آمال عوّاد رضوان
منتدى الحوار الثقافيّ ناقش ديوان تغريبة الروح، للشاعرة الجولانيّة المعروفيّة أملي القضماني، وذلك بتاريخ 18-9-2014، في مركز البادية عسفيا، بحضور عدد من الأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء، وقد استهلّ الندوة عريفها الأستاذ رشدي الماضي، مُرحّبًا بالحضور، ثمّ مداخلة د. فهد أبو خضرة، تلتها مداخلة الأستاذ حاتم حسون، ومداخلة الإعلاميّ فهيم أبو ركن، وقد تخلّلت المداخلات قراءات شعريّة بصوت أملي القضماني، وفي نهاية اللقاء كانت كلمة أملي القضماني المحتفى بها، شكرت بها الحضور والقيّمين على هذه الندوة، وتمّ بعد ذلك التقاط الصور الذكاريّة.
جاء في كلمة عريف الندوة الأستاذ رشدي الماضي: حين أراد الفيلسوف نيتشه أن يُسَلّم الشاعر هُويّة ترسم تضاريس جغرافيا وطنه الإبداعيّ، نحَتَ على صفحة الغلاف: الاسم- شاعر كشّاف ومغامر، عصاه لغته، ويقينه غورُهُ في المجهول، عنوانه: عالم بدون سقف، تُظلّله النجمات، يترك للعابرين دومًا نوافذه مُشرّعة.
ولمّا حمل إليّ ساعي البريد، إضمامة أملي الشعريّة (تغريبة الروح)، فتحتها لوحة ماتعة، ثمّ ركبت قاربي وأبحرت، في فيوضاتها الشعريّة قصائدَ وحروفًا وكلماتٍ كتبت بماء المعنى، فإذا بها فيض أنيق باذخ شكلًا ومضمونًا، يُحلّق في آفاق الرؤيا، إيقاعها خبيء ينهمر كشلّال بوح، ويسبح في بحار الشعر الزرقاء المنسابة المتماوجة، كلّ هذا دون أن تنصرف شاعرتنا عن هموم وطنها ومجتمعها، لأنها مسكونة بحبّ الناس، ولها مناخها وجماليّاتها في صوغ شعريّة كتابة القصيدة، وهذا ينعكس في بنيتها الدلاليّة وسياقها، وفاعليّتها في إنتاج المعنى. سيري معك عصا الكشف، سيري لكن خلّي نحو الغور خطاك، لتَظلّي الماء الذي يتدفّق شعرًا ومعنًى في آن.
وفي مداخلة د. فهد أبو خضرة جاء: الجانب الأساسيّ في المضمون يَحملُ رسالة وطنيّة، تُعبّر عن الإنتماء العربيّ بصورة صريحة ومُتكرّرة، كما تُعبّر عن الصمود الثابت، وكلاهما نابع من صدق داخليّ حياتيّ، وليس من صدق فنيّ فقط، وفي داخل هذا الجانب نلاحظ اتجاهين متكاملين رغم اختلافهما، اتّجاهًا يقوم على النقد الذاتيّ العامّ، واتّجاهًا يقوم على التفاؤل الخاصّ، وكِلا الاتّجاهين ناشئ عن رغبة في تغيير الحاضر، سواء في البيئة الجزئيّة الممدودة، أو في البيئة الكليّة الشاملة، أي سواء في منطقة الجولان، أو في العالم العربيّ كلّه.
في قصيدة “عروبيّة أنا” ص8، يظهر الانتماء المُشار إليه صريحًا جدًّا، من خلال العنوان وتكراره، كما تظهر الرغبة في التغيير للحاضر، من خلال مخاطبة الليل، والطلب منه أن يرحل، والليل رمز متعدّد الإيحاءات، فهو لا يقتصر على الاحتلال، وإنّما يمتدّ ويشمل كلّ المعوّقات التي تحُول دون تحقيق الآمال، وكلّ المسبّبات للألم والظلم والقتل وما إليها، ومع هذا وذاك يظهر الصمود واضحًا، كما يظهر النقد الآتي، وكأنّ هذه الأمور كلّها ترتبط معًا في أعماق الشاعرة، ولا تحتاج إلّا لأبسط الدوافع، لكي يستدعي أحدها الآخر، تقول الشاعرة: (عروبيَّةٌ أنا.. على ظهرِ الغَيْمِ أغزلُ عشقي جدائلَ نورٍ وأهمسُ للّيلِ ارحلْ.. سِياطُكَ غاضِبةٌ وسِياطي قاتلةٌ، اِرحلْ.. أبحثُ عن عروبتي التي تعفَّرَتْ بالضلالْ).
