حين تعسكرت انتفاضة فبراير التي كان من المفترض أن تكون سلمية حسب ما خطط لها في الفيس بوك، منذ يومها الأول، كان التأويل الدارج، والمخل بالحقيقة، لهذه السرعة في عسكرتها كون التاريخ الليبي خال تقريبا من خبرة النضال السياسي، خصوصا فترة الاحتلال الإيطالي، وهو الشأن الذي تميزت به كل من مصر وتونس إبان فترات احتلالهما، بمعنى أن هذا الجيل استلهم التاريخ في لجوئه المبكر للرصاص كأداة احتجاج، وسرعان ما دخلت مصطلحات الحرب قاموس هذه الثورة مثل؛ تحرير المدن أو المدن المحررة، وسقوط المدن أو سقوط العاصمة، والجبهات، والقادة الميدانيين، والكر والفر، والحصار، والأسرى، والمرتزقة، وكلها اصطلاحات حربية بدأ تداولها منذ أسبوع الثورة الأول بعكس ما حدث في مصر وتونس اللتين حرصتا على سلمية ثورتيهما رغم سقوط قتلى في الأسابيع الأولى أكثر ممن سقطوا في ثورة فبراير المدة نفسها.
يحيلني هذا المظهر الفريد في دول الربيع إلى مقالة الكاتب عمر الككلي “معمر القذافي والتاريخ الليبي” المنشورة ببوابة الوسط، والتي يرصد فيها ظاهرة اختزال النضال الليبي في جانبه المسلح فقط مشيرا إلى العلاقة اللافتة للقذافي بالتاريخ الليبي ” فمنذ استيلائه وتنظيمه العسكري على السلطة في ليبيا بداية الثلث الأخير من سنة 1969 قام بجهد مكثف لإحياء تاريخ المقاومة الليبية، أو الجهاد الليبي، ضد الاستعمار الإيطالي وكثرت الاحتفالات بذكرى معارك المقاومة ضد الإيطاليين على مدى الأراضي الليبية، ثم قام منتصف السبعينيات بإنشاء “مركز جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي”، الذي كانت الغاية منه دراسة هذا الجهاد وتوثيقه”.
يضع كونراد لورينز في كتابه (العدوانية) هذه العلاقة اللافتة في خانة ما يسميه بالتطقيس الثقافي الذي يحدث عبر اتحاد بين النشوء البيولوجي وآليات الثقافة معتبراً “أفضل نموذج لهذا التطقيس هو الروايات التاريخية لكل أمة عبر كتب تُمجد حروبها وتُصبغ عليها قيما مثل البطولة والشرف، أو الجهاد والشهادة، حتى وإن كانت معتدية على أمة أخرى مسالمة… وعادة ما يُشحن هذا التمجيد بأنغام الوطنية وحب الأرض”*.
