عادة ما نصف الهوس بعمل أو هواية ما حد الشغف بمفردة “دودة” سواء في الأعمال العادية أو الفنية والإبداعية. وحين نتحدث عن الأعمال الأدبية خصوصاً ، يصبح التعلق بالكتابة ارتباط خدمة وعبودية، للدرجة التي تجعلنا نسمي هذا الارتباط وسواسا قهريا، بالمعنى المرضي، تجاه الممارسة الإبداعية، وغالبا حينما نصف هذه الحالة التي تصيب المبدع بنبرة لا تخلو من الإعجاب المشوب بشفقة: إنها الدودة . فما سر هذا التوصيف العجيب للولع بما نفعله؟ وما مصدر هذه الاستعارة الغريبة التي غالبا ما يربطها تفسيرنا الشعبي بالديدان الطفيلية في المعدة والتي عادة ما تسبب حكة في مواضع حساسة تجعل المصاب بها كثير الحركة؟
قد لا يبتعد التفسير الشعبي عن المعنى كثيرا لكن، الحكاية مختلفة ومرتبطة بفكرة الجمال في جوهرها.
في رسالة للروائي البيروني، ماريو فارغاس يوسا، يرد بها على رسالة من كاتب ناشي، وفي سياق التعليق على إدمان الكاتب الشاب على القراءة والكتابة، يفسر سر المصطلح بقوله: “سأقول لك بكيفية مجازية إنَ قرارك يقربك من بعض نساء القرن التاسع عشر اللائي جراء تضايقهن من سمنتهن، والراغبات في التحول إلى الرشاقة التامة، كن يبلعن الدودة الوحيدة الخلية (التبنيا) ، فهل تأتى لك ذات مرة أن ترى أحدا يحمل في بطنه هذه الحشرة المزعجة ؟ أما أنا فقد حصل لي ذلك وأستطيع أن أؤكد لك بأن هؤلاء النسوة كن بطلات وشهيدات الجمال” .
لقد كان ابتلاع هذا النوع من الدودة الشريطية (التبنيا) وسواس طموح جمالي في تلك الفترة، ليغدو مجاز ابتلاعها في الفن هو ما يقف وراء مشاريع الفنانين والكتاب العظيمة، وبالتالي يصبح كل وقت اليقظة مبذولا من أجل هذا المشروع، ولا أبالغ حين أقول كل الوقت لأنه حتى أثناء النوم تهاجمنا الأحلام أو الكوابيس المرتبطة بهذا الوسواس، وثمة قصائد لشعراء كبار ألفوا مطالعها في منامهم. وهذه الدودة التي تستمد طاقتها من غذائنا علينا بالمقابل أن نغذيها باستمرار حتى لا تلتهمنا، وهذا التبادل المنفعي لا يخلو من الشقاء والمتعة، من المرض والمعافاة، في الوقت نفسه.
يغدو الصمت عملا، والغضب والتسكع في الشوارع واختيار الأصدقاء، يغدو كل ذلك من أجل خدمة المشروع الإبداعي . يقول يوسا في مكان آخر: “كنت على معرفة في الستينات بشاب إسباني بديع يدعى: خولي ماريا . رسام وسينمائي يعاني من هذا المرض …. ذات يوم ونحن نتجاذب أطراف الحديث في مقصف صغير بحي مونبارناس ، فاجأني بهذا الاعتراف: إننا نفعل أشياء كثيرة معاً . فنحن نذهب إلى السينما، ولزيارة المعارض، والمكتبات، ونتناقش ساعات وساعات في السياسة وحول الكتب والأفلام والأصدقاء المشتركين، ولكنك ستكون مخطئا لو ظننت أنني أفعل هذه الأشياء مثلك لأن ذلك يروق لي، إنني أفعلها من أجل دودتي الوحيدة . فكل حياتي من الآن لا أعيشها من أجلي، بل من أجل هذا الكائن الذي أحمل في داخلي، والذي صرت خادما له”.