والأمور المُشار إليها آنفًا، واضحة في هذه العبارات المقتبسة من قصيدة واحدة، ورغم كلّ شيء، لا يختفي الأمل عند أملي، فهي تقول في آخر القصيدة: (يا وطني/ من على شفاه الموت/ ستعود إليك الحياة).
في قصيدة سيمار ص15، تتحدّث الشاعرة عن أولئك الذين يدخلون ضمن رمز الليل، دون أن تذكرهم صراحة فتقول: (ألا ترينهم يا حبيبتي/ كيف يقتلون الأحلام/ كيف يبحون الناس كالأغنام؟/ ألا ترينهم يدمّرون مكتباتنا، ويحتلون قصورنا ويقطعون عرق عيوننا؟)
وإلى جانب الحديث عن هؤلاء، يظهر النقد الذاتيّ المُوجّه إلى زعمائنا حيث تقول: (زعماء لا يقوون على شيء غير الخطابة والكلام).
بالإضافة إلى المضمون الأساسيّ المذكور أعلاه، هناك مضمون إنسانيّ يظهر هنا وهناك، أمّا في قصيدة خاصّة مثل “الغجرية” ص13، وأمّا في سياق قصيدة “آت” مضمون وطنيّ وهو الأكثر، كذلك فإنّ هناك مضمونًا آتيًا نجده في قصيدة تغريبة روح ص11، وفي قصيدة “اتّساع الضيق” ص18، وهذا لا يخلو أبدًا من حسّ وطنيّ صريح، من ذلك مثلًا قولها في “تغريبة روح”: (يستقبل فجرًا أنفاسه تتعالى ببوح متلهف لعناق الوطن)، وقولها في “اتساع الضيق”: (وتقافزت صورك يا وطني في زوايا حنيني).
أمّا الجانب الأسلوبيّ: فقد اختارت الشاعرة فيه طريق التوازن بين التلميح والتصريح، بين استعمال الصور الشعريّة التي تميل إلى الغموض، حيث توحي ولا تقول، وبين التعبير الذي يميل إلى الوضوح، حيث يوحي ويقول، والهدف من هذا التوازن هو الاهتمام بالرسالة وبالشعر معًا، فهي من جهة، تريد أن توصل رسالة تعتبرها مهمّة جدّا، دون أن تتخلّى عن جماليّات الشعر، بما فيها من انزياحات وإيحاءات، ومن جهة أخرى، تريد أن تُبدع شعرًا رائعًا، حافلًا بكلّ الجماليّات، وما يُرافقها من انزياحات وإيحاءات، دون أن تتخلّى عن إيصال الرسالة كما تريدها هي، وقد نجحت الشاعرة في هذا التوازن نجاحًا كبيرًا بحسب رأيي، فأوحت وقالت كما يجب أن توحي، وكما يجب أن تقول، وختامًا أقول: إنّني كتبت في الماضي غير البعيد، بعد أن قرأت مقالات نثريّة لهذه الشاعرة الثائرة المتميّزة شطر بيت يقول: مثل هذا فليكتب الكاتبونا، وأودّ اليوم أن أعيد الشطر نفسه، بالنسبة لهذه الكتابات الشعريّة النثريّة التي نتحدث عنها، كما أودّ أن أقول لشاعرتنا باسمي وباسمكم: مزيدًا من العطاء وإلى الأمام دائمًا، مع الثقة الكاملة، بأنّه ما سيكون هو تأكيد ودعم لِما كان، وانطلاق إلى آفاق جديدة لم تخطر بالبال من قبل.
وجاء في مداخلة حاتم حسون في قصيدة “خذني تحت جناحيك” من ديوان “أزهار حافية” ص 47-50 للشاعرة أملي القضماني:
حينما زرت الشاعرة أملي القضماني في بيتها، الذي يفوح بشذى التراث محاطا بأحواض الأزهار على اختلاف ألوانها وعطرها المتناثر في أرجاء البيت، أخذني المنظر الخلاب إلى لبنان، وأغنية فيروز: “يدور الدوري ويحاكي المنتور”، ثمّ نظرت فإذا بجبل الشيخ يستوقفني بشموخه وهيبته وصخوره الصلبة، رمز المقاومة والصمود، ومن ثمّ منظر المرج بتفاحه وكرزه وأشجاره الغضة اليانعة، وهنالك شاعرة استطاعت أن تمزج بشكل رائع لا يخلو من السحر، بين صلابة صخور جبل الشيخ وصموده، وبين أزهار البيت وعطره، وبين رقة وليونة أشجار المرج، بين العذوبة واللطف وصلابة الموقف وقوة الشخصية، شاعرة متوهّجة كالبركان، ورقيقة عذبة كمياه ينابيع الصفا الجولانيّة. في هذا الفضاء الجماليّ كانت التجربة الوجوديّة، فأبدعت بوصفها للموجودات بشكل إبداعيّ خلّاق.