رغم أن الحرب الليبية كانت حرب مقاومة مشروعة ومبجلة إلا أن اختزال التاريخ في جانبه العسكري يقع في دائرة التطقيس الثقافي الذي شكل متن الخطاب التعبوي المهيمن في ظل وسواس ثوري قهري، شعاره الكفاح المستمر ونشيد الأثير مديح الموت، ما أدى في النهاية إلى تجاهل تاريخ النضال السياسي السلمي في ليبيا الذي قادته آنذاك نخب ليبية مثقفة، حرصت في البداية على نهج التداول العقلاني مع قوة غاشمة ومتفوقة عسكريا من أجل الحصول على حقوق سياسية ومدنية للمواطنين داخل هذا الاحتواء الاستعماري مثلما حدث في دول عربية أخرى، فكانت تجربة إمارة إجدابيا بالشرق الليبي التي تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي، وإعلان الجمهورية الطرابلسية بالغرب الذي أصدر بموجبه الملك الإيطالي مرسوما بالقانون الأساسي للقطر الطرابلسي، كما خاض الليبيون في المنفى نضالا سياسيا وإعلاميا مهما لفضح جرائم الفاشيست في ليبيا المعزولة تماما عن محيطها وعن العالم، وحقق هذا العمل السياسي الذي دخل في تحالفات عالمية حلمَ طرد الاحتلال الفاشي ومن ثم الحصول على الاستقلال، ورغم ذلك ـ وكما ذكر الككلي ـ فإن النظام السابق حرص على تعتيم النضال السياسي تماما وركزت مؤسسات توثيقه على (الملاطم) التي كان تسمى (معارك) فأطلقت أسماءها على الكثير من الميادين والأحياء والشوارع كما أطلق أسماء الشهداء على الكثير من المدارس في الوقت الذي لم نسمع بأية مؤسسة أو شارع سمي على مناضل سياسي، وفضلا عن ذلك لم يخلُ هذا الاحتفاء بالجهد المسلح من المبالغة والتحوير، بل أن نهجه المثنوي لم يتطرق لذلك اللون الرمادي الذي تشكلت فيه حالات تواطؤ وحوار وتحالفات مع الاحتلال من شرائح وقبائل ليبية عديدة.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي ظهرت مقالة محمد المفتي “النغم الليبي من جوف النشاز الفاشستي) المنشورة بمجلة الفصول الأربعة لتشرع بابا جديدا لقراءة مراحل المقاومة وتأسيس الدولة الليبية من منظور مغاير يتسم بالموضوعية والحس النقدي، وأثارت هذه المقالة زوبعة في أوساط سياسية واجتماعية تمخضت عن رفع قضية حسبة ضد محمد المفتي من قبل مؤتمر الشعب العام ممثلا بأمينه أحمد إبراهيم بتهمة تشويه تاريخ النضال الليبي . ولم يتوقف المفتي عن التجوال بين الوثائق وبآلة تسجيله في ربوع ليبيا ورصد تاريخها الاجتماعي والسياسي في النصف الأول من القرن العشرين وأثناء الحكم الملكي، واستطاع بجهده الخاص أن يضيق من هذه الفجوة ويعيد الاعتبار للنخب السياسية الليبية المناضلة طيلة القرن الماضي.
وأثارت معظم كتاباته ردود فعل مختلفة، كما تم استكتاب بعض المهتمين بالتاريخ للرد عليه والتشويش على استنتاجاته وأرائه ضمن سياسة التعتيم المخطط لها، وربما ترجع أسباب هذا التعتيم المتعمد ـ إضافة إلى ما ذكره الككلي بكون القذافي “لم يشأ أن تنتشر ثقافة المعارضة السياسية والعمل السياسي المنظم وتسليط الضوء على التجارب الليبية في هذا المجال” ـ إلى خلفية القذافي العسكرية التي تجعله يرى شرعيته السياسية في العودة إلى التاريخ العسكري كإرث مقاومة وحيد، رغم أن انقلابه العسكري كان سلميا ولم تطلق فيه رصاصة واحدة، بعكس ثورة فبرايرـ المفترض أن تكون سلمية ـ والتي أطلقت فيها أحدث الصواريخ والقنابل في العالم.
وحقيقة كان لاختزال مفهوم النضال في جانبه المسلح دور مهم في تشكيل ثقافة الأجيال اللاحقة التي لم تتشكل لديها ذاكرة ولا خبرة نضال سياسي فاختارت مباشرة الأسلوب المسلح لانتفاضة فبراير، للدرجة التي انتشرت وقتها حالة سخرية من مفردة سلمية، حيث كان الرأي الدارج أن نظام القذافي لا يمكن إسقاطه إلا بالقوة، ولعل تراجع السياسيين الآن أو اختفاؤهم من المشهد وبروز أمراء الحرب في الواجهة يعكس طبيعة هذه الذهنية التي تعرضت إلى نوع مكثف من التطقيس الثقافي لقيم الحرب المشحون بأنغام الوطنية وحب الأرض، والذي يختزل البطولة والوطنية في الجهاد فقط.
____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل