المقالة

صديقي شاعر إثني سياسي… لحظات مـن الحلم، الهـوية والأسلوب

1

بعض أجمل اللحظات هي تلك التي تولد، أثناء الجلسات النقاش حول الأدب وتاريخه، حين تبدأ بلمس فكرة كان قد كتبها مفكر كدوستويفسكي أو بورخيس أو شاعر كالإيرلندي وليام بتلر يتس أو حتى كاتب معاصر كإبراهيم الكوني. فكرة ولدت منذ زمن طويل، يفوق مئة وعشرين سنة، ليس في مقالة بل في النصوص الأدبية، التي تفوق أحياناً كونها مجرد حياة متخيلة لتغدو – في نظر شخص كـ جابر عصفور مثلاً – أقرب إلى اللعنة الممتعة، التي لا يمكن التخلص منها، لمن أدركته مهنة الأدب، إنهم فصيلة نادرة من البشر يعيشون على التفكير وإلتقاط الأفكار اللامعة، المتفرقة بشكل يدعو لليأس، إنما هناك على الدوام خيوط نحيلة مضيئة في الفن، تمكنهم من التوصل لثوابت حقيقة، غالباً ما يحدث هذا أثناء الحوارات عن الفن والحياة، عن اشياء قد تبدو غير دقيقة، كالحديث عن لوحة ايفان الرهيب يقتل ابنه 1873 للفنان الروسي إيليا ريبين، أو أثناء النقاش عن جورج أورويل ومقالته عن اللغة الإنجليزية والسياسة، أو حتى أثناء حديث سطحي عن لوركا والحروب الأسبانية الأهلية باعتبارها تمهيد حقيقي للحرب العالمي الثانية. حياة لا يمكن عثور عليها إلا على نحو مرهق من البحث الورقي، فأوروبا بعد تلك الحروب، تغيرت بشكل جزئي، يتضح هذا مع كل حوار أو نقاش ثقافي. فقبل سنوات عثرتُ على نص حوار بين أرجنتيني وإثنين من إيرلندا، هما الشاعر الحائز على النوبل شيموس هينى وريتشارد كيرني، يدور حول أهم ما يمكن أن يفكر به شخص يعني مشكلة محددة، نقاشها دوستويفسكي قبل أمثر من مئة وعشرين سنة. الحوار وجدته منشوراً على صفحات أخبار الأدب المصرية، التي سقطت مؤخراً من قمتها الثقافية، في الهامش قيل بأن جزء من كتاب حالات العقل States of mind لريتشارد كيرني، الكتاب نفسه تم ترجمته إلى العربية بواسطة إلياس فركوح وحنان شرايخه تحت عنوان: جدل العقل – حوارات آخر القرن. إنه حوار يجدد الثقة في عملية التفكير نفسها، كيفية التنقل بين القول والفعل والاحساس بهما، وولادة الشخصية والهويات الخاصة للجماعات الأدبية التي تعاني معضلة تحديد وجهتها الثقافية الخاصة.على هذا الحوار سأعتمد لأجل كتابة أفكاري، لأنني أظن بأنها تمس ما أفكر فيه أثناء كتابة نص إبداعي أو قراءة نص ما مكتوب.

