نصوص الشرع متناهية، ووقائع الحياة غير متناهية. هذا مع أن مطلوب الشرع أن يُسلم الإنسان وجهه إلى الله، أي أن يتوجه بكليته إليه : (قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت)، فيكون استمداده من شرعه، وتكون نيته طلب مرضاته وكرامته.
ولذلك كان كل عمل من الأعمال يناله أحد الأحكام الشرعية الخمسة : من الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. وكانت الأحكام هكذا لأن الطلب إما أن يكون جازمًا، فهذا الإيجاب، وإما أن يكون مخففًا، فهذا الاستحباب، والنهي كذلك فيه حرمة وكراهة، وإما ألا يكون طلبٌ ولا نهي، فهذه الإباحة.
وما لا تتناوله النصوص تناولاً مباشرًا يمكن أن تتناوله تناولاً غير مباشر بالقياس، والقياس طريقة عقلية لا يسهل الفكاك منها ؛ لأن العقل لا يقبل تفريق المتماثلات، ولأن للشرع في الأحكام مقاصد وغايات.
وأوسع الدوائر هي دائرة الإباحة، وتعرف بسكوت الشرع عن الأمر، وعدم دخوله تحت أصل تدل عليه نصوصه، أو بالنص على إباحته.
والناظر في أحكام الشرع يتبين له أن تناول التفصيلات والجزئيات يكثر كلما اقتربنا من شؤون الفرد، كأحكام الطهارة والعبادة وتنظيم الأسرة، ويقل كلما خرجنا إلى الشؤون العامة للمجتمع، كأحكام المعاملات المالية والسياسية. ذلك أن الأولى يغلب على شأنها الثبات، والأخرى يغلب على شأنها التغير.
والأحكام التي تتناولها النصوص أصولاً أو فروعًا يكون امتثالها بنية اتباع الأمر أو النهي، فالمعنى العبادي ظاهر فيها، وأما المباحات – وهي في الغالب شؤون حيوية غريزية – فالباعث عليها الاستجابة للمطلب الحيوي، ولا ترتقي إلى درجة العبادي إلا باستحضار نية التقرب، أو بتحري حلِّيته، وهو في نفسه مظهر عبادي. ولا بأس بالاستجابة إلى المطلب الحيوي وحده، ولكن هذا باب للتقرب وذكر الله مفتوح لمن يريد أن يدخله.
والحركة في هذا المسكوت عنه – بمعزل عن النية – حركة بشرية، لأنها شؤون تُرك للخبرة البشرية اكتشافها وتنظيمها وترقيتها بمرور الزمن، وتراكم الخبرات.
وبذلك ترى أن مجالات الحياة يشملها الشرع بالنص أو القياس أو النية. وهذا شمول في الاتجاه الرأسي. وللإسلام شمول في الاتجاه الطولي. ذلك أن الحركة البشرية في الزمن لا تُخرج الإنسان من العبودية لله، ببدنه وقلبه، ويبقى علمه وإن اتسع اتساعًا هائلاً لم يخطر على بال بشر من السابقين – قليلاً في جنب علم الله، ويبقى الإنسان وإن خرق الأرض، وصعد في السماء، واستخدم طاقات الكون – ضعيفًا فقيرًا إلى الله.
بل عكس المظنون هو ما نعتقده، وذلك أنه كلما ترقت علوم الإنسان، وظن أنه قادر على تسخير ما في الأرض – ازداد فقره إلى خالق الكون، ومسخر ما في الأرض له، لأنه لا يأمن بدخوله في مجاهيل الخلق، وأسرار الحياة – أن تزل قدمه، أو أن يفسد حياته، أو أن يقع فيما لا تحمد عاقبته. وما نرى من التغيرات الجوية، وظهور الأمراض غير المعروفة من قبل، وصنع الأسلحة المهلكة للحرث والنسل – دليل على أن الترقي العلمي للإنسان مفتقر ضرورة إلى ترقٍّ خلقي مصاحب.
وهذا الإنسان الغربي المتقدم علميًّا وحضاريًّا يقود الحضارة الآن بقيم جزئية قاصرة، يرمي النفايات النووية خارج أرضه، ويغض الطرف عن القتل والاضطهاد خارج أرضه، أو يقتل هو ويسجن ويعذب مستخدمًا أرقى ما وصلت إليه العلوم غير مواطنيه، أو يرمي القمح في البحر لئلا يرخص ثمنه (قيمة هنا)، أو يطلق الغازات من مصانعه فيغير جو الأرض (قيمة الآن)، أو يبيح الشذوذ (قيمة أنا).
وشمول الإسلام الزمني يهيئه هذا المبدأ الاعتقادي، ويهيئه أيضًا مرونة في الشرع تساير اختلاف الأزمنة والأمكنة، بسكوته، أو تعدد الأفهام لبعض نصوصه، أو رعايته للضرورات والتغيرات.
وفي جنب هذا الشمول الطولي للإسلام شمول عَرضي، فهو هَدْي للإنسان كله، في شرق الأرض وغربها، وشمالها وجنوبها. بل إن الإنسان البعيد عن سرة الأرض حيث نعيش نحن في مهبط الأديان، ومدرج الرسل – أحوج إلى هذه القيم ؛ لأننا اكتسبنا بمرور الزمن عادات أصلها من الشرع، مثل قيم الأسرة والرحم، وأما من يحيا في أطراف الأرض فلعله لم يبلغه من هدايات السماء ما يقيم حياته، أو يحفظ وجوده الروحي.
أشعر كما يشعر كثيرون بالتقصير في فهم هذا الدين، والعمل به، والدعوة إليه، وبتخلفنا المخيف عن ركب الحضارة، وعن قيم الدين جميعًا. ولكن عزائي أن الشعور بالتقصير أول الخطوات إلى العمل.
25-3-2009