عند الساعة الخامسة والنصف من مساء الأثنين السابع والعشرون من الشهر الجاري انطلقت بدار حسن الفقيه حسن بطرابلس وفي حضور جمهور متنوع ضم إلى جانب الفنانين والكُتاب والمثقفين الأكاديميين، أعمال الندوة التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون والتي تندرج في إطار الأحتفاء – في المقام الأول – بيوم المسرح العالمي الذي يصادف السابع والعشرون من مارس ومشاركة العالم في أحتفالاته بهذه المناسبة، وتقديم لمسة وفاء لأحد مبدعينا ورموزنا الذين أثروا حياتنا الثقافية وتركوا بصمة في المشهد المسرحي – في المقام الثاني. الندوة حملت عنوان “فرج قناو.. كاتبا مسرحيا” وقُرأت فيها أربع ورقات بحثية أحاطت تقريبا بكل جوانب هذه التجربة واستعرضت أهم محطاتها التي امتدت لسنوات زاخرة بالعطاء.
الأفتتاحية كانت مع الدكتور حسن قرفال الذي أدار الندوة باقتدار، ولكن قبل ذلك مهَّدّ للموضوع بنبذة تاريخية مختصرة أو بانوراما كما أطلق عليها، عن المسرح في ليبيا الذي تأسس في العام 1908 قبل كل من تونس والمغرب وهما البلدين اللذين تأخر فيهما تأسس المسرح إلى عامي 1909 و 1910، وهذا التأسيس في ليبيا يسبقه – بحسب الدكتور – إرهاصات وظواهر فنية كانت منتشرة بين سكان طرابلس، كان الدكتور قد فصّلها في محاضرة سابقة عن عناصر الفرجة في الموروث الطرابلسي وأحال إليها بعد أن أشار لها عابراً. ثم عرَّجَ عل مراحل تطور المسرح الليبي وأهم موضوعاته التي ركزت في الأعم على القضايا الأجتماعية، قبل أن يستقر على أن النضوج الفعلي للمسرح الوطني كان في عقدي ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم على يد بعض الكتاب المرموقين ممن تلقوا تعليما جيدا في الخارج.
أستلم الكلمة بعد ذلك الأستاذ والممثل القدير علي الخمسي ليتلو على مسامعنا بيان اليوم العالمي للمسرح الذي يُكلف أحد الفنانين العالميين من الممثلين والمخرجين المسرحيين والكُتاب بكتابته ليُترجم إلى أكثر من عشرون لغة ويُقرأ في كل المحافل المسرحية في هذا اليوم كما درجت العادة، وقد كتبت بيان هذا العام فنانة من فرنسا، وكان قد كتبه من العرب في إحدى الدورات السابقة الكاتب المسرحي سعدالله ونوس. وضمَّنت الفنانة بيانها، حبها وعشقها للمسرح وبينت أهميته في حياة الشعوب بكلمات فيها من الشعر والحب الشيء الكثير، وعبّرت بجُملتها التي تقول ” المسرح غياب الكراهية وصداقة بين الشعوب ” عن مفهومها للمسرح، هي التي تعتبر نفسها امرأة عالمية تنتمي للإنسانية قبل أن تنتمي لبلادها فرنسا.
ثم وفي عجالة استعرض مدير الندوة الدكتور حسن قرفال السيرة الذاتية للكاتب فرج قناو والتي عرفنا من خلالها أن للكاتب إثنى عشرة مسرحية تقريبا هي على التوالي مسرحية متزوج سبعة ومسرحية اللي اديره تلقاه ومسرحية الطير اللي يغني وهي عبارة عن أوبريت غنائي يتغنى بسيرة الفنان الليبي الراحل بشير فحيمة ومسرحية أخطا راسي وقص عام 1977 ومسرحية حوش العيلة التي أخرجها محمد القمودي ومسرحية هجالة ومية عريس ومسرحية البنت اللي قالت لا ومسرحية حدث ذات مرة التي كتبها بالفصحى على خلاف بقية المسرحيات التي كُتبت بالعامية أو باللهجة المحلية ومسرحية بُشرى ومسرحية راوح التي كتبها للأطفال مع مسرحية أنتصار زهرة.
وكان الكاتب قناو قد ولد بمدينة الخمس أربعينيات القرن الماضي قبل أن ينتقل للعيش بمدينة بنغازي ثم منها إلى طرابلس، واشتغل صحفيا ومدققا لغويا في صحيفة الشعب التي كان يرأس تحريرها الأستاذ علي مصطفى المصراتي في السبعينيات وكتب العديد من المسلسلات والمنوعات الرمضانية.