2

الأمر كله يبدأ بلمس فكرة قديمة، متعلقة بأشخاص نادرين، أمثال دوستويفسكي وبورخيس والشاعر يتيس، ففي مئوية جيمس جويس، جرى الحوار، الذي بدا كأنه حديث أدبي عن مشاريع أسلوبية، غرق فيها جيمس جويس لينتج كتاب لم يستطع خورخي لويس بورخيس، الأسم الأكثر إلتصاقاً بالكتب والمكتبات أن يكملها، ثم يعرض بأن في أسلوب جويس أمر مختلف، فهو حين يقرأ له، لا يتعلق بذهنه القصص العظيمة للشخصيات كما يحدث حين يقرأ لتولستوي مثلاً، بل يبدو له أن أهم ما لدى جويس هو أسلوب كتابته، واصطفاف الكلمات على نحو شعري، كأن جويس يجعل من النثر العادي شعراً بإضفاء الموسيقى، ويؤكد بأن الترجمات كتبه إلى الأسبانية أو اللغات الناشئة عن اللاتينية ما تزال ضحلة، مقتنعاً بأن اللغات الأنجلو ساكسونية والألمانية هي الأكثر القدرة على حفاظ بنسق تراكيبه وتناغمها. في نظر بورخيس إن جويس يعاني مكابدة في الكتابة، المكابدة التي تبدو أقرب إلى اللا إنتماء الدقيق للغة التي يكتب بها، فالإنجليزي كديكنز لن يشعر بها، كما إن بورخيس الذي يعاني من هذه الناحية تقريباً يفهم معنى أن يكتب شخص ما من موقع اللا إنتماء. فاللغة إذ ذاك تكون مغايرة تماماً لحقيقتها، ويتضح هذا من الأسلوب، حين يكون متحرراً، من القمع الذاتي، ومحاولة ربط بين التفكير والكتابة، ففي رأى بورخيس إن أسلوب جويس هو ما سبب له الصدمة، إنه أمر مغاير عن الانجليزية التي يعرفها أو يقرأها لكيبلينغ، ديكينز أو ستفينسون. لتفسير هذا ربط الأمر مباشر بكون الرجل إيرلندياً. فعلاً اكتشف مع الأيام علاقته بإيرلنديين، الذي قرأ لهم مبكراً في مكتبة والده المولع بهم، بورخيس يتذكر بأن والده لقنه فلسفة جورج بيركلي، حين كان في العاشرة ما ورائيات بيركلي المثالية، سأله ذات مرة متناولاً برتقالة: ما لون هذه الفاكهة؟ فأجاب: برتقالي. فسأل الأب مجدداً: ” أموجود هذا اللون في البرتقالة أم في إدراكك الحسي له؟ وطعم الحلاوة – أهو في البرتقالة نفسها أم هي الحاسة التي في لسانك تجعلها حلوة؟ “. بهذه الطريقة العملية بدأت أفكار بورخيس، تولد من طفولته بعد اكتشافه لإسلوب جويس. لخص الأمر على نحو هادئ: بكون العالم الخارجي يتكون وفقاً التي نكتشفه بها أو نتخيله على هيئتها، وإن الواقع والخيال يرتبطان ببعضهما بعضاً، وإن أفكارنا الخاصة ما هي إلا خيالات ابداعية. إن الفكرة الأسلوب في نظر بورخيس مرتبطة على وثيق بالتفكير وإن جويس لا بد وصل لهذه القمة بالمكابدة في كتابته. شيموس هيني يعرف هذا جيداً لكونه إيرلندي يعاني ذات معضلات جويس: قال بأن جويس قال على لسان شخصية ستيفن: بأنه حين يستخدم اللغة الإنجليزية يشعر كأنه في بيته غيره. فجويس الايرلندي، يقتحم اللغة الإنجليزية من الخارج، في زمن شهد تمرداً هائلاً، كان الأمر وطنياً صرف. ريتشارد كيرني الإيرلندي يعيد كل شيء إلى بدايات المعضلة، فأسلوب جويس الصادم، ليس سوى صدمة جويس نفسه، في داخله تجاه كونه ايرلندياً يكتب بلغة غيره وإنه يتصرف كشخص غير مرتاح، قال كيرني تعقيباً على ما مر به جويس: إنه عدم راحة روحية ومكابدة، كما إنه انسلاخ ثقافي ما عاناه جويس. فأسلوب لم يأتي نتيجة للترف، بل أقرب ليأس مطبق من الحديث بصوته الحقيقي، الإيرلنديون يعتقدون بأنه أشبه بشخص يتكلم من بطنه. بورخيس ايضاً أعتقد بأنه يعاني انسلاخاً ثقافياً أو نتائج ما بعد الكولونيالية، حيث بكونه يكتب بالأسبانية من موقع اللا إنتماء الدقيق كما عبر، في حين أن اللغة الأسبانية نفسها تعاني التهميش.

