مدينة غدامس
تقارير

غدامس .. سماحة الأهل

صورة أحد البيوت الغدامسية. الصورة: عن صفحة الهيئة العامة للسياحة.

إنها غدامس التى تقع في غرب ليبيا، صنفتها منظمة اليونسكو، ثالث مدينة قديمة آهلة بالسكان في العالم. استناداً إلى ما أكدته الحفريات والمنحوتات والنقوش الحجرية، التي شهدت عن وجود حياة بها منذ أكثر من عشرة ألاف عام. ذكرها “بلين” المؤرخ الروماني في كتابه التاريخ الطبيعي، وكتب عنها “بروكيليوس القيصرى” في كتابه العمائر، وصفها ابن خلدون في مقدمته: [قصورها ذات سحر وفن، وهى محطة للقوافل وباب الدخول السودان ] اعتبرها ابن الحميرى التونسي، في كتابه الروض المعطار فى إخبار الأقطار: [ مدينة أزلية، وفيها غرائب البناء، واثار ملوك سالفة، لم تكن صحراء وإنها حصينة عامرة ]، ذكرها شهاب الدين الحموي في كتابه معجم البلدان: [ عليها اثر بنيان عجيب ]. اشتهرت بتسمياتها المتعددة، عروس الصحراء، لؤلؤة الصحراء، زنبقة الصحراء، بوابة الصحراء، بلاد الجلد والنحاس والتبر واللبان والعاج وريش النعام. ظلت عبر كل القرون، الملجأ الآمن بظلالها وغذائها، كواحة للمسافر المنهك ومدينة من أشهر المدن في أفريقيا الشمالية، لعبت دورا تجاريا بين شمال وجنوب الصحراء، كمحطة للقوافل عبر تاريخها الطويل، والذي يقال انه يمتد من زمن النمرود بن كنعان بن سام بن نوح. استخدمها القرطاجنيون والجرمنت والإغريق والرومان في أنشطتهم التجارية، وتوالت عليها الحقب التاريخية، إلى أن دخلها العرب أول مرة، بقيادة عقبة بن نافع. واعتبرت نقطة انطلاق الإسلام نحوأفريقيا، عن طريق قوافلها التجارية. فى غدامس تعاقبت الحضارات التي مرت بالمكان، فتأثرت به، وتأثر بها.ولكن لكينونة فريدة يتميز بها المكان، فقد استطاعت المدينة عبر كل العصور، أن تستنطق القادم وأن تستدعى إبداعه، لتستوعبه بروح وثابه فتعيد صهره وتشكيله، ومن ثم سكبه في ذاتها فيصير غدامسياً.

الميراث الغدامسى

هو حصاد لرحلة حياة طويلة عبرت المكان وشكلت شخصية القاطن فيه، ولا يختلف معظم الليبيين في وصفهم لسكان المدينة بقولهم: “الغدامسية طيبون” لما اشتهروا به من دماثة الخلق وحسن المعشر. والموروث الاجتماعي من عادات وتقاليد ظل يحافظ على خصوصيته بينما تعرض للخلل فى المناطق الأخرى ولنحتكم لعدد من الظواهر الاجتماعية.

الزواج

في مدن الشمال وما حولها ارتفعت نسبة العنوسة بين الفتيات، لعزوف الشباب عن الزواج نتيجة المبالغة في الطلبات، واستنزاف المدخرات، في مباهاة مبالغ فيها، وسفه لا حدود له. في غدامس لازال التكافل الاجتماعي قائما، والعروس الغدامسية لا فرق ما بين ابنة الوزير او ابنة الخفير، يتم زفافها بنفس قطع الحلي من الذهب، التي يمتلكها عدد من العائلات الميسورة في المدينة، يقومون بإعارتها لمن يطلب. مقدم الصداق “المهر” لا يتعدى مبلغ خمسين دينارا والمؤخر ايضا، ولقد أثبتت الإحصائيات أن غدامس هي اقل المدن الليبية نسبة في حالات الطلاق.

العزاء

في مدن الشمال وما حولها، يرحل الميت عن دنيانا، فتذبح الذبائح، وتنصب الخيام ولأيام، يستنزف فيها أموال اليتامى، ويتحول العزاء إلى مناسبة للنميمة، وسرد الحكايات، ومضيعة للوقت. في غدامس يودع الراحل بواسطة الألفية، وهى عبارة عن 140 ألف تسبيحه “لا اله إلا الله” يتقاسمها المشيعون فيما بينهم، نصفها قبل الدفن والنصف الأخر بعده. وفي المساء تقرأ خاتمة الكتاب، في اليوم الثالث يجتمع أهل المدينة في المسجد، ويتم توزيع الخبز، وتقرأ الفاتحة، وينصرف الجميع، وكان الله ويبقى الله.