تمتاز أشعار أملي بالتعابير الجماليّة ممزوجة بأبعاد رمزيّة وجدانيّة، وحنين عميق إلى الوطن الأمّ سوريا، الذي يرزح تحت مؤامرة كونيّة، وللبنان مسقط رأس الشاعرة، وما هذه الأشعار إلّا انعكاسات للواقع المُركّب القاسي الذي تعيشه، والذي فُرض على أهلنا في الجولان السوري المحتلّ، الذين أعطوا العالم درسًا في الوحدة والوطنيّة والكفاح والمقاومة، ولعلّ حصار الجولان وصمود أهله أمام الآلة الإسرائيليّة المُدجّجة، كان درسًا يتعلّمه المقاومون في أرجاء المعمورة.
يمكننا اعتبار هذه القصيدة خير نموذج، لأنّها حافلة بالصور التعبيريّة والجماليّة، وهي من القصائد السهلة الممتنعة، ويمكن للعاشق سواء كان عاشق الأنثى أو الوطن، أن يعيشها ويبحر عميقًا فيها. أول ما يلفت نظرك هو عنوان القصيدة “خذني تحت جناحيك”، وبما أنّ الشاعرة امرأة، وليست أي امرأة، بل شاعرة ومجبولة بالأحاسيس الرقيقة، يمكن لنا أن نفهم أن المرأة تتوجّه إلى الرجل، إلى حبيبها، يمكن زوجها، يمكن أخاها، يمكن الرجل الذي تتمنّاه وتتصوّره بخيالها، الرجل القويّ، رمز الحماية والاطمئنان، فهي كامرأة ضعيفة جسديّا، بحاجة إلى من يحميها ويضمّها بحنانه، ولهذا تطلب منه أن يأخذها بين جناحيه حيث الأمان والاطمئنان. خاصّة وأنها تفتتح القصيدة بقولها: (هل تذكر كيف انفرط عقد اللؤلؤ حبات كرز في فم العشق؟) فهي تتوجّه مباشرة في خطابها إلى الحبيب، وتذكّره بما مضى، حيث كان الحبّ عقدًا متماسكًا، لكن سرعان ما انفرط هذا العقد كحبات الكرز.
ومما يجعلنا نفهم أنها تتحدث عن الحبّ، تمضي الشاعرة فتتحدث عن مرور السنين التي تبادل خلالها العاشقان الرسائل، التي تعبت في يديها بعد ثلاثة عقود، لكن فجأة تفصح عن هويّة الحبيب، وبدل أن تبقيه غير معروف، فإنها تحدده بقولها: “اشتقت يا وطني”، فهنا تسقط الشاعرة القناع عن وجه الحبيب وتكشفه لنا على الملأ، وهنا أرى أنها تعجلت قليلا بالكشف عن وجه الحبيب، فلو أبقته مجهولًا، لحافظت على عنصر التشويق أكثر.
الوطن الذي تخاطبه الشاعرة هو : “أبي وأمي/ كل أهلي” كما ذهبنا في البداية، وكما أنّ الإنسان لا يسوى شيئا دون أهله، كذلك تعتبر شاعرتنا من يترك وطنه إنما يترك أهله ولا تعود له قيمة، كما قيل في أمثالنا الشعبية “من ينزع ثيابه يعرى”. الشاعرة تشعر بالوحدة، ليس فقط لأن وطنها ابتعد عنها، بل لأنها تعيش في عالم فقدت فيه القيم الجميلة، التي كانت تربط الناس وتحافظ على تواصلهم وعلى رأسها قيمة الحب، حيث تقول الشاعرة: وحدي أنا بشوق أتعذب/ عالم فيه الحبّ تجمد/ والحس تبلّد.
ولأنها تكاد تحترق في الضوء كالفراشة، وتكاد تختنق ببحر الحب الزائف، فإنها تلجأ ثانية لوطنها كي يخلصها من كل تلك العذابات، وتطلب منه أن يأخذها تحت جناحيه. وتعود الشاعرة إلى اعتبار الوطن هو الحبيب، الذي يمنح حبيبته الحب والطمأنينة والأمان والسلام تحت جناحيه وفي حضنه الدافئ، خاصة وأن الشوق اليه قد هدها وأتعبها فهي أحوج ما تكون الى أن تلقي بكل همومها وأتعابها في حضن الحبيب فتقول له مختتمة قصيدتها: “خذني حبيبي اليك/ وسِّدني يديك/ امنحني أمنا/ امنحني حضنا/ امنحني سلاما/ لقد هدّني الشوق إليك”
صور جمالية: التشبيه: تلجأ الشاعرة للتشبيه وتكثر منه في قصيدتها، لأغراض شعرية تخدم القصيدة، إلى جانب أن التشبيه يعتبر من البيان الذي يضيف للشعر سحرًا وجمالًا، وهذا ما نجده في القصيدة التي نتحدث عنها، فتستخدم الاستعارة التصريحية (وهو تشبيه حذفت كل أركانه إلّا المشبه به): فم العشق، تتقوس السنون، حروف الدمع، تعب الضوء.