3

الفقرة الثانية تحمل الكثير من الاقتباسات، كما إنها تربط بين افكار مميزة إنطلقت كسباق الخيول، في حديث صريح جرى سنة 1982 احتفالاً بمئوية جيمس جويس، كوننا نعيد كل شيء لزمن، بدأ خلاله أدباء كثر بالبحث عن أصوات داخل لغات، أخرى. فإبراهيم الكوني الذي بدأ نشر رواياته المدهشة باللغة العربية، يؤكداً بأنه يبحث عن لغة الروح ليكتب، فيما يمكن ربط كل شيء بعدم الراحة التي كان يشعر بها جويس في اللغة الانجليزية أو ما يعاني منه شخص هادئ مثل بورخيس، حتى إنه يضيق بالمحدودية اللغة التي يعبر بها عن نفسه، الأسبانية. ذاك التوتر دائماً مرتبط بأمور تبدو متعلقة بالحياة بشكل حقيقي، فالقمع اللغوي والثقافي الذي يعانيه الإيرلنديين، يجعل شخصاً روائياً مثل ريتشارد كيرني، يعاني انسلاخاً ثقافياً، ويسبب توتر عميق، يدفعه للبحث عن أسبابه في حوارات كثيرة، تضم اللغويين أمثال نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد والبغارية جوليا كريستيفا، ليتحدث عن الغربة على الذات، كان واضحاً أن هناك أمر متعلق بأسلوب الكتاب والانسلاخ وعدم الشعور بالكفاية الروحية، لدى الكتابة بلغة أخرى، تمارس الضغط على لغتك الأصلية، إنه أمر متناقض على نحو ما، أن يبدع جويس في اللغة الانجليزية في حين أنه يشعر بعدم الراحة في رحابها أو أن يرى بورخيس أن الأسبانية تعاني التهميش، كما سيصرح ماريو باراغاس يوسا لا حقاً عن عدم جمال اللغة الأسبانية وعدم قدرتها على الاتيان بالتعابير الرقيقة الصوفية، في حين يعتبر العالم أن أمريكا اللاتينية تتحدث باللغات الكولونيالية، كما سيعيد باراغاس يوسا نفسه اكتشافه في كتاب بعد الجائزة عن حلم السلتي مقتفياً أثار شخص إيرلندي، هاجم بالذات الاستعمار، ووصل إلى قناعات قوية ضد ما تفعله قوى الاستعمارية من قتل للذات، وخنق للهويات. باراغاس يوسا، مثل بورخيس يعاني ذاك الإنسلاخ الثقافي الذي تركه على حافة أوروبا، بعيداً عن عمقها، دون أن يعرف أحد تلك الأوروبا المقصودة، إن كان شخص مثل كيرني، يشكك في الهوية الأوروبية نفسها، دون ثقافات حقيقية فيها، مثل الإيرلندية، أو الاستكلندية أو حتى ثقافات أوروبا الشرقية التي بدأت مؤخراً باكتشاف نفسها، في نظر هؤلاء المحاورين فالأمر يدور بجدية حول شيء سياسي، يمس الأمبراطورية نفسها، وإن العالم الحديث، ليس حديثاً كفاية ليؤمن لشخص مثل جويس حريته الروحية، فالكاتب ماريو باراغاس يوسا يقول بأنها حتى سنة 1893 تقريباً كانت هناك فقط، كتب بعدد أصابع اليد الواحدة، نُشرت بواسطة الرابطة الغيلية ” غليك ليغ ” تنشط اللغة الغيلية الإيرلندية والثقافة الإيرلندية، إنها الفترة التي عاد فيها بطله اكتشاف نفسه، كما إنها سنة تسبق ظهور: صورة الفنان في شبابه، توضح أن المجتمع الإيرلندي وأهالي دبلن كانوا على حافة ثورة حقيقة لأجل ذواتهم. إن السباق الذي انطلق سريعاً، حتى إن بطل يوسا الحقيقي: روجر كيسمنت، بدأ يكتب في صحفها باسماء مستعارة، باللغة الإنجليزية، حتى إن القنصل البريطاني في جمهورية الكونغو المحتلة من قبل بلجيكا أعلن لإبن عمه: ” إنني باعتباري إيرلنديا، أكره الإمبراطورية البريطانية “. ارتبط ذلك باكتشافه للثقافة الإيرلندية، لأسلوب تفكير جديد ومستقل، أمر لم يستطع جويس أن يُقدم عليه، صراحة. بالنسبة لجويس إن ولادة فكر قومي، أقرب لمعضلة نفسية، أقرب للخيانة، حين يكتب بالإنجليزية، ما سماه كيرني بـ: عدم الراحة الروحية.

