رواية الفندق الجديد الكاملة – المجلد الثاني: مقتطفات من الفصل الثالث
في نهاية الخمسينات.. وفي وسعاية بالقرب من موقف الجنسية وسط مدينة بنغازي كانت هناك سيارة خضراء باهتة اللون نوع (بلمن)، تقف كعادتها منتظرة، بينما كان سائقها (جبريل) مترجلا منها،يترقب الواصلين للمحطة، كان يتلفت هنا وهناك في اتجاه الكاروات القادمة والكاليصات، محاولا استمالة بعضهم للركوب معه ونقلهم لمبتغاهم.
وها هو ينجح أخيرا، فقد لمح عائلة تتجه إلي سيارته، سارع الكبار منهم لحمل طفليهما، كانت الأسرة تتكون من أب وأم و يحاولا إجلاس طفليهما الكسيحين في الحافلة الصغيرة، يبدو أنهما لا يقويان علي المشي، ثم قاموا بترتيب صناديقهم وصررهم وشنطهم في المقعد الخلفي، لكن المرأة أصرت أن تبقي مذياعا جديدا، بيدها و أن تجلس به وتضعه في حجرها!.
جلست في المقعد الخلفي مع زوجها
وماهي إلا لحظات حتي اقتربت سيدة في مقتبل العمر ومعها طفلا لا يتجاوز عمره الخامسة، كان لا ينفك عن الصراخ، فطلبت الأذن من السائق (جبريل) لإيصالهما الي وجهتهم خلف منارة سيدي خريبيش. فسمح لها بالصعود بطفلها قائلا باللهجة الليبية:
ليش لا… تقدري تركبي، ثم بدأ يتحرك بسيارته يشق العنان الي مبتغي ركابها.
قال جبريل للمرأة أم الطفل:
ممكن نطلب منك طلب؟
قالت المرأة بعد أن لمعت عيناها ببريقا غامضا:
تفضل يا خويا اللي نقدر عليه، موش نقصر، معاك.
السائق جبريل:
العيل حاولي تسكتيه
: ترد أم الطفل
يسترني الله معاك
وأضافت ها من الولادة وهو ايعيط ويصرخ، ماعرفتش شنو اندير معاه؟
السائق جبريل:
لا حول ولا قوة الا بالله
وأضافت:
كنت بيه في زيارة لأخواله في أرض الزيتون، قوقزني ماخلانيش نأخذ راحتي
السائق جبريل:
أنت من ارض الزيتون؟ مسلاتة؟
أم الرضيع:
لا يا خويا ما ينكر أصله غير الكلب كرمك الله، الحق انا غجرية مولودة في المناطق الحدودية في بلاد الشام أصلا بس بعد الحرب العالمية الثانية، هاجرنا مع أهلنا لليبيا، وتريحنا في مدينة بها كثير من أشجار الزيتون، فترة لاباس بها، ثم انتقلنا لمدينتكم رباية الذائح بنغازي
وأضافت:
بالضبط بالضبط خويا انا انزور في سيدي خريبيش خلف المنارة، من خمس سنوات فاتت.
السائق جبريل في قرارة نفسه:
ايييه ياما لامه يا بنغازي من ذوايح.
ثم أردف بصوت خفيض:
أكملي أكملي، ولاباس العيل ديمة ايعيط؟، وعنده إسهال، رائحته امعفلقه، السيارة من أول ما ركبتي فيها والذبان الخضر امعبي السيارة؟
ثم خاطب بقية الركاب:
يا ريت تفتحوا رواشن اللتبوس
ردت المرأة:
الله غالب سامحني، طفلي (موسي) مصاب بإسهال، ما يقعد شيء في بطنه اللي يأكلها ايطلعها طول.
وأضافت:
أرجوك تحملنا ووصلنا تربح فينا اجر.
في هذا الأثناء قام الطفل بالدعس علي مسند الكرسي الأمامي بأسنانه اما يديه فدعس بها علي جهاز الراديو، في غفلة من الانتباه.
حاولت أمه أن تواري فعلة طفلها! فقالت:
تعرف ما يبطلش إلا لما يسمع في الراديو النشرة!
وأضافت متسائلة:
عندك نشرة أخبار؟
تدخلت المرأة الأخرى بالإجابة بعد أن تفطنت لما حدث للراديو الذي في حجرها فأنقذته من العبث الذي سيجري له من هذا الطفل المشكلة فقالت:
كان علي الراديو بس.. هذا راديو.
وأدارت البطمة، وبمجرد سماع الطفل للنشرة، جحظ بعينيه واقترب بأذنيه من اسبيكارات الراديو، أرخي الطفل الراديو، ثم ترس بيديه مع أسنانه في كرسي السائق من الخلف وبدأ يحرك رجليه بطريقة غريبة محاولا القفز الي مقعد القيادة، في منظر مرتبك، فتساقطت فضلاته ومخرجات بطنه، علي جميع كراسي السيارة,
مما اجبر السائق التعريج علي شارع الشيشمة في منطقة السكابلي حتي يقوم بتنظيف سيارته، ويقوم الركاب بتنظيف ثيابهم من جراء ما حدث من فوضي
. انطلقت دولايب المركبة من جديد
تلتهم إسفلت الطريق، حتي ولجوا إلي منطقة سي خريبيش.
السائق جبريل مخاطبا ومودعا أم موسي بطريقة ساخرة، بعد أن وصلت عنوان سكنها:
ردي بالك من طفلك واضح انه عنده مستقبل، ممكن حيكون مديرا في الاذاعة ها ها ها.
أم موسي ترد ضاحكة بلهجة خليط مابين المصري والسوري والليبي:
بتفتكر،حيصير منه ويبقي كاتب نشرات أد الدنيا؟ في راديو بنغازي مثلا أو في الصاكافة.
وأضافت بعد أن احتضنت طفلها بحنان زائد ومنحته قبله علي انفه الطويل جدا قائلة:
يابرني يارب هالولد النايض
تمتم السائق جبريل:
ثم اضاف:
“القط في عين أمه غزال” ايييه ياما لامه يا بنغازي من ذوايح.
واردفت أم موسي متسائلة وهي تبتعد:
كيف اجعل منه مديرا للاذاعة أو الصكافة؟
رد جميع الركاب والسائق في نفس اللحظة بصوت عال وساخر وهي تبتعد:
خليه يكتب تقارير بصاصة في عباد الله،
أدار السائق جبريل اتجاه سيارته، من جديد، وأنطلق بعد أن قام بتغيير موجة المذياع، فبدأ يصدح بأغنية للاسمراني (عبد الحليم حافظ) الجديدة (في يوم في شهر في سنة)، وما أن تهادت الكلمات الي مسمع الركاب المتبقيين حتي بدأت (نجوي ) تردح وتتمايل بجسدها الممشوق طربا، وفجأة أدار السائق سيارته، يمينا، حالما تهادي الي مسامعه آذان الظهر، معرجا في اتجاه سوق الجريد ليؤدي الفريضة بمسجد بالروين المفضل للصلاة لديه
صاح الرجل والمرأة الراكبين معه
خوذ شمالك يا أسطي
شمال يا افندينا
تمتم (جبريل)
الباين أنهم موش ليبيين حتي هم!!
المسجد يقع علي اليمين..
وأضاف:
أنه وقت صلاة الظهر، وترجل من السيارة بعد أن أوقف محركها طالبا منهم السماح له بأداء صلاة الظهر حاضرا.
تململ الركاب من جراء الوقوف ثم تجرأت الراكبة (نجوي) باللهجة الليبية العامية حين قالت:
صلاتك عز الزين، يا خوي، بس موش لو كنت وصلتنا الأول، وحتلحق عليه الظهر توا اتصليه حتي في حوشكم؟
رد السائق (جبريل) باللهجة الليبية:
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وسعي بالك يا بنت الناس، انا احسبت اتريدي تنشديني علي مكان مصلي الصبايا؟ وتنزلي اتصلي الظهر!
والتفت الي زوجها (قدري) وقال:
ادويلك كلمة يا راجل، وتوكل معايا صليلك ركعتين علي حالك. تربح اجر انت راك خاش علي ناس جديدة ومتسبب في مدينة واسعة وبادية تزحم بنغازي بدت اتلم من كل جلاوي البلاد..
قدري:
بالله عليك اعفيني ياخويا، خليني مع هلي ندردش معاهم، وعندك الأذن.
عدي انت توكل صلي لربك، ربنا ايتقبل منك ياخويا.
وبمجرد مغادرة السائق (جبريل) لأداء الصلاة، حتي قامت (نجوي) بتشغيل جهاز مذياعها التي كانت تضعه في حجرها طوال الطريق وبدأت تكمل استماع نفس الأغنية التي تبث من راديو بنغازي حينها.
عاد (جبريل) لينطلق بركابه من جديد الي المنطقة السكنية، فهي منطقة جديدة، سيكون عنائه ضئيلا في البحث عن سكن يأويهم، فهؤلاء الغرباء قد قدموا من اقصي البلاد هذه المرة.