مثال: تتقوس السنون، وهنا يظهر العنصر الجماليّ للاستعارة (البعض يسميها تأنيس)، الذي يغني القصيدة بصورة إبداعية تعطي للسنين بُعدًا إنسانيًّا، وكأنّها إنسان يتقوّس ظهره نتيجة عامل الزمن، لكنها تقصد بأنّ الذكريات التي مرت عليها، جعلتها تثقل بحملها. وفي بداية القصيدة تشبه حبات اللؤلؤ بحبات الكرز، حبات اللؤلؤ انفرطت بعد انفضاض العشق، كما تنفرط حبات الكرز بعد قطفها في فم متناولها. وفي مكان آخر تشبه الشاعرة نفسها بالفراشة الحمقاء، التي تذهب للضوء بإرادتها لتحترق وتموت. وتختنق ببحر الحب دون أن تقول لنا لماذا. لكن ذلك يعيدنا إلى الخلف قليلا، حين قالت عن الحب أنه قد تجمّد، ورغم ذلك فهي لا تستطيع الابتعاد عنه مثل “الفراشة الحمقاء”، التي تعرف بأن الضوء يقتلها، ورغم ذلك تقترب منه، وتدرك بأنّ الحبّ يخنقها، إلّا أنّها لا تستطيع العيش بدونه، ولهذا تعود وتطلب من حبيبها/ وطنها أن ينقذها ويضمّها بسرعة إلى جناحيه. وفي مقطع آخر تقول: وسِّدني يديك. حيث تنظر الى يدي الحبيب كوسادة تلقي عليهما برأسها لترتاح من المتاعب والهموم.
وبعد هذا الاستعراض السريع لقصيدة شاعرتنا المتألقة والمبدعة أملي القضماني، وإلحاحها على الوطن بأن يعود إليها، نأمل أن يستمع الوطن إلى نداء حبيبته، نداء شاعرتنا ويخلصها قريبًا من عذاباتها وتمزقها، بالعودة إلى التلاحم المنشود في ظلّ الوطن الواحد الموحد.
وفي مداخلة فهيم أبو ركن حول (تغريبة الروح) للشاعرة أملي القضماني جاء: إنّ مصطلح التغريب ومشتقاته معروف متداول منذ القدم، وله عدّة تفسيرات، منها لغويّة ومنها فكريّة. التغريب في اللغة هو الاتجاه إلى الغرب، والـمُغَرِّبُ: الذي يأْخُذُ في ناحية الـمَغْرِبِ؛ قال قَيْسُ بنُ الـمُلَوّح والذي نَسَبَه الـمُبَرِّدُ إِلى أَبي حَيَّةَ النُّمَيْري: (وأَصْبَحْتُ من لَيلى، الغَداة، كناظِرٍ * مع الصُّبْح في أَعْقابِ نَجْمٍ مُغَرِّبِ).
غَرَّبَ القومُ: ذَهَبُوا في الـمَغْرِبِ؛ وأَغْرَبُوا: أَتَوا الغَرْبَ. والغَرْبُ: الذهابُ والتَّنَحِّي عن الناسِ. وقد غَرَبَ عنا يَغْرُبُ غَرْباً، وغَرَّبَ، وأَغْرَبَ، وغَرَّبه، وأَغْرَبه: نَحَّاه. ويقال: اغرب عن وجهي! ويقال: غَرَّبَ في الأَرض وأَغْرَبَ إِذا أَمْعَنَ فيها، والتغريبُ النفيُ عن البلد. والغُرُوبُ: الدُّموع حين تخرج من العين؛ قال: ما لكَ لا تَذْكُر أُمَّ عَمْرو، * إِلاَّ لعَيْنَيْكَ غُروبٌ تَجْرِي واحِدُها غَرْبٌ. والغُروبُ أَيضًا: مَجارِي الدَّمْعِ؛ وفي التهذيب: مَجارِي العَيْنِ.
ولكن هذا المصطلح اكتسب تفسيرات فكريّة وسياسيّة أخرى منها؛ ما عرفه الأستاذ أنور الجندي (1917 أسيوط) بقوله: “التغريب مصطلح استعمله الاستشراق الغربيّ، للتعبير عن الخطة التي تقوم بها القوى ذات النفوذ السياسيّ الخارجيّ، في حمل العالم الإسلاميّ على الانصهار في مفاهيم الغرب وحضارته. وعرّفته الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة بأنه: “تيار فكريّ كبير ذو أبعاد سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة وفنيّة، يرمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربيّ”.
