بقلم الناقدة الجزائرية – فضيلة الفاروق
يكتب بذكاء وهو من الكتاب القليلين الذين يواجهون بجرأة واقعا يفترض أن يكون ساذجا ونظيفا بما هو سيء وموجود فيه.
أجواء القصة عند الكاتب الليبي سالم العبارلها بريق الطفولة ، وبراءة الكائنات الصغيرة ، ورونق الطبيعة ن وألم الإنسان الواعي لما يحدث أمامه من فجائع .. أقول هذا دون مجاملة أو معرفة سابقة به ، فها هو كتابه الذي يضم 24 قصة وقد اختار منه قصة خديجار وأطلق اسمها عنوانا عليه ، الغلاف ملون وجميل تقف فيه البيوت بنوافذ مظلمة، وكأنه منذ البداية يهيئنا لندخل هذه البيوت ونكتشف خباياها إ ن هي بيوت الذاكرة ؟ أم الماضي الذي ماتت أنواره بمضي العمر أم بيوت شبيهة بالقلوب العربية مليئة بما يجعلها معتمة في الداخل؟ .
في خديجار (مجموعة قصصية صادرة عن الدار الجماهيرية – ليبيا) توقفنا أكثر من محطة أمام صور متكررة لأشخاص يبدو أن مكانتهم عند الكاتب أخذت حيزا كبيرا في الذاكرة والقلب .
صورة الأب تأتي بشكلها القديم ، والمكان بالتأكيد انتقال بين ريف ومدينة والأوجاع متعددة بين وجع الطفل في المجتمع العربي الفقير ، ووجع المرأة في المجتمع الجاف نفسه ، إلى قضايا الوطن .
وربما يشعر القاريء في النهاية أنه أمام نص متصل الفقرات ، أو نصوص مرتبطة بعضوية قوية تمنحها صفة تقربها من الرواية ، شخصيا لم أصادف هذه التقنية في كتابة القصة القصيرة ، ولكن حدث أن وجدت العكس .
ولا أدري إن كان سالم العبار – الذي يجهل القاريء العربي خارج ليبيا مثلي مقدار تجربته الكتابية ونوعها – يقصد بهذه النصوص القصيرة المبنية بجماليات مستحبة على نسق فني ناجح ، تدوين سيرته الذاتية بطريقة ذكية أم أنه مزج بين واقع طفولته الذي أحبه وعناصر فرضتها المخيلة والأدب .
1- خد يجار وهو أسم معتاد ومتعارف عليه وهو يحيل إلي طبيعة المجتمع الذي تنطلق منه القصة يعني توظيف الأسم هنا جيد .
2- ثم تلك الجملة الاستثنائية الأولي الأعتراضية،استدراك : (( نحن نخطئ في اسم النار والتأريخ لاكتشافها )) وهي تحيل عبر رمزية معينة إلي طبيعة العوالم السيميائية التي سنلجها مع كاتب النص وتحيل أيضا هي والاسم إلي كم التأجج المطروق شدة النار والألم ،يعني هناك نجاح ثان في توظيف (الاستدراك)،ليحيل عبر رمزية لن تدرك بسهولة إلي حقائق أخري للنار ، وإلي تعريفات أخري للنار ولأزمان تأججها..
3- نحال عبر مونولوج داخلي وضمن توظيف ثالث لفلسفة الراوي إلي عوالم الراوي بضمير الأنا ،وهو أسلوب نوع من الإمساك ثالث بالمتلقي عن طريق فلسفة المخالفة ومناقشة طبيعة النار الإفتراسية ،وليس الطبيعة الحارقة ومن خلال ذلك يبدو ذلك الراوي المهووس بالعوالم الحيوانية المفترسة وهذا بالذات المدخل لومضات تظهر من الحين للأخر لسيطرة تيار لا واع عبر ذات الراوي البعيدة .
أي ان النار أبعدت عنها طبيعتها الأفتراسية وليس طبيعتها الحارقة وهو ما لا يبدو منطقيا إلا في ظل الانتظام تحت لواء كلمات تلك الذات المعبرة عن الفلسفات القابعة في عمق عمقها.
4- تبدو النار من جديد والراوي يعاني من طبيعة الافتراس المحيط في عالم يبدو أشبه بالغاب ،عالم أقرب للأسطوري سيدخلنا إليه بعد قليل ،النار هنا هي الحامي من ذلك الافتراس لأنها هي وحسب ما يظهر من النص، الأنثى ،أي إن الراوي هنا يتعشق بالأنثى المفقودة عبر لا وعي متهاطل من نواحي روحه المتأزمة التي يؤكد هو بنفيه اضطرابها علي كم ما فيها من اضطراب، وهنا يبدو قمة الانفتاح علي التوارد اللاواعي لتيار الوعي،(ترتعش في خجل عذراء كتوم تتأوه في أسى وحرقة ، أحس أنفاسها تلهب مشاعري فتبدد وحشتي ويضيء خيالي).
