المقالة

عصيان العراسه

أوصلتني قناعتي بالفراغ السياسي، والأمنى، والإداري في ليبيا إلى حد لا أنتقد معه أي قرار يتفق الناس عليه، مهما معوجا! فلعله يأتي بالفرج من حيث لا أدرى. فلقد وصلنا، في عهد القذافي إلى مرحلة يئسنا فيها من سقوطه، فأسقطه شباب بصدور عارية، واقتنعنا أن الغربيين، وجيراننا، وأشقائنا ينعمون بأموال مشاريعه، ومصلحتهم تقول أنه باق، فدكت طائراتهم أرتاله المسعورة. وقلنا أن ما ينفقه على مدنه المزاجية، ومشاريعه الوهميه فوق اراضي اشقائنا سوف تجعلهم يحافظون على خيمته التي ينصبها إينما يخطر له، فساندونا علنا وخفية.

وبعد ستة اشهر، انطلق الشياب، الذين فقدوا أبنائهم، خلف الشباب الذين فقدوا أطرافهم، يهتفون: “عاشت ليبيا.. الطاغية مات!” وعندما اصبح اليوم التالي، إمتلأت البلاد بطغاة مختلفي الأشكال والألوان والأفكار والأطماع… انتشروا كالفطر، كالفقاع.. في السهول والوديان، وعند نواصي العاصمة، وشوارع بقية المدن، وقاعات المؤتمرات، والمطارات واختلط هذا بذاك، وصار الفرز مستحيلا. وصرنا نسمع، كل يوم، مصطلح جديدا: مصالحة وطنية، عزل سياسي، ازلام، مليشيات، ثوار، شهداء .. مجلس مؤقت، مؤتمر كان مؤقت، ولكنه لم يعد ذلك!.. أحزاب.. وأشياء اخرى مضحكة تطول القائمة بها. كنت في البداية متأثرا متسرعا، أدلو بدلوي، كلما وجدت بئرا، أو مستنقعا! ثم توقف، فقد انتبهت أن كثيرا من المصطلحات يتعامل الناس بها، بعيدا عن معناها الحقيقي، ومن كثرة سوء الفهم شككت أن معلوماتي هي الخاطئة، فلا يعقل أن هذه الاجتماعات والمؤتمرات، والمحلليين السياسيين، والحقوقيين.. ورجال وسيدات المجتمع المدني مخطئين، وأنا، العبد الفقيرلله على صواب! فاحتفظت بالدلو فوق السطوح، وصرت مجرد مراقب، (قياد أجوال) اسمع، اتلصص.. وصدقوني أحببت أن أفهم، لكنني (دخت)!

ولكن الأمر تطور عندي إلى حالة أخشى أن تفقدني عقلي! في البداية، كنت كلما سمعت شيئا عجيبا، أو مضحكا اتبسم في سري، ثم تطورت البسمة إلى ضحكة، تطورت بدورها إلى قهقهة ! آخر هذه الخوارق المضحكة: العصيان المدني، الذي ذكرني بذلك العجوز، صاحب الدكان، في قرية، قالوا اسمها (الفعكات)، طاله التأميم في عهد القذافي، ولكنه لم يقفله، كان يجلس امامه بجوار كانون الشاي، وغالبا ما يشاركه عجوز من جيله، وتناقصت بضاعته، وكان يعلق قميصا، لونه الاصلي أبيض، في مدخل المتجر يعلن به أن المتجر مفتوحا. وكان يتظاهر بالتفاؤل ولا يبدي غضبه لأحد، خصوصا الغرباء عن المنطقة. ذات يوم، وقف على باب متجره شاب، تطلع إلى القميص، وسأله: “عندك بجامات نوم ياحاج؟” عندها فقد الحاج اعصابه وأجابه منفعلا: “تا وين، يافرخ، النوم اللي تريدلا بيجامه؟”.