وعرفه آخر بقوله: إنه “التعلق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية”، حتّى أنّ كلّ مَن أيّد أو أعجب بالحضارة الغربية، اتّهم أنّه من دعاة التغريب، فقد جاء في “موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة” عن طه حسين، تحت عنوان “أهمّ آراء دعاة التغريب” ما يلي: “وقد كان طه حسين عميلًا وفيًّا للغرب، محاربًا لله ولرسوله ولدين الإسلام، مفضّلًا الغرب وحضارته على الإسلام ونوره، فهو مرّة يهاجم اللغة العربيّة ويفضل عليها اللاتينيّة واليونانيّة، ومرّة يدعو إلى التجديد وهو السير سير الأوربيّين في كلّ شيء”.
ومع ذلك فلهذا المصطلح في الأدب العربيّ مدلولات أخرى، فالسيرة الهلاليّة هي واحدة من السير الشعبيّة العربيّة المشهورة، كان بنو هلال وبنو سليم ومن جاء معهم من القبائل، يُقيمون في المنطقة الممتدة بين الطائف ومكة، وبين المدينة ونجد، ثم شاركوا في الفتوحات العربيّة الإسلاميّة، حتى تاريخ هجرتهم سنة 440 هـ. واستقرّت هذه القبائل في شمال أفريقيا، وكان لهذه الهجرة نتاج أدبيّ ضخم، عرف بتغريبة بني هلال، وهي ملحمة طويلة تغطي هذه الهجرة. كما أنّ العديد من الشعراء والأدباء استفادوا من هذا المصطلح واستعملوه: كالمرحوم سميح القاسم الذي كتب تغريبة إلى محمود درويش مطلعها: “لبيروت وجهان/ وجه لحيفا/ ونحن صديقان/ سجنًا ومنفى”.
ونعود إلى شاعرتنا أملي القضماني و”تغريبة الروح”، والتي تدخل في باب التعريفات اللغويّة والأدبيّة، ولا تمتّ بأي صلة إلى التعريفات السياسيّة الفكريّة، والتي تشير إلى صبغ حياة المسلمين بالأسلوب الغربيّ، بل على العكس هي تعاني من جمرة وحرقة الابتعاد عن أجواء الوطن، وأحضان الأهل ومجتمعها العربيّ الأصيل، ففي الديوان نصوص كما عرّفها الناشر تتراوح بين الرسالة، الخاطر والمنثور الشعري الإيقاعيّ. الشاعرة الجولانية من بلدة مجدل شمس، لها عدة نشاطات سياسيّة، اجتماعيّة، نسويّة وأدبيّة. حاصلة على جائزة إبداعيّة من مؤسسة الأسوار في عكا، وكرّمت من قبل العديد من المؤسّسات الرسميّة والأدبيّة في الوطن العربيّ، منحت عدة أوسمة ودروع، وصدر لها في لبنان كتاب بعنوان: “عناد الياسمين”. وتعرّف نفسها في بداية الديوان ص9:
عروبية أنا/ أعشق بلدي والياسمين المزنر بالندى/ والشموخ المعانق للسما/ عروبية أنا على كفوف الغيم أغزل عشقي جدائل نور/ تعلمت ألا أنحني حين تجرح مقلتي/ عروبية أنا أبحث عن عروبتي التي تعفرت بالضلال/ يا وطني من على شفاه الموت/ ستعود إليك الحياة/ فخلف الأمنيات صبح محتمل/ يحلم بالسلام/ بقبلة من ارزة/ تغفو على كتف الأمل
إذن نحن أمام تغريبة روح مناجاة وجدانيّة موجعة، مفعمة بألم قاس لكنه يحمل بصيصا من أمل إيجابي، فهي تشير إليه بـ… “الوجع المضمخ بالمطر” وبـ… “صبح محتمل”. وها هي تدخلنا في أجواء التغريبة باستعمال أفعال موحية، تنثر معاني الغربة، وترسم المعنى المعبر عن الحالة العاطفيّة الفكريّة والنفسيّة للمؤلفة في لوحات متجانسة المضمون، متمازجة الألوان، تصبّ جميعها في خدمة الرسالة الوطنيّة التي تحملها، لتطرح عدة قضايا تؤمن بها وتناضل لتحقيقها. القضيّة الأولى: قضية الانتماء، وقد ذكرنا أعلاه كيف تعرف الشاعرة نفسها، بعبارات سلسة فصيحة، وفصيح الكلام ما كان واضح المعنى، سهل اللفظ وجيد السبك، والذي يصل أحيانًا إلى التقريريّة التي يتسم