كان يقلم شجرة صغيرة تحت شرفته في الحديقة التي تطل عليها كل غرف المعيشة بالبناية. ارتديت حذائي الرياضي ونزلت لأتسلى قليلا بمشاهدته يقلب التربة ويتعهد شجرة ورد بعنايته بعدما حررها من حوضها البيتي، وأعادها إلى الفضاء الشاسع وهواء ربي.
وفيما نتكلم ويعلمني كيف أختار الفروع لأقصها لست أذكر ماذا عرج بحديثنا على الموتى، أتصور عربة مرت من الشارع الجانبي خلف الشجيرات وكان قد أشار سابقا إلى وجود محرقة للجثت غير بعيدة من حيث نقف. لذا قال وهو يضحك بعد موتي بعشر سنين ربما ستجدينني على حائطك. اندهشت وكيف ذلك ياعمي كووس؟. قال: ألستِ تريدين ورق حائط في خطتك الجديدة للتغيير؟. قلت وماشأن خططي؟. تابع التقليب وهو يقول: لأن المقابر هنا مكلفة لذا بعد سنوات تستخرج العظام من تلك القبور ومن ضمن مايفعلونه بها صناعة الصمغ الذي ستلصقين به ورق الحائط!. صدمت. نعم؟ أي نعم وواصل الضحك والعزق. جاري والذي سيأتي ذكره كثيرا في مقالات قادمة يكمل الخامسة والثمانين هذا الشهر مايو.
كنت هناك حينما هبت موجة الحيازات، تحولت تحتها طرابلس خلال عامين إلى مايشبه المحميات الخاصة. لم ينجُ شيء أو هكذا اعتقدت، لأن حتى خروجي من هناك في 2014 لم تتحول شط الهنشير إلى ملك مقدس بعد، عرفت وأنا هنا أنه احتجز فيها قبرا أبي وشقيقي بقفل ومفتاح، إذ لم تعد تجوز لغير موتى المحمية، وأذكر أنني بكيت يومها كما لو أنهما سجينان أو مختطفان.
وقبل أن يخطر ببالي كل ماعرفته الآن، سبق وأن زرت مقبرة هنا في هولندا حيث يرقد والد أحد الأصدقاء الهولنديين في بلدة صغيرة، كان قبره وسط غابة مسورة سحرتني بوابتها القديمة، وقبل ذلك كان البيت الذي أعارني إياه صديق لأقضي إجازة طويلة فيه تفتح شرفته على قناة صغيرة ثم سكة قطار ووراءهما اكتشفت المقبرة. لم أميزها على الفور فحين أقول مقبرة في هولندا، يعني هذا أنها جزء من المكان بجماله وغناه وتنسيقه.. ولكن على غير الحيازات الطرابلسية القاسية وغير العادلة يساوي القانون هنا بين سكان المكان.. حيث كل شيء ثمين وله قيمته السوقية، ولكل فعل مبراراته، ليس على طريقة ماكانت تحشر الرأسمالية في تقارير الوكالة فالغول كما يحلو لنشراتنا القديمة والجديدة تسميته يظل رأسه الذي تخيلته زمان منخفضا تحت أصبع القاضي ولا يتجرأ هذا الغول على فعل مايفعله الأتقياء هناك.
لم أستطع التأكد من قصة الرفات الذي سيلصق ورق الجدران على حوائط شقتي، ولكن ببحث صغير أمكنني التعرف على الأسباب التي تجعل مقابر هولندا تشابه شط الهنشير وإن اختلفتا في جزئيتي القانون والهدف، في أنها مؤقتة وليست أبدية، إنها التربة الفقيرة وارتفاع منسوب الماء وهذا يؤخر عملية التحلل الأخيرة لأجساد الموتى، ما يعني أن مساحة كبيرة من الأرض ستظل محجوزة، ولأن معالجة التربة بوسائل صناعية عملية مكلفة، تؤجر القبور لمدد من عشرة إلى عشرين عاما ومن بعد يتم تنظيفها من الرفات تماما، لهذا يمكنني الآن تتبع مسار تلك البقايا إلى المصانع أو لا أدري والاقتناع بأن ماذكره جاري ليس مزحة كما وأنها حقيقية أكثر من أفلام الرعب، وسمحت لنفسي بتقبل الأمر، فأن يعاد تدوير جسدك ليس شيئا سيئا مادام يصنع بعض البهجة بتخيل الحياة تدب في رتابة الجدران فتحولها إلى غابات أو معالم أو نقوش.. أليس هذا جميلا.. هكذا أخبرت نفسي.
وفعليا التدوير نفسه الذي يمر به الورق والبلاستيك والقماش والخشب كأسلوب حياة هنا، يمكّن من فهم الأمور كلها بشكل أكثر إنسانية وعقلانية لاشك، إذ أقر مجلس الشيوخ في يوليو 2016 قانونا جديدا يخص التبرع بالأعضاء.
وعليه سأتلقى وكل شخص فوق عمر الثامنة عشر رسالة تنتظر إجابة على السؤال الذي تتضمنه: هل ترغب في التبرع باعضائك؟. على الأقل ستجعل هذه الطريقة مساحة القبور أقل.. قال جاري.. وضحكنا فيما طابور صغير لسيارات سوداء تتجه نحو الأفران.
_______________
نشر بموقع بوابة الوسط