سؤاله لا يختلف أبدا عن سؤال حيرني منذ بداية الحديث عن العصيان: “أين الحكومة التي ننظم لها عصيان مدني؟” العصيان المدني ينظم، كما تقول قوانين الدنيا لاسقاط حكومة.. حكومة وليس (عراسه) والعراسه لمن لا يعرفها، هو تجمع اصدقاء العريس ليلة فرحه، غالبا في مزرعه، تئن فيها، في البداية، الألات الموسيقية حتى تعتدل الأوتار، وتنظم ايقاعات الدرابيك، والأوكورديون، ويتنحنح المغنيين، أوالمغنيات.. وتبتدئ الموسيقي الشجية، وينتشون معها، ويفرحون، ولكن بعد منتصف الليل يصلون مرحلة يتحلقون فيها افرادا وجماعات، هذا يعزف والثاني يغني اغنيه: للمرحوم حميده درنه، وثان لأم كلثوم، ومرسكاوي. كل مجموعة تغني لصلاح بلادها. أليس هذا ما يشبه، إلى حد كبير، ما يحدث عندنا؟

هل هناك رابط واحد يربط هذه الأسماء المتعددة الكثيرة التي صرنا نسمعها ليل نهار.. هل سمعتم مرة واحدة، أنهم اجتمعوا جميعا من اجل ليبيا؟ معظم الإجتماعات، مالم تكن كلها، تتناول في الغالب مساءلة جزئية محددة! لذلك العصيان المدني لا يسقط حكومة العراسه: العصيان المدني لا معنى له مالم تكن هناك حكومة يريد الشعب اسقاطها.

فدعوني اقتبس لكم خلاصة ما قيل عن العصيان المدني، ومن لا يصدقني (يقوقل) وسوف يجد التالي مكتوبا باية لغة يفضلها: “العصيان المدني هو أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين غير العادلة، وقد استخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة موثقة؛ في الهند (مثل حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية)،

وفي جنوب أفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية. وبالرغم من اشتراك العصيان المدني مع الإضراب (و خصوصا الإضراب العام) في كونهما وسيلتان تستخدمهما الجماهير للمطالبة برفع ظلم أصابها، إلا أن الإضراب متعلق بحقوق العمال في مواجهة صاحب العمل (والذي يمكن أن يكون هو الحكومة).

تمثلت إحدى أكبر تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقا في لجوء المصريين إليه ضد الاحتلال البريطاني في ثورة 1919 السلمية. العصيان المدني هو رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة. وينسب هذا المصطلح للأمريكي هنري دافيد ثورو كان قد استخدمه في بحث له نشر عام 1849، في أعقاب رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك، بعنوان “مقاومة الحكومة المدنية”.

وفي أوروبا، حتى وإن كان اللجوء إلى مفهوم العصيان المدني قد تأخر صياغته، فان فكرة مقاومة قانون جائر أو غير عادل كانت موجودة قبل القرن التاسع عشر. أما اليوم فقد اتسع هذا المفهوم ليشمل العديد من الأشخاص الذين يمارسون أفعالا تسعى للإحلال إعلاميا محل “الحركات المناهضة للدعاية”.

ولا يرى البعض في هذه الأفعال إلا نوعا من الإضرار بالممتلكات. أما البعض الآخر فيجدونها أفعالا مفيدة تهدف إلى تغيير سياسة السلطات” فهل بلغت؟ أو كما كنا نسمع بين حين وآخر من القذافي: “واضح الكلام (هذا)؟” وكنا نردد متبسمين: “واضح”. وليعلم اصدقائي أنني أجلت نشر ها الموضوع حتى يُفض العصيان. فأنا لا أريد أحد يتهمني بأنني ضد الجماعه.

مقالات ذات علاقة

غابت سنة أخرى

عمر أبوالقاسم الككلي

رضوان بوشويشة موثّق الأرواح الليبية المرحة

منصور أبوشناف

أديب ليبَيا الكبير يُوسف القويري فِي ذمة الله

المشرف العام

اترك تعليق