5- الإحالة من زمن لزمن والانتقال من زمن الخطاب الآني عبر استرجاع للخلف تم وعن طريق الإحالة بواسطة تعيين الزمن وتثبيت الحالة بتحديد الجفاف كان موفقا لحد كبير فالإحالة الزمنية هنا بدت سلسة وتثبت عدم الشعور بالتغير عن طريق التحدث المباشر عن الزمن التالي من دون أشاريات استفزازية جعل المتلقي ينتقل بهدوء من زمن لأخر( طبيعة الجفاف في ذلك العام المتحدث عنه من قبل الراوي ).
6- وهي تبكي بدموع النار وهي تطفئ دموعها وتطفئ وهج حزنها في ذلك الماء وهنا هو يكتشف اللعبة ويعرف النار ، تلك النار المتدفقة من دموع الوحدة والخارجة من دموع الاحتراق و العنت.
7- مضي الكاتب الراوي في التعامل مع الأسطورة والرمز لأخر حد ،وهو ما يجعل عقد العمل بين المتلقي والمبدع وانطلاقا من بدايات النص سيميائيا،أي أن هناك حالة من الاتفاق انطلاقا من كل ما سبق بيننا وبين القاص وهو يحكي لنا معاناة الأخت وطبيعة النفاق والمجاملة التي تكتنف الغير،هذا التصوير القاسي والموجع من قبل البطل الراوي يبدو من الحين للأخر مصطبغا بمرارة وحرقة الأخت ،وهو يسرد كل ما عملته في كفاحها لإطفاء النيران المشتعلة ،ويبدو عبر كل ذلك قرفه الداخلي من كل ذلك عبر طبيعة الكلمات المرتبة (زارت كل الأضرحة وصنعت ألف تميمة )،(رأيتها تطلق البخور وتتمتم بدعاء حزين ، خرجت أمها من المقام بعد أن عفرت رأسها بالتراب وقبلت الضريح وأطلقت الدعاء ) يبدو هنا قرف شامل من كل ذلك ،قرف من كل هذه الأشياء ،وهو يعبر عن لسان المبدع وقلمه ليدخل ،في النص مباشرة هنا ألينا من ذاته المتوجعة والمدركة لطبيعة النار في صورتها الخيجية .
8- خلاصة النص وبطلة القصة تعانق القبر وتحاول عبر بكاء ونشيج التغيير في تلك الأفاق المتأججة بالدواخل أن تتخلص من الجحيم المشتعل لكن لا فكاك ،وعندما خرجت لتلبي نداء الأم رأت الحمار ،والحمار يمثل في الثقافة السائدة الفحولة الجنسية ويمثل من جانب روحي ديني أخر الشيطان ،أي إن حضور الشيطان ليشهد اندلاع النيران الشهوانية تلك النيران الأنسية وهي تزحف علي الوديان وكل الأماكن لتعلن ومنذ تلك اللحظة ولادة النار , ولادتها في غفلة الجميع عن جمال ألوانها ، وهنا يبدو النص في لحظات التنوير الأخيرة مغرقا في الرمزية والاندفاع ليشكل مع طبيعة الإنفاق السيميائي المبدئي مع دفق شعري كما من التوتر والاندفاع لا يتوقف.
الخلاصة:-
من المتابعات السابقة والقراءة في النص نجد العمل قد أحتوي علي التقنيات التالية :
1- استثمار كامل لكل فضاءات النص انطلاقا من العنوان إلي الإحالات الاستدراكية وهوي ما يعني تمكن وإدراك لطبيعة النصوص وكيفية التوظيف .
2- استخدام واع لتقنية المونولوج الداخلي مع تسريب من الحين للأخر لدفقات من ذات المبدع عبر تيار لا شعوري يجعل من المتلقي أسيرا لمشاعره وأحاسيسه .ويبدو ذلك حسب ما شرحنا في النقطة (3)،أو في مسألة الافتراس المذكورة في النقطة (4) أو في اندفاعات كلامية علي لسان الراوي كما حددناها في (7) أو في (رأيتهما تتباعدان بمساحة عمرها المفعم بالشوق والالتياع) وجعل موضوع القصة ورمزيتها وإحالته السيميائية وكونها تعالج هما فرديا وتمتلك أدواتها الخاصة وأزمنتها وأماكنها الخاصة غير المفترض فيها المنطقية ما يدل علي تمكن القاص من استخدام تيار الوعي الذي ينطلق من المذكورات سابقا بالضبط .
3- للانتقال من تمفصل زمني لتمفصل زمني أخر يبين مدي تمكنه من استخدام التقنيات الزمنية وقدرته علي الانتقال السلس .
4- الرمز المكثف واللغة الشعرية والإحالة إلي العوالم الأسطورية وتوظيفها في النص تم باقتدار ونجاح.
5- أنطلاقا من كل ما سبق نجح الكاتب في تحقيق المراد عبر بنائه لنص محكم منتظم واستخدام أمثل لتقنيات القص والانتهاء بلحظة تنوير منفتحة علي فضاء لا محدود من الدلالات والرمزية تخلق لدينا حسا جميلا وتوترا مفعما بالجمال والأنشداه .