من أعمال المصور أسامة محمد
شعر

طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء

من أعمال المصور أسامة محمد

 

طرابلس زهرة الصبار
حورية عند البحر تستريح
طرابلس تنهيدة الوداع
ونورس يقبل من بعيد
هل غرسها الفينيقيون هناك
ليستريحوا في ظلها من الحنين والتعب؟
أم أنها كانت هناك منذ الأزل؟
لؤلؤة قذفتها الأمواج
أو درة دحرجتها رمال الجنوب
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء

منحها الرومان اسما يليق بثلاث مدن
وانجبوا بقربها الاباطرة وكبار الفاتحين
تركوا أقواس نصرهم، ومرمر مجدهم
والزيتون والرمان والعنب
منحها العرب لسانهم، ولون جلدتهم إلى الأبد
رفعوا في سماءها القباب والمآذن
نظروا إلى بحرها بريبة
وغادروا إلى حيث صهيل الخيول ورغاء الإبل
الأمريكيون وهم يبحرون نحو تفردهم
تعثروا بعش القراصنة
تركوا خلفهم فيلادلفيا تحترق
وحملوا معهم اسم طرابلس
الذي التصق في نشيد بحريتهم إلى الأبد
لم يترك الأتراك إلا قهوتهم الثقيلة
والطرابيش الغبية
وكرابيج الانكشاريين، وأسواقا مسقوفة
وجوامع بناها باشاوات عابرون
وأشرعة القراصنة تجوب البحر الكبير
وتركوا لذة المحشي، والظولمة، والبراك والبوريك
وحلويات مطعمة بالفستق
وتركوا فينا الطاغية إذا لم يأت نصنعه بأيدينا
وثنا من تمر وزيت
الايطاليون الذين أبادوا نصف شعبنا
أخرجوها عنوة من أسوارها القديمة
فتفتحت مثل وردة في حوض من الدماء
تركوا المشانق يتدلى منها رجال بأسمال بالية
تركوا الشوارع المعبدة
والأروقة الطويلة التي تهجع تحت أقواسها الظلال
وتركوا المعجنات، وحلويات مزينة بالفواكه والقشدة
أضواء المرور، والسينما والمذياع
وكنائس بقرميد أحمر، وكاتدرائيات يهدل فوقها الحمام
سراويل “البوطويل” والقبعات
النظارات الطبية، وأسماء قطع الغيار
قصر بالبو، مبنى البلدية، بنك روما
مبنى رئاسة الوزراء، والحانات
الحصان الأسود، وتمثال الغزالة
وقوارب شراعية تبحر فوق أعمدة من رخام
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
البريطانيون الذين انتزعوها من الفاشيست عنوة
طوقوها بثكنات مثل حدوه حصان
الثكنات التي صارت وكرا للانقلابيين، وعرينا للطغاة
وتركوا أزيز عجلات اللاندروفر يجري خلفها أطفال حفاة
وتركوا جيشا في بدلات كاكية، وبوليسا ببدلة سوداء
وموجهي اللغة الانجليزية، ومستشارين لمملكة قادمة
استقلت بفضل إسهال داهم سفير هايتي
في هيئة الأمم في لحظة الاقتراع
باب على البحر وأبواب على الصحراء
كانت لنا ذات يوم مدينة
بيضاء نظيفة وصغيرة
كنا حين ندخلها
نخلع عند أبوابها نعالنا البدوية
ومثل خفراء مدججين بالريبة نتجول في شوارعها
لاجمين طقوسنا في البصق والتبول
نمضي مثل جثث تسير خوفا من التفسخ
ومنبهرة بطراوة الحياة
لليهود حاراتهم الضيقة
وللغزاة الشوارع الفسيحة المعبدة
ولنا الأرصفة، ودكاكين أبوابها نصف مشرعة
نشرب من حنفيات الحكومة ونستحم في بيوت الله
ونمضي إلى السينما حيث تعلمنا كلمات الغزل
وكيف نقبل النساء وأعيننا مغمضة
غير أن للبدو عنادا لا يرى مثل ظلام يدوس على الحقول
لذلك اخترقناها من عيوبها القديمة الجيش والبوليس
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
طرابلس ليست لنا
منذ أن وصلها بيترو دي نفارو
متعقبا الأندلسيين الهاربين
من عرب وأمازيغ ويهود
انكفأ البدو إلى صحرائهم
وأعتصم الجبليون بجبالهم
وحتى عندما انتزعها الأتراك عنوة
لم تعد طرابلس لنا
تحولت قلعتها الحمراء إلى مأوى لباشاوات متغطرسين
من أبوابها تخرج جيوش الانكشاريين
لتنتزع منا قوت عامنا، وتشنق المعدمين