وبعد سرد هذه المعلومات المتعلقة بالفنان نصل إلى الورقات البحثية، الورقة الأولى الموقعة بأسم الناقد الفني أحمد عزيز والتي عنونها بـ “مصطفى الأمير وفرج قناو.. الأختلاف والأتفاق” عقد من خلالها مقارنة بين إنتاج كل من الكاتبين المسرحيين اللذين هما من أعمدة المسرح في بلادنا بيَّنّ فيها أوجه الأختلاف والأتفاق بين تجربة كل منهما. حيث اتفق الكاتبان على سبيل المثال في خطهما الذي خصصاه للموضوعات الأجتماعية وتلك التي تخص الأسرة الليبية تحديدا كما اعتمد كل منهما على شخصيات معينة وبأسماء معروفة ظلت تتكرر من مسرحية إلى أخرى وترافق الكاتب في مسرحياته، وكلاهما صنع أو فصَّلَ أدوارا على ممثلين معينين إذ رسم مصطفى الأمير شخصيات قام بتمثيلها الفنان محمد شرف الدين ورسم قناو شخصيات للفنان فتحي كحلول، وتتشابه تجربة كلا الكاتبين في أنهما أستثمرا وأفادا من التراث الطرابلسي لا سيما اللغوي الذي ينزع نحو الحكمة الشعبية البسيطة والمتداولة وهو الشيء الذي يمكن ملاحظته من عناوين المسرحيات، أيضا أنفتح الكاتبين على قضايا الوطن العربي بإلإضافة إلى القضايا المحلية ومارسا نوعا من الإسقاط والرمزية فالإيحاءات والإيماءات في بعض المسرحيات تذهب إلى تناول موضوعات قومية، فعنوان هجالة ومية عريس مثلا يحيل إلى فلسطين السليبة والمغتصبة بطريقة أو بأخرى، ويتشابه الكاتبان في كونهما متعددي المواهب فإلى جانب الكتابة زاولا أعمالاً أخرى فقد مارس قناو الصحافة والكتابة للإذاعتين المرئية والمسموعة والإخراج، وهذا تحديدا ما فعله مصطفى الأمير.
وتتمثل نقاط الأختلاف بين الكاتبين في أن الأمير أجاد اللغة الإيطالية الأمر الذي ساعده في بناء عالمه المسرحي مستفيدا مما قرأه بهذه اللغة في حين اكتفى قناو بالأطلاع على المسرح العربي والمترجم، وفي الوقت الذي كانت فيه شخوص الأمير مدينية تنتمي للمدينة ولا علاقة لها بعالم الريف، أستحضر قناو شخصيات بدوية، ومارس الأمير الإخراج بينما لم يمارس قناو الإخراج إلا في مناسبة وحيدة لم تكن ناجحة، وكتب قناو للطفل فيما لم يكتب الأمير ولم يخوض هذا المجال مطلقاً.
هذه وغيرها من المعلومات والتحليل الدقيق قربت أكثر إلى المتلقي تجربة الكاتب المُحتفى به، ففي مقارنته بغيره من الكُتاب يمكن أن نبلور فكرة عن الكاتب المقصود، وعن نفسي أعتبر أن الندوة أو المنشط قد حقق أهدافه أو بعضا منها حين قام بالتعريف بالكاتب الراحل لي شخصيا وللمتلقين الشباب الذين لم يعاصروه والذين حضر منهم مجموعة داخل قاعة الندوة وأظهروا اهتماما لافتاً.
الأستاذ عبدالله الزروق المخرج القدير ورفيق قناو في رحلته في الحياة وفي المسرح أختار كما قال أن يتحدث عن فرج قناو شخصيا فأشار إلى أنه كان قارئا جيدا ومحبا لكتب التراث وعاشقا للأدب ويحفظ من أبيات الشعر الكثير وسرد العديد من الذكريات والمواقف التي جمعتهما، من بينها إشارته إلى مقهى زرياب الواقع بشارع الأستقلال والذي كان فرج قناو قد أطلق عليه هذا الأسم، وتحدث عن استسلامه لنوبة الحزن مرة وعن إجهاض الحلم بتحويل كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي إلى مسلسل تلفزيوني، وحين سأله الزروق عن هذا المشروع رد الكاتب قناو بجملة الشاعر العراقي التي تقول ” لمن تغني والأبواب أوصدت أبوابها ” في إشارة إلى عجزه ربما من تحقيق هذا المشروع أو لعدم تماهيه مع الواقع السائد آنذاك، وأراد الزروق من خلال ورقته التي عنونها بـ “رحيل الجياد البرية” كما يبدو أن يرد بعضا من الجميل لصديقه وقول كلمة صدق في حقه ووضعه في مكانته التي يستحقها جنبا إلى جنب مع من أسهموا في بناء ليبيا الحديثة كلٌ في مجاله، والورقة في ذات الوقت وثيقة أو شهادة من رجل عاصر الكاتب وارتبط معه بصداقة عميقة توجت بالعديد من المشاريع المسرحية، حيثُ أن الزروق تقريبا تبنى جل مسرحيات الكاتب وأخرجها لهُ.
