قراءات

قراءة  في رواية “ازاتسي” للكاتب مجاهد البوسيفي

 

مستندا على خبرته اللغوية التي اكتسبها من قدراته كصحفي محترف، وعلى تجربته في رواية “مملكة الريح” التي لم تنشر، قدم الكاتب الليبي مجاهد البوسيفي للمكتبة العربية روايته ” آزاتسي” التي صدرت عن منشورات ضفاف ببيروت. الرواية تقع في(223) صفحة من القطع المتوسط، صمم غلافها على القهوجي واحتوي الغلاف الخلفي، مقطعًا ورد في متن النص الروائي، يعكس اسلوب الكاتب، كما يعطي فكرة سريعة للقاري عن حدث مهم في الرواية، وعن زمانها ومكانها في المجمل.

غلاف رواية_أزاستي_مجاهد البوسيفي

 وفرت جغرافية المكان، والظروف الراهنة حاليا في المنطقة العربية أهمية نسبية تزيد او تنقص،عند نقد او تقييم او حتى قراءة الرواية، فمجريات الواقع الان ،ربما هي امتداد صحي وطبيعي لبعض أحداثها، التي كان همها كشف وتعرية الاستبداد والفساد ، بيد ان أهمية رواية آزاتسي لاتكمن فقط في أنها – وربما دون قصد من كاتبها- قدمت جواب منطقي لبعض أسباب التغيير الذي حصل في ليبيا منتصف فبراير قبل عامين،ولكنها أول عمل ابداعي يستقصي بأسلوب سردي ممتع ومشوق، تجربة ومعاناة الانسان عموما، والليبي بشكل خاص خلال فترة مهمة ومحددة من التاريخ المعاصر .

وهي أيضا أول رواية ليبيية بأمتياز تسلط الضوء على معاناة اللاجئين ، وتتناول بعض مشاكلهم وظروفهم النفسية والاجتماعية التي يواجهونوها، وتحرص على اظهار الحس الجمالي للإنسان في علاقاته بالانسان، ذلك الحس الرائع الذي يزيل ما سواه من تفرقة عرقية او دينية اوطائفية أو ماشابه، حيث تقدم لنا الرواية في جزء منها علاقات انسانية متباينة، تنشأ بين أشخاص افغان وعرب واكراد وافارقة ، مختلفين من حيث الهوية والانتماء،هربوا من اوطانهم الاصلية ، نحو المجهول واجبرتهم ظروف مختلفة، ليعيشوا ويتعايشوا معا وبشكل مؤقت في مكان واحد خصصته لهم الحكومة الهولندية تمهيدا لمنحهم جنسيتها فيما بعد.

 والى جانب الشان الليبي يحضر العراقي في الرواية بشكل لافت فتنقل الروايه في مساحات منها تجارب اصدقاء سالم العراقيين ابوهدى العضو في الحزب الشيوعي العراقي وبو اثار الشيخ العراقي الوقور الذي فر من العراق عند غزوها للكويت وبوجواد الفنان الكبير ومؤسس السينماء والمسرح في العراق لينقل عبرهم مايحدث هناك.

 وتبرز أهمية هذا المكان عند الكاتب، فيسمي الرواية (آزاتسي) وفاء منه واعترافا بجميل المكان عليه ،وربما قصد ان يزيد المكان ( مكانة) ،فتبدا الأحداث من آزاتسي مركز اللجوء الإنساني في هولندا وعندها تنتهي ،وليجعل المتلقي يشعر بأهميتهاكمكان يلجا اليه الانسان ، لانه يمنح بلا مقابل ،حياة انسانية كريمة، دونما تسلط او قهر، وحتى دونما الحاجة ليغير الللاجي ثقافته أوتوابثه اودينه اوماشابه « فالمركز يقع في هولندا ولكنه في الواقع لازال ينتمي لثقافة العالم التالث بتعقيداتها وعقدها الخاصة » (ص105)

 رواية أزاتسي واقعية الى حد كبير وهي في اغلب الاحيان وان بشكل غير معلن صراحة، تومئ إيماءات خفية، إلى أنها رواية تقارب تجارب حية تقاطعت في كثير من تفاصيلها ، مع حياة البوسيفي كاتبها، لتكون شهادة حية وواقعية على عالم شارك في كثير من تفاصيله،هذا الواقع الليبي الذي لم تغفله الرواية ،بل أستندت وأتكأت عليه في جزء مهم منها فتناولته بمتاهاته وازماته ،بشخوصه وامكنته وازمنته.