4

إن اللغة حاضنة للفكر السياسي، كما إنها حاضنة للفكر عموماً. وهو أمر داخلي قبل أن يغدو مكتوباً على الورق. إنه أشبه بالبرتقالة البورخيسية، الواقع والمتخيل. بالنسبة لخورخي بورخيس، ابراهيم الكوني، مرتبطة بالإكتشاف الذات الأول. في حين يحاول شيموس هينى أن يحفر ذاكرة بورخيس عميقاً ليصل إلى لحظة محددة وواضحة، نجد أن بورخيس نفسه، يمثل مسرحية عميقة، تهدف للوصول، فالفكرة بالنسبة إليه على الدوام مرتبطة بالطفولة، حين كان يحلم مراراً، أو يتذكر قراءته للإٌيرلنديين كجورج برنارد شو، بيركلي، أوسكار وايلد التي تبدو بالنسبة إليه، أقرب للعب والعبث المضحك، باللغة، إنما يتصف بالعمق الفكري. هذه صفة المتعلقة بالعبث واللعب بالكلمات تميز كتابات إبراهيم الكوني، فالسخرية الهائلة والضحكات الغريبة، التي يطلقها بعض الشخصيات، واصرار على دمج لغة التماهق ضمن حوارات تتم قبل أكثر من ستة الآلاف سنة قبل الميلاد، من قبل عراف طارقي أو الإيموهاغ، لتبدو الصفة الأكثر جلاء، كالتي اتصف بها أدباء إيرلندا، أمثال جورج برنارد شو وأبطال جيمس جويس، وحتى لشخص متأثر بشدة بالإيرلنديين كـ: بورخيس، ففي عمق كتابات الأولى لإبراهيم الكوني يمكن ايجاد بعض أكثر الأمور الحميمية لبورخيس، ففي رواية التبر مثلاً، لحظة عميقة، حين يحلم البطل أوخيد بأنه محبوس داخل بيت، بلا أبواب ولا نوافذ، مظلم، لا يستطيع رؤية شيء من حوله، إلا إنه يشعر بملاحقة عدو خفي، يتبعه من غرفة لغرفة، فيما هو يتلمس الجدارن الرطبة ليجد طريقه عبر الغرف، دون أن يتوقف احساسه بوجود خطر يتبعه. هذا المشهد يظهر في حوار الإيرلنديين مع بورخيس سنة 1982، حتى إن بورخيس يصفه تماماً كما هو، مما يؤكد بأن ابراهيم الكوني وجد رمزاً حقيقياً في هذه الفكرة، وإنها واحدة من حالاته العقلية التي ارتبطت بالأديب العالمي بورخيس.