منصور أبو شناف الناقد والكاتب المسرحي كان ثالث المتداخلين بورقته التي حملت اسم “فرج قناو والمسرح الملتزم” وكعادته في التأصيل لموضوعاته أعطى نبذة مختصرة عن مراحل تطور المجتمع الليبي وتتبع خطواته في التحديث ورصد بقلمه التغييرات الأقتصادية والأجتماعية التي مر بها متأثرا بعدة ظروف، لعل أبرزها بداية الطفرة النفطية التي انتقلت بليبيا من التخلف ووضعها على طريق الحداثة، ووصل في تحليله إلى افتتاح الإذاعة الليبية ثم ألحق ذلك بنبذة عن المسرح الليبي وتلمس بحسه النقدي العالي أهم سمات وخصائص المسرح الليبي وموقع فرج قناو في خارطته وخلص إلى أن مسرح قناو مسرح ملتزم بقضايا مجتمعه ووطنه، وبخلاف من ينادي بمقولة الفن للفن كان قناو يمتثل لمقولة الفن للحياة، ولهذا كانت مسرحياته عبارة عن رسائل فنية تحمل في طياتها النقد والتشخيص لمشاكل المجتمع في الوقت عينه الذي تقدم فيه الحلول والمقترحات وتسهم في بث الوعي وتحض على المضي في مسيرة التغيير للأحسن، وعلى هذا النسق تقريبا سارت كل الأعمال المسرحية التي أنتجها الكاتب. هكذا تجول بنا الكاتب منصور أبو شناف في رحاب عالم قناو المسرحي وأضاء لنا جانبا مهما من تجربته وحدد موقعه في الخارطة المسرحية والثقافية في ليبيا.
تقدم بعد ذلك الأستاذ الكاتب مفتاح قناو ليلقي علينا ورقته التي عنونها بـ “فرج قناو ناسك في محراب المسرح” حيث أرجع إبداعات الكاتب إلى القلق الذي كان يدفعه للإبداع، ذلك القلق الخلاق للوصول إلى المسرحية الحلم بحسب تعبير الأستاذ مفتاح، قبل أن يستعرض نتفا من سيرة المُحتفى به ويتتبع مراحل حياته وروافد ابداعاته التي كان من أهمها أرتياده صحبة المخرج عبدالله الزروق لصالون الحاج محمد حقيق الثقافي، وردنا إلى الأحتفالية التي أقيمت منذ عقود بمناسبة مرور سنة على وفاة الكاتب فرج قناو، بالقبة الفلكية بطرابلس، والتي دعا فيها الكاتب الراحل محمد الزوي إلى تجميع إنتاج قناو وطبعه في كتاب وهي الصرخة التي ذهبت أدراج الرياح، ورغم مرور عقود طويلة لا زالت أعمال الكاتب غير مطبوعة ومعرضة للضياع، نقاط عديدة طرحها الباحث وقام بتحليلها والتعمق فيها قبل أن يسرد علينا ملخصا لمسرحية “متزوج سبعة”. وانتهى الباحث إلى أن الكاتب فرج قناو كان يعبر عن نفسه او بالأصح يكتب نفسه وتطرق إلى أعماله الغنائية، وتلى علينا أخيرا أبيات كان قد كتبها الشاعر الراحل أحمد الحريري في رثاء فرج قناو ووصفه فيها بـ “نجمة الصبح اللامعة”. وهنا تحديدا فُتح المجال لطرح الأسئلة والتعقيب على الورقات المقدمة، فتحدث المسرحي والكاتب عبدالله البوصيري أول المتداخلين أو بالأصح جدد الدعوة للبحث عن تراث الكاتب الراحل قناو لطباعته وحفظه من الأندثار.
في حين تحدث صالح عقيل رفيق الكاتب الراحل قناو عن طباعه وسلوكه الشخصي مبينا حسن خلقه وطيبة سريرته وميله إلى التأمل والصمت وألمح إلى بعض الذكريات التي جمعتهما في أكثر من مكان والأحاديث التي خاضا غمارها في الفن والحياة، وكان واضحا من خلال حديث الأستاذ صالح أنه يكن عاطفة حب قوية ومودة خالصة لصديقه الراحل ورفيق شبابه الذي بدا كما لو أنه يرثيه.
وبهذا القدر من التحليل والمناقشة أعلن الدكتور حسن قرفال عن انتهاء الندوة التي شهدت كعادة أنشطة الجمعية الليبية حضورا لافتا ونخبويا تزين هذه المرة بأهل الفن، حيث حضر كل من الفنان عيسى عبدالحفيظ والفنان عبدالله الشاوش والفنان مفتاح الفقيه والمسرحي عبدالله البوصيري وغيرهم من المهتمين بعالم المسرح الذي يتفق الجميع على أنه أستاذ الشعوب ومعلمها الأول أو ديوانها الحاوي على كل مآثرها وعاداتها وتراثها المادي والمعنوي والحافظ لتاريخها.