برع الكاتب في استخدام تقنية الاسترجاع الفني (الفلاش باك) وتوظيفها لخدمة النص، معتمدا على قربه من المكان ومعايشته له، وعلى ذاكرته الزمنية الخصبة وماضيه القريب، مما جعله يتمكن بحرفنة مذهلة في جذب اهتمام القارئ ،ومساعدته ليتنقل بسلاسه ومرونة ويسر، بين واقعين مختلفين ،من حيث البعد الزمني والمكاني للاحداث التي تهتم الرواية بسردها ،كما أن اهتمام الكاتب بالوصف الدقيق لللأشخاص والمكان والبيئة ، سمحت للقارئ بالتعايش مع بعض شخوص الرواية دون معوقات ،بل ربما يتخيل القارئ نفسه أحيانا كأحد  شخصياتها المهمة ،لاسيما ان كان ممن عاصر أحداثها الوقتية والمكانية  ،او كان قريبا من كاتبها ،وبذلك نجح الكاتب في الوصول الى أسمى غاية من الغايات التي يسعى الروائي لتحقيقها للارتقاء بعمله الإبداعي .

تبدا السطور الاولي للروايه ،بوصول بطلها سالم الي مطار امستردام قادما من طرابلس في الشمال الليبي، وتصف خوفه ورفاقه الجدد من ركوب القطار المتوجه بهم الي لايدن في الجنوب الهولندي يقول سالم:  « كنا ثلاثة أكراد وعربي من العراق ,أربعة افغان بينهم إمرأة وافريقي من سيراليون .معظمنا لم يركب قطارا وحتى لم يره مباشرة في حياته ,لذلك لم نكف عن سؤال من حولنا وتبادل الخبرات الطارئة في مجال القطارات ومحطاته» (ص223)

 وتنتهي في سطورها الاخيرة بخروج سالم الى حياة جديده ملؤها الأمل والتفاؤل والطمأنينة حيث يقول: « وانسللت وسط الناس نحو الباب الرئيسي لأخرج للحياة من جديد»(ص223)  

وبين الخوف والامل نجح الكاتب بشكل مميز، في ان يوفر ملمحا هاما من التشويق، حيث يتعرف القاري في بداية الرواية على أزاتسي، كمكان مهم بدأت به الاحداث في الحاضر،تم ينقل الكاتب القاري ليتعرف على طرابلس ،وليكتشف أنها ايضا مكان ربما أكثر أهمية من الأزاتسي ذاتها التي لايتركها الكاتب،بل يجعل القاري يتردد عليها بين الفينة والاخرى حتى لايبتعد كثيرا عن تسلسل الاحدات، ولتحافظ الرواية على خيط الحبكة الذي يربط بين أجزائها .

كما تشير الاحداث في الرواية لبعض مظاهر الفساد المالي و التسيب الإداري بين أوساط المسؤولين في مؤسسات الدولة     ،والمجتمع الليبي والتي كانت سائدة  زمن كتابتها فيكتشف القاري اختفاء عمارة سكنية من عدة ادوار كان مقرر بنائها وسط مشروع سكني كبير « العدد المتفق عليه في العقد كان خمسا وعشرين عمارة وماتم تنفيذه كان أربعة وعشرين . هناك عمارة كاملة  باثني عشر طابقا اختفت ولم ينتبه احد » (ص76)