إنها اللغة الداخلية، مادة الحلم، التي تحفظ الفكر. كما إنها الملجأ الحقيقي، لأشخاص مثل ابراهيم الكوني وبورخيس وحتى جيمس جويس. إن الماورائيات والدين، بالنسبة لهم، يمتلك أصلاً مشتركاً بالأدب، ليس لأنه الجميع يؤمنون بهذا، بل لأن هذا يجعلهم أفضل من الجميع، من الناحية التفكير وأسلوب اللغوي، حتى وهم يستخدمون لغة تضطهد لغتهم الأم، بحيث يكون التفكير الحقيقي بلغة الأم بينما الكتابة، تكون باللغة السياسية السائدة. ذات مرة حين احتج جورج بيركلي ضد جون لوك الفيلسوف الإنجليزي: نحن الإيرلنديين، نفكر بطريقة مغايرة. هذا الأمر أبهج الشاعر اٌيرلندي وليام بتلر يتيس، اعتبره: ولادة فكر وطني إيرلندي. يتيس نفسه، واجه الكلمات التي قادته، لتفكير مغاير ووطني، كتب الشعر، أحس بالإنقسام، دخل في مواجه شخصية ضد نفسه، كابد وجوده، وصل لذروة الأفكار والحساسية الوطنية، ثم دخل في جمعيات سرية، مناهضة للإستعمار، ترأس لمدة تسع سنوات من الثورة السياسية، نتجت عن ترأسه لجماعة وولف تون The Wolfe Tone Association وعضويته في منظمة الأخوان الإيرالنديين الجمهوريين السرية I.R.B إن ما يربط بين الشعر والسياسة في قصائد يتيس يمكن ملاحظته في مسيرته السياسية، إنها مجرد لمحات في قصائده، لكنها مرتبطة بالفكرة الإيرلندية التي تعاني اللغة الإنجليزية في رؤوسهم، قبل أن يعانون الإنجليز أنفسهم، في الفترة الأخيرة تغير الأمر كثيراً لكن ما يمثله شيموس هينى بالنسبة لتاريخ الأدب الإيرلندي، يبين بأن ساحة المعركة لا تزال قائمة، وإنها اتخذت مسارات أكثر اتساعاً، فالسياسية، تزداد قوة، اللغة تزداد سطوة، فما استطاع الإنجليز اخضاعه زمن وليام بتلر يتيس، جورج برنارد شو أو جورج بيركلي، لا يمكن اخضاعه في هذا الزمن، إن الأمر يخدش الثقافات الأوروبية الأخرى، كما يخدش طبيعة جميع الثقافات المغايرة في العالم، الكردية، الطارقية، التباوية والأمازيغية والقتالونية. إن الفكر القومي، لم يعد في الحقيقة أمر يعيش في نطاق اللغة القومية، بل يتعدى الأمر ليدخل اللغة المسيطرة كالإنجليزية، فجويس في الإنجليزية ليس كاتباً أنجليزياً، بل كاتب إيرلندي، ابراهيم الكوني ليس كاتباً عربياً، بل كاتب طارقي. يحملان كليهما فكراً مغايراً، يسيء الإنجليز والعرب فهم الأمر، قد يتساءلون: هل جويس انجليزي، هل ابراهيم الكوني عربي؟ سؤال بسيط يحمل تحته، عنف الواقع نفسه. فالإيرلندي الذي كافح طوال القرون الماضية، استطاع أن يحقق أغلب أحلامه السياسية، إنما في دول بعيدة كأمريكا، بانتظار أن يتحقق وطنيته في رقعة الوطن، وأن يتحدثوا الغيلية ضمن حكم كامل الأهلية، فساحة الحرب، بدأت في الكلمات، قبل الميادين، قبل سنوات كتب الأديب التركي الحائز على النوبل أورهان باموك: كالعادة، الأدب يسبق الحياة. ليس غريباً أن يكون أورهان باموك نفسه كاتباً سياسياً. كاتب آخر يعتبره الكثيرون، صوتاً مختلفاً في تركيا، بحيث يتهم بإهاناته المتعمدة للقومية التركية، مما يذكر بقوة ما كان يتعرض له دوستويفسكي في روسيا القيصرية، إن التناقض الذي يعيشه أورهان باموك أمر طبيعي جداً، نظراً لم واجهه أسلافه من الأدباء حول العالم، آخرهم ابراهيم الكوني الذي أعلن بأنه يخشى على حياته بسبب الحكم السياسي الليبي الحالي – عقب الثورة. هذا لم يمنعه من ذكر بعض رغباته السياسية التي توجت برأيه حول منطقة الأزواد، لتحقيق دولة طارقية فيها، تنعم باستقلال تام، أمر حققه في كل كتاباته التي بنت التاريخ السياسي للتجمعات القبلية داخل المجتمع الطارقي. إنها الدقة السياسية التي أبدعها أورهان باموك، فالأدب كالحلم، أمر يسبق الحياة على الدوام.

