قد يغمس المرء خبزه بالدم
ليغتال جوعه فيحييه مرتين
ابراهيم النجمي
نسج الليل خيوطه على امتداد الغابة المترامية الاطراف فيما اطلع القمر رأسه الفضي من مخبئه القديم وتطلع الي ذؤابات الشجر المتراقصة في وجه الصقيع والمياه المتدفقة عبر المسارب الطويلة المتعرجة ثم ما لبث ان اخفى رأسه قليلا حين داهمه عدد هائل من السحب. في تلك الاثناء كانت الفرقة قد عسكرت في جانب خفي من الغابة بعد قضاء رحلة طويلة شاقة حيث انتشر الجنود في كل مكان فالبعض انطلق باحثا عن حطب والآخر تكوّم على الارض متوسدا تجهيزاته، على ان ما أسترعي الانتباه هو انزواء ذلك الجندي موليا ظهره لشجرة ضخمة مثبتا عينيه هناك حيث القمر ما يزال يغالب السحب المتراكمة بوهن شديد. كان فيما يبدو متعبا للغاية على الاقل من خلال عينيه الحمراوين ووجهه المغبر ورجليه المطوحتين في اهمال مثل مقلاع، ورغم احساسه بالجوع القاهر يعصر امعاءه إلا انه لم يشأ ان يمد يده الي الخبز والجبن في حقيبته من الليلة الماضية وصاح به احد الجنود لكنه لم يعره اهتماما بل ظل معلقا نظره هناك وحدس انه على علاقة وطيدة مع القمر رغم تكاثف السحب البليدة.. وصاح به الجندي ثانية وتظاهر في البداية بعدم سماعه ثم ادار عنقه نحوه معدلا من وضع خوذته ولوح بيده علامة الغضب حين عرف انه ينوي التدخين على حسابه كالعادة، واختفى الجندي بين الأشجار وراقبه وهو ينتفض تحت وطأة نوبة سعال حادة فيما كانت حمامة برية شاردة تقاوم تشابك الأشجار في محاولة بائسة للخلاص من عينين لامعتين حدس انهما عيني ثعلب على انه لم يلبث ان حول نظره الي القمر من جديد وراح يفكر، وكا أن أعاد الي ذهنه ما حدث في احدى المعارك الدامية حين تسلل في ذلك اليوم مع رفيقه الي احدى القرى تحت جنح الظلام، وكيف أنهما باغتا عائلة نائمة، كان لحظتها واقفا خلف الباب فيما دلف رفيقه الي الداخل وما هي الا لحظات حتى مرقت من الداخل عجوز هرمة تكاد من تقوسها تلامس الأرض وتصحبها طفلة صغيرة ممسكة بقطعة من خبز، وكان أن ظل يراقبهما وهما تركضان صوب الاسلاك الشائكة المحيطة بالمنزل الخشبي المتهالك ثم أطلق رصاصة في ظهر العجوز وشاهدها تتجمد قليلا في وجه الالم ثم تركع على ركبتيها بينما سارع رفيقه فنسفها بقنبلة يدوية نشرت امعاءها على الاسلاك الشائكة ومزقت الطفلة اربا على مقربة منها. وحين اقتربا من الجثتين الممزقتين متطلعين الي الدماء اللامعة في وجه الشمس تقدم رفيقه من الطفلة قليلا وتناول قطعة الخبز المغموسة بالدم من بين اصابعها وشرع يقضمها بصورة همجية غير مبال بالدماء المنسابة والمتقاطرة من زاويتي فمه حتى اسفل ذقنه وتمعّنه مصعوقا بينما يلاحق بلسانه فتات الخبز المتجمع واعتراه شعور مفاجيء بالتقزز تجاهه وفكر في ان يحطم وجهه بعقب البندقية وليفعل بعدها به قائد الفرقة ما يشاء غير انه تراجع عن ذلك وحوّل بصره الي الطفلة المشوهة فيما خيّل اليه ان كل شيء من حوله يلعنه ويبصق على وجهه ويشير اليه بأصابع الاتهام وهو ما لم يحدث له من قبل قط ثم انه ركع على ركبتيه وبكى بكى بمرارة بصوت عال ومن اعماقه لأول مرة
-(انهض) قال رفيقه (منذ متى كنت شفوقا الي هذا الحد؟)
وتطلع اليه بعينين مخضبتين بالدموع وتصلبت عروق جبهته من الغضب وغامت عيناه وتماوج رفيقه مثل سراب ولما نهض بصعوبة كان يترنح كثمل
-(ماذا حدث؟ هل فقدت بصرك؟)
لم يعد قادرا على ان يتكلم اليه، كان يدور حول نفسه غارزا اصابعه في اذنيه وكانت كل الأشياء تلعنه وتدور مثل رحى عبر اذنيه وامسك به رفيقه من كتفه محاولا ايقافه ثم لكزه بعقب البندقية ونفضه من صدره صارخا (توقف، توقف يا ابن الزانية، هل جننت؟)
وتعالت الاصوات وصرخ في وجهه حتى بح صوته ودفع رفيقه حتى استلقى على ظهره ثم انه رمى البندقية في وجهه وانطلق يركض صارخا حتى ابتلعته التلال الرملية المجاورة. في المساء ظل يتقلب في بطانيته الغارقة في العرق حالما بأشياء ظلت تؤرقه على طول الليل. بدءا حلم بالطفلة الصغيرة والخبز المغموس بالدم وسمع الأصوات تلعنه من جديد وتحوّل كل شيء امامه الي دم، حتى اصابعه توهم انها تقطر دما فطفق ينفضها ثم قال لرفيقه الذي صار بلون الدم) اننا جنود اغبياء، اجل اغبياء وألا فهل ثمة من يغمس خبزه بالدم ليعتقد انه سيعيش هانئا، ان طعم الدم ينغص حياتي يا رفيقي، ان رائحته تزكم فمي، الان انظر انظر الي نفسك، اوه، انك تقطر دما اغرب اغرب عن وجهي) وقالت له الاصوات (الان فقط عرفت ان الله واحد، الان عرفت ان فكرة الحرب – أصلا – قائمة على على اغتيال الجوع اعني هكذا من البداية كل واحد يغمس خبزه بدم واحد معتقدا انه سيغتال جوعه لكن قد يغمس المرء خبزه بالدم ليغتال جوعه فيحييه مرتين) وقفز من نومه مذعورا ثم صرخ وانطلق يعدو بأقصى سرعة حتى ابتلعته التلال المجاورة فيما قال رفيقه (دعوه وشأنه سوف يعود بنفسه)
كان الجندي مثبتا عينيه هناك غير مبال بالصقيع الذي يكاد يجمد أطرافه على ان تداعك وتحاشد الجنود ونكاتهم السمجة لم يلبث ان قطع عليه تفكيره وادار عنقه تجاههم، كانوا متحلقين على النار يتحدثون عن النساء وتوقعات الحرب القادمة، وتطلع الي رفيقه من بينهم وتبين ملامحه من خلال اشعاله لعود كبريت مغمور بين كفيه وتناهى اليه صدى الاصوات وحلمه القاهر وأحس تحت وطأة الجوع المميت ان يده تمتد الي حقيبته والتقط ما تبقى لديه من الخبز والجبن على انه سرعان ما انتفض واقفا مثل ملسوع واختفى في لمح البصر بين الاشجار، تطلع اليه الجنود حين سمعوا تكسر الأغصان من حوله وقال رفيقه ( دعوه وشأنه، سوف يعود بنفسه )