وتستمر الرواية عبر فصولها، في سرد بعض المفارقات الغريبة التي استخدمها النظام القمعي، ليطيل فترة بقائة في السلطة، أساليب تثير استغراب المتلقي البعيد عن أجواء المكان والزمان ،بينما يكتفي من عاصر الاحداث بتذكر ماحدث ، ومن هذه الاجداث ان مخابرات الدولة واجهزتها الامنية، اكتشفت دخول اسرائيل الى طرابلس، وبسرعة محسوبه  بدأت  تنفيذ خطة اخفاء العاصمة حتى لايراها  الكاموندوس الاسرائيلى، لذلك «  نزلت مجاميع من العمال منذ وقت مبكر من المساء الى الشوارع…….ينزلون اللافتات الضخمة زرقاء اللون المتبثة بجانب الطريق لتدل السائقين على الاتجاهات  وأسماء الشوارع  ويستبدلونها بأخرى رسمت عليها صورا لانجازات الثورة »(ص196)

كما حرص الكاتب، على أضهار مدي سطوة الحاكم واجهزته الامنية على الليبيين خلال فترة التمانينات والتسعينات ،فرغم ان بداية الرواية تشير الى تسامح هذا المستبد وحبه لشعبه ،باطلاقه للسجناء وتمزيقه لقوائم الممنوعين من السفر، يقول سالم :« في اليوم الموعود ظهر القائد وهو يقود بلدوزر تعربش عليه الحرس من كل جانب متوجها الى بوابة السجن  ليطيح  بها وسط الهتافات المجنونة من الجماهير التى احاطت المكان كالسيل » (ص 12)  بينما يكتشف القاري أو يصدم في احد فصول الرواية الاخيرة ،بدموية الحاكم السجان ،حيث خفتت الهتافات واستعاد السجن القابع فيه “يحيى عنقود احد الشخصيات المهمة في الرواية ” اسواره ،بل تحول الى ساحة اعدامات بالجملة و « انطلق الرصاص من كل ركن تساقطت الاجساد على بقايا الطعام وتناثرت الاطراف بين الاواني .راقب يحيى المشهد في زمنه المكثف الخاتر كالدم » 209)

 

 ومن ساحة السجن تنقلنا الرواية لساحة ملعب الكرة لترصد حالات قتل اخرى لشباب متضاهرين يصف سالم المشهد قائلاً:  « عندها وقف أحد الضباط وسط الجنود المرتمين على الارض مصدرا صرخة حادة اعقبها بأخرى عالية وانهمر الرصاص على المتظاهرين وتحول المكان لساحة من الفوضى اختلطت فيها أجساد الجمهور الطي كان يحاول الفرار بكل الطرق  »  144)

   ورغم ان احداث الرواية في مجملها ،يغلب عليها الطابع السياسي ، الا ان الكاتب اعطى لبطل الرواية البدوي القادم من اطراف الصحراء، مساحات كافية ليعبرعن عواطفه الجياشة وعلاقاته العابرة مع المراءة، التي تحضر بشكل عادي من خلال رحاب في طرابلس وعالية في  ازاتسي. وكأنه يستشرف المستقبل القريب لبلاده  يختم البوسيفي روايته المثقلة  بمشاهد فساد السلطة وقمعها وخوفه منها الى صباح مشمس جميل به فسحة كبيرة من الامل وعالم اوسع وارحب لتبدا الحياة من جديد ,,,وختاما لابد من الاشارة الى ان هذه الوقفة القصيرة مع رواية ازاتسي لا تفي بحقها انها مجرد انطباعاتي كقارئ  اعجبتني الرواية واحترم كثيرا كاتبها الذي منه تعلمت  ابجديات الكتابة الصحفية .

مقالات ذات علاقة

الزهور لا تنبت في البرلمان

حسين نصيب المالكي

احواس وتلك الأيام

حسين نصيب المالكي

هكذا صرخَتْ

المشرف العام

اترك تعليق