بها الشعر الخطابي والذي ظهر في بعض قصائدها، ولكن شاعرتنا ومع بساطة لغة القصائد وسلاستها، إلّا أنّها حافظت على النكهة الشعريّة، مبتعدة بانزياحات جميلة مبتكرة وجذابة، وأسوق على سبيل المثال لا الحصر: نحن نقول عادة: “ذات يوم”، أو “ذات مرة” وهو تعبير متداول مطروق، بينما استعملت الشاعرة هذا التعبير، لتجدد فيه وتحمله عمقًا عاطفيّا بدل المدلول الزمنيّ كظرف زمان، فقالت: ذات شوق”، إنّه تعبير تنطبق عليه مقولة “السهل الممتنع” ص31. كذلك نسمع ونعرف تعبير “شقيق الروح”، لكن شاعرتنا تبنت التعبير الذي أدخل بُعدًا جديدًا، أضاف قربًا أكثر بقولها: أيها المتغلغل بنبضي/ بحنايا روحي/ تسكنني/ تسري في شراييني/ يا قسيم الروح مهلا/ رفقا بقلبي / لا تغادر
في عبارة “شقيق الروح” الشقيق قريب من الروح لكنه منفصل عنها، ولكن القسيم هو جزء لا يتجزأ من الروح، وبهذا أضافت عمقًا وبعدًا آخريْن لهذا التعبير الذي تداوله البعض، ولكنها وظفته في المكان المناسب. وجمل شعرية أخرى مثل: ينسحب ليل العمر من ندى فجر الحياة ص 21، على صفائح الليل غفوت ص28، يضيء اللون أصواتا من أنغام ص33، عندما تغني خلايا الروح ص34، ونمورا تغتال الخوف من أكفّ الطعنات ص35، مدجج بالصمت ص48. هذا غيض من فيض من الجملة والانزياحات الشعرية الجميلة.
بعد قضية الانتماء نكتشف قضية أخرى، لا تقلّ أهمية تعبر عنها الشاعرة بمصداقية تامة وهي القضية التي تخيم بأجوائها على معظم قصائد الديوان، ألا وهي الغربة، فتتعرض الشاعرة لهذه القضية بالنظرة الشاملة وبالجرأة الباسلة، بالتصريح الواضح، أو بالتلميح الناجح، في معظم القصائد بأسلوب أصيل رائد. والغربة كما عرفناها هي الابتعاد عن الوطن، والابتعاد عن الوطن يعتبر منفى، وقد قال المفكر إدوارد سعيد في كتابه “المثقف والسلطة”: “لا يبعث الأحزان مصير مثل العيش في المنفى”. (الفصل الثالث ص92)[i]
معاني ومشاعر الغربة نجدها في كل قصيدة، بكلمات مباشرة أو غير مباشرة، نلتقي بها على موعد مسبق، نصادفها فجأة متدثرة في حنايا العبرات، تنبثق أمامنا من خبايا الاستعارات، بشتى الطرق والدروب، معتمدة تنوع الاسلوب، لتدخل بالمشاعر إلى القلوب، رافضة وزر الهروب، من مشاكلها الكبيرة، وقضاياها العسيرة، مطالبة بالحرية رافضة صفة الأسيرة، من خلال نصوص جلية، أصيلة أبية. ما أقسى الغربة التي نصادفها، أو تواجهنا في معظم القصائد، بكلمات مفعمة بهذه المعاني، منها مثلا: مطر وغرباء ص13، تغادر ص27، تلك القرية هجرت شوارعها ص29، قاسية هي الغربة ص99، ينزف اغترابي ص101، غربة العقول ص124، بحروف اغتراب ص134، وغيرها الكثير الكثير.
وفي المضمون لا يخلو نص من مشاعر الاغتراب والحزن والألم، وقد جاءت الجمل والكلمات لتعبر عن هذا الالم، فتكرار مثل هذه الكلمات يخدم الجو العام في الديوان حيث تصادفك العديد من الكلمات ذات الدلالة المتشابه، مثلا: الشهقة والتنهيد والآه تتكرر في العديد من القصائد: تنهيدات الفجر ص12، الآهات ص10، تنهدات ليل حزين ص14، التنهيدة بالضحكة ص19، شهقات بكاء ص 26، تناهيد، آهات وأنات ص28، خبأت ضميرا يشهق ص35، شهقات الصفصاف ص49، آهة وعلى شهقة حنين ص62، شهقة ضوء ص67، شهقة روحي ص77، شهقة ذكرياتي ص80، تتأوه الروح يتنهد الأمل ص109، تنهيدة قلب ص132، على ارجوحة التنهيدة ص133، يشهق ص133، أنين وآهات ص139، وغيرها وغيرها.