ومن نفس الأبواب ندخل على صهوات جيادنا
لنرد عنها الغزاة والقراصنة
بيننا وبين طرابلس جرح نرجسي
نحبها ونكرهها من بعيد
مثل معشوقة استسلمت إلى الغرباء
لذلك حكمها الصقلي جورج ميخائيل
وأسبان، وفرسان القديس يوحنا
وأتراك لا يجيدون غير التركية
وحكمها طابور من الأعلاج لمجرد أنهم أسلموا
وحكمها قهوجي من أزمير
وشاويش أمي
ورجل من البندقية يدعى يلك محمود
وحكمها تارزي، وشائب العين
وحكمها علي برغل بفرمان مزور
وأيضا حكمها ولد الجن
ومن أجلها قتل يوسف باشا شقيقه وهو في حضن أمهما
ومن مخدعه حكمتها الملكة استير
وحكمها جنرالات ايطاليا من قصر بالبو
ومن نفس القصر حكمها حفيد مهاجر جزائري
وأخيرا حكمها ملازم في سلاح المخابرة
وبعد أن رقى نفسه دفعة واحدة إلى رتبة عقيد
وقف أمام أهلها في ميدان الشهداء
وقال : إلى الخلف قليلا
فتحولت من أنظف مدن العالم إلى مكب للنفايات
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
دخلتها في الثالثة من عمري
ورأيتها لأول مرة من فوق كتف أبي
لابد أننا دخلناها في الربيع
كانت الأشجار مزهرة
تغرد فوقها آلاف الطيور
وخرير المياه لا يتوقف أبدا من حنفيات الشوارع
مررنا تحت أقواس مهيبة وعالية
ولأول مرة أرى القرميد الأحمر والشرفات وأمام المستشفى المركزي رأيت الموز والتفاح والكمثرى
ورأيت الخبز يخرج من المخابز ذهبيا شهيا وساخنا
ومنذ أن رأيت الخيول تقف في الإشارة الحمراء
نسيت قريتي البعيدة والتصقت بشارعي الجديد
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
في الأربعين من عمري، وأنا في طريقي إلى منفاي
قررت أن أودعها، وقد تحولت عروسي الأثيرة إلى عجوز شمطاء
كيف تهضمين يا طرابلس كل هؤلاء البدو؟
دون أن تصابي بالإمساك
أشفق عليك من رغاء الإبل والقبلي والأشواك
نظرت إلى بحرك الأزرق
وتذكرت البيوت التي سكنتها
والعتبات التي تخطيتها
غرف الفنادق، وزوايا مقاهي المفضلة
المدارس والمطاعم والمكاتب والمكتبات
رفاق عمري، ونساءك المستحيلات
شارع الزاوية، مدرسة الفنون والصنائع
باب بن غشير، غرفة مجاهد
مربوعة نصري، مسرح الكشاف
طريق السور، الشيخة راضية
مطعم البرعي، أجنحة الشاطئ
وشرفة رابطة الأدباء والكتاب
ماذا سأنتقي منك يا طرابلس وبيوتك لا تزال بلا أرقام؟
سوق الحوت، والجمعة، والثلاثاء
بائعي ورق البوريك ،ورشدة الكسكاس
محطة التاكسيات، شارع الرشيد
مقهى مصطفى الايطالي عند الفجر
مطعم الشجرة، سوق المشير
الحواجز الأمنية، مشانق الجامعة
ومكبات النفايات
أعبر الآن ساحة مطلية باللون الأخضر
تبول فيها سكير فسجن خمسة أعوام
مارا بنفس المكان الذي استلم فيه موسوليني مفتاح المدينة
وسيف الإسلام
بالقرب من نفس المكان الذي كان يقف فيه
الإمبراطور سبتيموس سفيروس
وقد اختفى إلى الأبد مبنى رئاسة الوزراء
تطالعني خيول حجرية من نافورة ميدان الشهداء
أدخل سوق الترك من نفس المكان
الذي مر به يوسف باشا وهو ضرير
تقوده ما تبقى من نساءه الخلاسيات
ألمح من بعيد رجالا يسكبون القصدير
في أواني من نحاس
رغم الطرقات المحمومة، وصراخ الباعة
أشعر أن الجميع في حالة انتظار
كل الساعات المعروضة للبيع لا تتحرك عقاربها
وكذلك ساعة مصرف الأمة
ومعاصم المارة خالية من الساعات
عند جامع أحمد باشا تنشقت المدينة دفعة واحدة
ومسحت دمعة واحدة، وقبل أن أخرج إلى المنفى
تأملت برج الساعة راجيا أن تدور عقاربها من جديد
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء.

 

مقالات ذات علاقة

رحلة الأربعين

رضا محمد جبران

فوز

سميرة البوزيدي

مع أبي إلى الحقل

سراج الدين الورفلي

اترك تعليق