صورة لأحد مباني مدينة غدامس.
صورة لأحد مباني مدينة غدامس.

الشارع

“الشارع الليبي يخدش الحياء العام” هذا عنوان استطلاع صحفي كتبته خديجة حامد، عبر فيه عدد من القراء، عن حالة الانحدار الأخلاقي الذي وصل إليه الشارع في مدن الشمال وما حولها. حدث ولا حرج عن المعاكسات، وعن الكلمات البذيئة التي تخدش الحياء العام، ولا تحترم حرمة الأذن، ولا تعرف معنى الذوق العام. غاب الحياء ، وفقدت الأجيال الجديدة، خاصية الاحترام للآخر. الصبي في غدامس عندما يبلغ الرابعة، يرسل إلى الكتاب ليحفظ القرآن الكريم، أو ما تيسر منه. وفى الرابعة عشرة، وهى سن البلوغ، يصوم رمضان، فتحتفل الأسرة بما يسمى “تعمير الحجرة” حيث يتم وضع جميع الحلويات في حجرة، يسلم مفتاحها للصبي الصائم، للتعرف على مدى تحمله وانضباطه. يعامل بعدها معاملة الرجال. فى شبابه يتطوع للخدمة الاجتماعية ، وفي الشيخوخة ينتقل إلى حلقة الحكماء، الذين يتم استشارتهم في القضايا الأكثر تعقيدا. شارع يدار بواسطة حلقات متداخلة لأجيال متلاحقة “صغيرها يوقر كبيرها .. وكبيرها يرحم صغيرها “.

سماحة الأهل

في واحدة من محاضراته، أشار الأستاذ الدكتور محمد الطاهر الجرارى، رئيس المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية في ليبيا، إلى أن سبب التميز الغدامسي يعود لسماحة أهلها فى التعامل مع الآخر، هذه السماحة التي أوصلتهم إلى درجة عالية من النفوذ، لدى دول الجوار الافريقى. وأشار إلى عدد من المخطوطات القديمة الموجودة في المحفوظات الأوربية، أوردت ذكر دور تجار غدامس، في مساعدة الرحالة الأوروبيين والقناصل في تنقلاتهم إلى أفريقيا، بل والتوسط لهم لدى حكامها، وأشار إلى أن ثلثي الذهب المتداول عبر الصحراء، من شمال أفريقا إلى جنوبها، كان يمر بغدامس، كل ذلك كان بسبب الشعور بالأمان، الذى تمنحه المدينة لعابريها .

سماحة الابتسامة

في مدرسة سبها المركزية في الجنوب الليبي، وفى منتصف الخمسينات من القرن المنصرم، كان أستاذنا فى اللغة العربية عبد السلام سنان رحمه الله يطلق لقب “المرابطين” أي ” أولياء الله ” على زملائنا القادمين من غدامس، لما يتمتعون به من دماثة الخلق، وبشاشة المحيا والمسحة الصوفية التي تعتلى وجوههم .فى مرحلة الصبا لم أكن اعرف تفسيرا لذلك، في شيخوختي أدركت أن الغدامسى الذي اتفقنا جميعا على انه “طيب”، هو نتاج انصهار حضارات عدة، وثقافات مختلفة، توالت على المكان، ومنحت ساكنيه هذا التميز بتوارث خاصية فريدة، تعتمد على تقبل القادم وإعادة تشكيله ببصمة المكان، أو ما يطلق عليهم (الغدامسية) وهذا هو سر ما نراه من سماحة الابتسامة لديهم.

_____________________________________________
• هذا ملخص لتحقيق صحفى سبق نشره في جريدة العرب، وموقع ليبيا المستقبل، ويعاد بمناسبة اختيار المدينة لإنعقاد المؤتمر الوطني الجامع، مع الدعاء للعلى القدير أن ترفرف روح السماحة الغدامسية، على عقول وقلوب المشاركين فى المؤتمر.

مقالات ذات علاقة

18 ديسمبر.. يوم عالمي للغة العربية

المشرف العام

الفيسبوك الليبي ينشر الكراهية

رامز رمضان النويصري

إكتشف 10 معلومات عن معركة عين زارة في ذكراها

المشرف العام

اترك تعليق