القضية الثالثة هي قضية المرأة: امرأة أنا/ إنسانة تعشق المطر/ أرض طيبة تنبت الورد والشجر/ امرأة أنا/ افوح بالمحبة/ أعطي بلا مقابل
حتى هنا المعاني الجميلة والصفات المميزة للمرأة، وبعدها نسمع صرخة المرأة المظلومة التي تريد المساواة الحرية والعدل، تقول الشاعرة: لماذا تمضي بعيدا في تعاليلك؟/ في جحودك في جورك/ لست في بيتك الخادمة/ لست في مخدعك الأمة/ أنا نصفك الجميل/ وضلعك الأيمن المولع بالهديل/ امرأة أنا تفرحني ابتسامة وردة حمراء/ كلمة تهزني تزيدني انتشاء/ أطير كالفراش في مشاتل اللقاء. ص85.
وقضية أخرى لا تتجاهلها الشاعرة وهي الاحتلال، والتي تشير إليها في بعض القصائد، خاصة في قصيدة سهم الحنين ص99. وفي قصيدة وجه يعانق المطر ص122. كذلك تتطرق الشاعرة إلى عدة قضايا بشكل عابر لكن بحزم مثل؛ قضايا استغلال الدين، والشوق للوطن، والغربة وتدمج هذه المعاني في “سباعية نبض” ص133. إذن نحن أمام وجبة دسمة، من القضايا والمعاني التي تدور في فلك الاغتراب والالم، عبرت عنها الشاعرة بمصداقيّة وإحساس مرهف، ونظرة ثاقبة وتعابير مبتكرة. ولكن حز في نفسي أن وجدنا في هذا الديوان أخطاء في الشكل لا تغتفر، وأسوق على سبيل المثال: غيومٌ سوداءَ ص74. عن حضن دافيء ص122. وتهزم الظلام لتستقبلُ ص123. وجداُ ص129. بتكريم السيد املي ص141. فأصوغها حكاياتَ شرف ص36. يكتبك عناوينا لشعري ص78. لم تراهم ص 26. نواقيس ص35، في كفَّ الزمان 35. الخ… وهنا لا بد من التنويه إلى أنني في إحدى مقالاتي النقديّة كتبت، بأنه ليس على الكاتب والمؤلف أن يكون خبيرًا ضليعًا بأسرار اللغة، مع أنه من المفضل أن يكون كذلك، ولكن عليه على الأقل أن يجيد قواعدها العامة المعروفة، وأن يتمكن من استعمال أدواتها. أما الناشر فعليه ومن واجبه أن يهتم بإخراج الكتاب على أحسن صورة، وهذه الملاحظة لا تقلل من أهمية الكتاب وروعته. أشد على يد الشاعرة متمنيا لها الحياة السعيدة والصحة والمزيد من الإبداع الراقي. وشكرا لكم على حسن الإصغاء.
وفي كلمة لاملي قضماني جاء: الأدباء والشعراء الحضور الكرام نحييكم تحية المحبة والعرفان، لتكرمكم بالحضور وبدعوتي لمناقشة ديواني الذي أتمنى أنه نال استحسانكم، وأرضى ذائقتكم. الأفاضل الحضور، أتيت من الجولان من الجزء المحتل من سوريا الحبيبة، بدعوة من القيمين على منتدى البادية الثقافي مع حفظ الألقاب، أشكرهم شكرًا جزيلًا. لقد شرفوني بها، فجئت أحمل معي أصدق وأعذب مشاعر المحبة والود والامتنان.
إخوتي الكرام، بالرغم من وجع الجراح النازفة من جسد الأمة، والألم الذي يحيط بأرواحنا، بالرغم من اشتعال حرائق الظلم والعدوان، وبالرغم من انَّ الموت والدمار يحيط بنا، وأسياد القتل الذين يعملون على تشويه الإنسان والإنسانية، بالرغم من أنَّ أيّامنا تعجُّ بفوضى الموت وفقدان الأعزاء والتشتيت والتهجير، يبقى هناك متّسعٌ في القلب والشعور لبعض فرح، وقراءة الشعر والاستمتاع بالكلمة العذبة الدافئة. نعم في ظل هذه الفوضى الظلاميّة نَجِدُنا بحاجة إلى لمّة تداوي الجراح، وكلمة تحملنا على أجنحة صفاء نورانيّ، لنرسو بها ومعها على شواطئ المحبة والكرامة.
الحضور الكريم شرفتوني بهذه الدعوة لإلقاء الضوء على ديواني المتواضع، فما أنا إلّا عاشقة للأدب والشعر، تبحث لها عن مكانة متواضعة بين شعراء كبار، أتيت أحمل قلقا وأملًا بأن تكون همساتي وبوح روحي يرقى لمستوى ذائقتكم. أحمل معي عشقي للحرية وحلمي بوطن عربيّ واحد، وطن لكل مواطنيه يسود به العدل والإنسانيّة، وكلّنا نعلم أنَّ الشعر والأدب على مدار التاريخ، كان وما زال ليس فقط تعبيرًا عن نبض الروح وتصوير المشاعر، بل يحمل رسالة وينشر فكرًا، ويحرض لثورة ترفض الظلم كشعر الدرويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، فهو يوصل رسالته بأسلوب يتفاعل معه القارئ، بشكل أكبر من أية وسيلة أدبيّة أخرى. أشكركم لهذه الحفاوة التي استقبلتموني بها، وسوف أختار لكم بعض المقطوعات، لعلها ترقى لمستوى ونقاء ذائقتكم.
*خذني تحت جناحيك/ هل تذكر كيف انفرط عقد اللؤلؤ حبات كرز/ في فم العشق، تتقوس السنون/ عشرة/ عشرون/ ثلاثون/ تعبت في يدي رسائل الحنين/ تعبت حروف الدمع في منديلي/ وتعب الضوء صبرا في قنديلي/ اشتقت يا وطني متى؟/ قل لي متى؟/ متى تأتيني؟/ في متاهات سماء/ بسطت كفي احتضن الهواء/ لم تفتح في القلب جرحًا/ وتتركني أحيا بعيدًا في موت بطيء/ وطني أنت أمي وأبي/ أنت كلُّ أهلي/ وحدي أنا بدونك لا شيء/ أنا لا كينونة لي ولا وزن/ وحدي أنا بشوق أتعذَّب/ عالم فيه الحب تجمد/ والحس تبلد/ وأنا الفراشة الحمقاء/ على حبل الضوء أحترق/ وببحر الحب أختنق/ أهتف/ أرجو/ أتوسل/ خذني تحت جناحيك يا وطني/ خذني من حزني وشجني/ من ظلمة أيامي ووحشة حناني/ خذني حبيبي إليك/ وسِّدْني يديك/ اِمنحني أمْنا/ اِمنحني حضنًا/ اِمنحني سلامًا/ لقد هدني الشوق إليك.
عروبية أنا/ عروبيَّةُ الهوى .. أنا أعشقُ بلَدي والياسمينَ المزنَّرَ بالندى/ والشموخَ المعانقَ للسّما/ عروبيٌّةٌ أنا.. حروفُ وطني قصيدةٌ تُسامرُ الشرُفاتِ فوقَ خدِّ القمَر/ عروبيَّةٌ أنا.. أعانقُ الشعرَ/ شوقي كالآيات/ كالوجع المُضَمَّخِ بالمطرْ/ عروبيَّةٌ أنا.. على ظهرِ الغَيْمِ أغزلُ عشقي جدائلَ نورٍ/ وأهمسُ لليلِ ارحلْ .. سِياطكَ غاضِبةٌ وسِياطي قاتلةٌ/ اِرحلْ.. الضوءُ مُعَلِّمي/ وحروفُ الشعرِ بَيتي منذُ الأزلْ/ عروبيَّةٌ أنا.. تعلّمْتُ أنْ لا أنحني حينَ تجْرَحُ مُقْلَتي يا أنتَ/ يا صَخَبَ الحرب/ ويا ضجيجَ الموتِ/ عروبيَّةٌ أنا.. أقولُ للغزاةْ هل سمِعتمْ صرخَتي؟/ ونظرةُ العجزِ في عيونكمْ؟/ هل أخبروكمْ؟ أنَّني كلّما حاوَلتُ أن أهمسَ لكَ (يا وطني) بحبِّي/ وأنْ أبثَّكَ شوقي/ يقتحِمُني الأزيزُ والضجيجُ؟ كلَّما سافرتُ نحوَ المدنِ والحاراتِ والأزِقَّةِ/ تتَلبَّسُني الآهاتُ والأوجاعُ/ وأدركُ أنّي داليةُ حزنٍ وأنّي كالمحال؟ لكنَّني أدري بأنَّ الحبَّ لا تثنيهِ الأوجاعُ/ ولا أزيزُ الرصاص .. يا وطني/ من على شفاهِ الموتِ ستعودُ إليكَ الحياةْ/ وخلفَ الأمنياتِ صبحٌ مُحتملْ/ وأنا أحلمُ بالسلامِ/ بقبلةٍ من زيتونةٍ وليمونةٍ/ وأرزةٍ تغفو على كتفِ الأمل.