِمِ بِشَجَاعَتِهِم وَصَبْرِهِم، وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِم، وَذَكِائِهِم بِتَعَامُلِهِم بحكمَةٍ وَعَقْلَانِيَّةٍ معَ المواقِفِ كَافَّةً، أَمَّا الضِّعَافُ، وَقَلِيلُو الخِبْرَةِ فَتَفْضَحُهُمُ الموَاقِفُ العَظِيمَةُ، وَتُعَرِّيهُمُ الْمُعْتَرَكَاتُ الصَّعْبَةُ العسيرَةُ، فَتُظْهِرُ عُيُوبَهُم، وتبينُ عن ضَعْفِهِم، في حينِ تَشْهَدُ لغيرِهِم بِالشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ والمجالدةِ وَالإِقْدَامِ وَالثَّبَاتِ. وهذا الأجواديُّ من عشيرةٍ تَعَوَّدَتْ على التَّضْحِيَةِ بِالأَرْوَاحِ من أجلِ الشَّرَفِ، بينما هُنَاكَ آخَرُونَ يُفَرِّطُونَ في شَرَفِهِم مُقَابِلَ شَيْءٍ زَهِيدٍ:
لجواد في الكروب اتْبان بْمواقفَّه * امْنين المَعَلَّق في نهار الشَّيْل
معلاقه رقيق ايْطيح وين تْهِفَّه * إن تَمَّت الرِّيح مصادره الرَّحيل
اللِّي مو موالف عَ الصَّلُوب تَحَفَّى * تَغَلَّبْ وْبَات امبات قبل اللَّيْل
ولاخر مصولب لا اتعبْ لا غَفَّى * عِنْدَهْ المِيَّةْ مَيْل كيف الميل
من عيله تهون الرُّوح دون شَرفَّه * وفيه غيرهم فَرَّط بْشيّْ قليل
وَيُبيِّنُ الشَّاعِرُ أَنَّ من أفضلِ نعمِ اللهِ الخَالِقِ الرَّازِقِ المتكفِّلِ بأرْزَاقِ خلقِهِ على عَبْدِهِ، أَنْ يُعْطِيَهُ الْعِفَّةَ، فَكُلُّ حِيٍّ لَهُ نَصِيبٌ دُنْيَوِيٌّ مَكْتُوبٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ:
أخيار ما عطى عبده عَطَاه العِفَّه * الخالق اللِّي بالرِّزق هو الكفيل
وَيُوَضِّحُ الشَّاعِرُ أَنَّ العَوَزَ وَالافتقَارَ يُبَيِّنَانِ مَعَادِنَ النَّاسِ، ويُظْهِرَانِ نَفْسِيِّاتِهِم، فَبِهِمَا يُخْتَبَرُ الْمَرْءُ فَيُعْرَفُ مَعْدَنُهُ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا، بل هو نَوْعٌ منَ الْغَسِيلِ الْمَعْنَوِيِّ، وَشَكْلٌ من أَشْكَالِ الطَّهَارَةِ الرُّوحِيَّةِ لَلإَنْسَانِ، فَهْوَ مِرَانٌ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَدْريِبٌ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ، وَلِلشُّعُورِ بالآخرينَ، حَتَّى إذا ما اغْتَنَى عَرَفَ ما يُقَاسِيهِ الفَقِيرُ من شَظَفِ الْعَيْشِ، وَعَذَابَاتِ الجُوعِ، وَمَرَارَةِ الاحْتِيَاجِ لِلنَّاسِ، لِيَجُودَ عَلَيْهِمْ من رِزْقِ اللهِ وأنعمِهِ عليهِ، وفي هذا استلهَامٌ رَائِعٌ للحكمَةِ الكبرى من فَرْضِ الصَّوْمِ في الإِسْلامِ.
#يتبع …….
____________________________
من مخطوط كتابي فِي رِحَابِ قَصِيدَةٍ: قِرَاءَاتٌ فِي قَصَائِدِ شَعْبِيَّةٍ.