بعد أن ضاق الحال بأحد دراويش البدو يمم وجهه شطر بلاد الله أرض الله … وراح يسري كل ليلة تحت ضوء القمر ويرفع عقيرته بالغناء مسامراً ذاته، ويكمن تحت أي عوسجة أو شجيرة طلح أو سدر تصادفه في النهار اتقاء لحرارة شمس النهار، وبعد عدة أيام وصل إلى بلدة تقع في الجنوب الشرقي لمدينته فصادف أول ما صادف صاحب بستان صغير يجلس أمام كوخه المبني من السعف والجريد، فرحب به واستقبله بحفاوة منقطعة النظير …فقال درويش البدو في نفسه: يبدو أنني قد تخلصت من ضنك العيش إلى الأبد، وأنني عثرت أخيراً على المستقر ….وقبل أن ينتصف النهار صاح صاحب الكوخ بصوت مرتفع … فجاءت فتاة جميلة لها قامة كذروة نوق البراري، ووجه يشبه نساء الأساطير بعينين فرعونيتين وحاجبين مرسومان بدقة وأنف شامخ و غمازة مثيرة تحت ذقنها المدبب وقالت:
– نعم يا أبي ..ها أنا قد جئت …. أمرك …..
– فقال الشيخ: اصطحبي ضيفنا إلى نخلاتنا المقدسة ….
فانحنت الصبية وأخذت بيد البدوي المشدوه وانطلقت به عبر البساتين حتى أتت منخفض من الأرض يحتضن واحة غناء من النخيل المنخفض الارتفاع المثقل بعراجين البلح مختلف الألوان على ضفتي غدير رقراق، أحس البدوي برغبة جارفة في التقاط حبيبات البلح المغرية،وشرع يلتهمها بنهم غريب، ولم يستمع لنداء الصبية التي كانت تدعوه للتريث حتى لا يصاب بتخمة أو يفقد شهيته للطعام الفاخر الذي ينتظره على الغداء، لكن الجوع كافر، ولم يستمع الرجل إلا إلى نداء الطبيعة فقط، وما هي إلا دقائق من الالتهام المتسارع حتى امتلأت معدته وراح يتفنن في اختيار ثمار البلح بعناية وينتقي أكثرها نضجاً وأكبرها حجما وبدأ يمسح الغبار عن كل ثمرة يلتقطها بصبر وأناة، عندها ضحكت الفتاة بغنج ودلال فأعجب البدوي بخاطر مر بمخيلته وبدأ يشاكس ابنة مضيفه التي تواطأت مع دروشته وقررت أن تفيض عليه من بهجتها تلك الظهيرة القصية، وعندما أحس الدرويش بأن الدماء قد جرت في عروقه وأن السماء قد أهدته هذه اللحظات نسى كل ما قرأه في كتاب قريته البعيدة ونسى ملامح كل أبناء ذلك الساحل المتعرج الذي يحتضن مدائن الملح البعيدة وقرر أن يودع بؤسه وشقاؤه إلى الأبد وأن يدفن كل ماضيه عبر الدغل المونق، وحينما أفاق وجد المرأة تصطحبه حيث كوخ والدها الذي بادرها قائلاً: مابه ضيفك يترنح يا غالية ؟
فقالت: لقد أرخى زنبيله !!
فرد الشيخ: إذن استدعي عمك ” حمد ” حتى يكرم وفادته
وما هي إلا لحظات حتى أتى رجلا زنجياً في منتصف عمره ضخم الجثة مفتول العضلات تتدلى شفته السفلى مثل جمل مجنون، وجلس بقوة كجدار متهدم وربت على رجل البدوي وقال: مرحبا بضيفنا الجميل، فنظر البدوي إلى عيني الرجل الذي بادره بغمزة ماجنة،
وقال: مرحبتين سي حمد
فاطرق البدوي قليلا. وبعد الغداء استأذن صاحب البيت والزنجي ضيفهما في إغفاءة معتادة كانت هي طوق نجاته فخرج يركض لايلوي عن شيء تهبط به سهول وترفعه جبال طريداً في البراري حتى جاء مدينتنا، وظل يسرد الحكاية لكل من يسأله عن تلك البلاد:
– ويقول (( زينك بلد … لولا حمد((
(( زينك بلد … لولا حمد))
طبرق: خريف 2011م