5

لنعتبر أن هناك عاملاً سياسياً، في أسلوب الكتابي الذي اتبعه أغلب أدباء إيرلندا، وكل من واجه عنف مجتمعه ذي التوجهات مخالفة لعالمه اللغوي الداخلي، بحيث تتحول قوة أفكاره إلى داخل كلمات، في أسلوب مغاير تماماً عن مجتمعه جله، ليغدو بالرغم كبح جماح الخلاف، معادياً للمجتمع الذي يكتب لأجله. إنما هذا الأمر لا يعني أنه ينطبق على جميع من يخالف توجهات مجتمعه، بل يعني بضبط إن الأسلوب المغاير، الذي يظهر بيناً قوياً، يعني أن هناك صراع داخلي، عميق يضطرب بين كل كلمة وأخرى، في داخل اللغة التي تحمل طبائع الاستعمار والاستبداد كالإنجليزية في مواجهة الغيلية الإيرلندية، أو اللغة العربية أمام اللغة التباوية، إنها مسائل تحمل صراع داخلي لا يشعر به أصحاب اللغة السائدة، سياسياً في بعض البلدان، لا يمكن للإنجليزي أن يفهم عمق الخلاف الذي شعر به جويس أو المكابدة التي عاناه هو شخصياً أو التي يعانيها أبناء قومه، أو تلك اللحظة التي أحس فيها روجر كيسمنت بأنه يشعر بالكراهية للإمبراطورية البريطانية، لمجرد أنه، قضى أياماً في جوار بنى عمه، وشاهد كيف يجاهدون لصناعة لغتهم الخاصة، تلك الكراهية العميقة أتت من شخص، وصل أعلى المراتب السياسية في الإمبراطورية البريطانية، أي إنه لم يكن يعني التهميش المعيشي أو إنه أقل من أي من رعايا الإمبراطور، بل يعني بضبط أن المساواة في الحقوق مع الإنكليز لم يكن المطلب الحقيقي بالنسبة إليه، الحصول على حقوق سياسية ذاتها، والصعود الطبقي ليغدو قنصلاً للملك في أغلب بقاع العالم، وكاتباً لأكثر تقرير مثير للجدل في عصره، هذا لم يكن هو ما يطمح إليه، ما عرفه لدى اهله البسطاء هو الآتي: إن فقدان لغته، حدثت بسبب الإمبراطور، هو ليس انكليزياً، لذا كإيرلندي، يجب أن يشعر بالكراهية للإمبرطورية البريطانية. إنه الجانب المظلم الذي اكتشفه روجر كيسمنت، في كتاب حلم السلتي لماريو باراغاس يوسا. قاده الأمر، كما حدث مع بورخيس، الكوني، إن يبحث عن طريق مختلف للسياسة الحاكمة، روجر كيسمنت، غير أسلوب ديانته، فبعد أن كان أنجليكانياً، يقرر فجأة أن يتحول إلى الديانة الكاثوليكيةوقد كانت أمه قامت بتعميده منذ الصغر، إذ وجد اسمه بين سجلات الكنيسة الكاثوليكية، كما كانت فرحته عظيمة أن يجد نفسه يقاوم لأجل اللغة الإيرلندية، الأسلوب الحقيقي الذي ضاع منه طويلاً، حتى إنه فصل نهائياً ديانته عن ديانة الإمبراطورية. في الحوار الذي دار بين الإيرلنديين وبورخيس، استخدم ريتشارد كيرني كلمة ديانة لوصف الكاثوليكية، مع إن الجميع يعرفون بأنها ليست إلا مذهب من الديانة المسيحية، إنما الفكرة تكمن في العزل التام، بحيث يغدو الأمر مقدساً كالديانة نفسها، الفصل التام عن تقاليد الدولة البريطانية، والذي قد يتسبب بانقسام حاد حتى في الدولة الإيرلندية، نفسها، إنما الأمر واقع في كل مكان، فإبراهيم الكوني، صوفي، يختلف عن جل الشعب الليبي، الأمازيغ إباضيون، وقد ذكر مارمول كاربخال العسكري الأسباني الذي عاش بين الموريسكيين، أثناء زياراته في القرن الخامس عشر لليبيا، بأنهم كانوا يحتفلون بسبب انتصارات دول اصفهان على الأتراك، إن اللغة والأسلوب أمران مرتبطان بالواقع والخيال معاً، فالأسلوب الغير المفهوم في أحيان كثيرة يعني عدم فهم للواقع، أو تقصير شديدفي الفهم الذاتي. فشخص كما الذي يمثله دوستويفسكي عاني من مساءلة عدم فهم الذاتي بشكل واضح في كتاباته، إذ عمل بطريقة دائمة لأجل البحث عن الشخية الروسية الحقيقية، عن ذاك الفاصل أو الرابط بين الأوروبيين والروس، كم كان الأمر مرهقاً بالنسبة إليه، فمنذ بزغ فجر موهبته، مع الفقراء أقر جميع الروس بأنه أديب لديه ما يقوله، مجدوه لدرجة إنهم دعوه لمجالس عظماء الروسية، أمثال بيلينسكي، الذ أفرد مقالات بدا فيها متأثراً، أشد التأثر بظهور أديب كدوستويفسكي، ثم حدث أمر ما جعل كل شيء ينهار، فقد رأى الشاب الجديد، أولئك الذين مجدوه في البداية، يصمتون عند نتاجاته الأدبية الأخرى، ثم يشرعون في السخرية منها، لحد أن بعضهم كتورغنيف كتب قصائد في ذم الشاب، بل أعلنوا بأنه انهار سريعاً ولم يعد بقادر على تقديم شيء مهم، إن أفضل كتابات دوستويفسكي، التي يعتقد الناس الأن بأنه عظيمة وغير قابلة للنقاش حول عظمتها، كان نقاد الروس في تلك الفترة، يستقبلونها ككتابات وضيعة، لا ترتقي لقمم التي كان يبدعها تولستوي حتى إن تشيخوف الهادئ كان يكره دوستويفسكي من الأعماق. إن أسلوب دوستويفسكي غير عادي، حتى من الترجمة، يرى المتابع كم هو استفزازي، يحمل تماماً ما اسماه بورخيس بالتلاعب أو العبث باللغة، شيء أقرب إلى السخرية، ربما سببت كل تلك المخاوف لأغلب قطاعات الشعب الروسي، حتى إنهم عاقبوا الشاب الذي لم يعد شاباً بالتجاهل، ولم يعترفوا به إلى أن عاد بقوة في خطاب عن أعظم مقدساتهم بوشكين. إن دوستويفسكي العظيم حين لم يفكر مثل الروس، تغيرت طريقة كتابته، كما إنه صار في نظر النقاد أمثال بيلينيسكي ثقلاً على اللغة الروسية. إن أحداً لا يمكنه أن يتجاهل المشاكل السياسية التي تعرض لها دوستويفسكي في حياته المبكرة، إذ تم القبض عليه لإرتياده منزل رجل سياسي، مناهض لحكم القيصر، ومردد لأفكار شخص كباكونين عقب ثورة سياسية في الجوار. يقال بأنه تم القبض عليه وإلقاءه في سجن وتممنع الكتب والورق عنه، بحيث لم يستطع أن يكتب كلمة وفي احد الأيام سمحوا له بالكتابة، فكتب قصة الجندي، دوستويفسكيشرح الأمر بسخرية في رواية الأبله. في جهة أخرى، حين تم القبض على روجر كيسمنت، كان نادماً لأنه لم يتعلم اللغة الإيرلندية، كان يشكو لصديقته المؤرخة الإيرلندية: أليس ستوبفورد غرين. إن الوعي الذاتي في مواجهة عالم مغاير، هو ما ينتج فكراً بأسلوب مغاير، في مواجهة وضع سياسي أو عسكري أو ثقافي أو حتى ديني. فالحلم الكاثوليكي بالنسبة لبورخيس كان مرتبطاً بطفولته الدينية، ليواجه السياسة في عالمه الراشد، المليء بالتحديات، بدأت أساساً بسبب تفكيره وتشبثه بعالم الأحلام الطفولي. إن تلك الطفولة تسمح له بالعبث بالكلمات كالدمى ليبدع أسلوبه الخاص، بلغة مغايرة عن تلك التي يفكر بها، بحيث يغدو تلك اللغة معزولة تماماً عن مصاد قوتها، فالأفكار الإيرلندية مثلاً تمليء كتابات اٌيرلنديين بالإنجليزية، لتنزع قوة اللغة، وترسل للعالم أن هناك عشرات من الإيرلنديين، يحققون فكراً جديداً للعالم، وإنهم شعب عظيم بلا شك، والإنجليز أنفسهم سيعرفون هذا، أن يكتبوا بهذه الطريقة في لغة تقوم أساساً على قتل لغتهم لأمر عجيب، ما لا يعرفونه هو أن الإيرلنديين هم من ينزعون من الإنجليزية سطوتها، يجعلون منها أداة إيرلنديا أخرى لإيصال أفكارهم الفذة، لنتخيل الإنجليزية من دون جيمس جويس أوجورج برنارد شو أو من دون جورج بيركلي أوأوسكار وايلد أو شيموس هيني أو جون بنيفيل. إن الإيرلنديين، أنتقموا لأنفسهم من الإنجليزية، حسموا موقفهم بشكل جيد، وهاهم يقتربون من وضع اللمسات الأخرى لإسلوبهم الخاص، فالغيلية ظلت تعيش في عمق اللغة الإنجليزية، إنها فكر.

بنغازي – مارس 2014

مقالات ذات علاقة

النقد يحتاج ناقد والناقد يحتاج أدوات

المشرف العام

نوار «بوقرعون»

محمد عقيلة العمامي

الـقـــنـصـل

مفتاح العماري

اترك تعليق