الفن والكتابة عند معظمنا مزاج وهواية وسد رمق ، الواجبات الاجتماعية تنتهك معظم وقتنا ونشكو منها ، القصائد يعاد إلقاؤها في الأمسيات مرارا ، والدراسات والبحوث تكتب بسرعة ولمناسبة ما ، والمسرح حقل شكوى دائم من الظروف ومن سلبية المحيط والمسؤول.. نحس أننا نكتب للآخرين الذين عليهم أن يكافئونا مباشرة ، ولم نكتشف هذا الكائن المزعج، لم نبتلعه باختيارنا كي نحافظ على رشاقتنا ومكوثنا في قلب الجمال، كي يكون برنامج كل يومنا من أجله، نسافر، نتفرج، نقرأ، نحاور، ونغضب ونضحي بعلاقاتنا الاجتماعية من أجله . على أي مشروع فني أو كتابي أن يتحول إلى دودة وحيدة في داخلنا كي لا نتوقف عن تغذيته ، وكي نتوقف عن الشكوى في الوقت نفسه.
هل ثمة ظروف بيئية لا تصلح لتربية هذه الدودة الوحيدة القارضة بكل معنى الكلمة؟. سؤال يجعلني كثيرا ما اتوقف أمام سيرتي في مجال الكتابة وأرفده بسؤال شخصي: هل فعلا ابتلعت يوما هذه الدودة ؟ خصوصا وأن الكثير من أقاربي أو محيطي العمليين ينصحوني عادة بالتخلص من هذه الدودة من أجل الابتعاد عن المشاكل، ومن أجل الشروع في عمل أكثر جدوى وأكثر مردوداً مالياً.
منذ الطفولة كنت مهووسا بالخلاء وتأمل تلك الكائنات التي تصدح به ، ولوعا بالقراءة رغم عدم توفر الكتب الذي أستعيض عنه بقراءة المتاح مرات ومرات ، ومع الزمن خف نهم القراءة، لكني اكتشف أن يومي عادة ما يكون مكتنزاً بكل ما من شأنه أن يغذي هذه الدودة ، الولع بالأفلام والمسرح والحوارات والموسيقى، وحتى السرحان الدائم بسبب تلاطم الأفكار في داخلي ومحاولة القبض عليها؛ والتي عادة ما يكون مصيرها النسيان، إن لم تثبت في ورقة مثلما كان يفعل الكثير من الكتاب الذي يحملون مع علبة التبغ في جيوبهم قلما ومفكرة صغيرة لتسجيل ومضات أو أفكار تنزل كالطل وتتبخر بسرعة. هذا السرحان الذي بدأ يحرجني مع المحيط ، ويجعلني أحيانا أتجاوز بيتي وأنا في طريقي إليه ، أحد أعراض تلك الدودة ، ورغم ذلك كثيرا ما أفكر: أن الحصيلة محبطة، وأن ما كتبته في هذه العقود لا يعكس طموح هذا الشقاء ، فهل دودتي مستهلِكة فقط، أم جهود تغذيتها يكتفي بترويضها عبر وهم أنني موجود في الحالة؟ هل أصبحتْ مهددة بالانقراض في مناخنا الصحراوي الطارد ؟ المناخ الذي أصبح يعتمد على الموهبة في حد ذاتها كهبة تستلزم نوعا من الاعتداد والعجرفة؟ في مناخ حاث على الكسل يجعل الواحد منا يعتقد أن نشر كتاب أو كتابين كاف للشعور بنرجسية يعقبها استرخاء كاتب كبير، ما عاد يفكر سوى في من يطرق بابه ليجري معه حواراً .
يقول يوسا في رسالته: “إن الموهبة الأدبية ليست تزجية فراغ ، رياضة أو لعبة مخففة نمارسها في الأوقات التالفة، إنها انشغال متميز واستثنائي وأولوية مطلقة، وسخرة تُتولى بحرية لتجعل من ضحاياها (السعداء) عبيداً”.
لعل ربط التضحية بالسعادة هو ما جعل التاريخ يحث خطاه قدما، ليس تاريخ أحداث الأمم فقط ولكن تاريخ كل الفنون وتاريخ الاكتشافات العظيمة في حقول الجمال كافة. لكن التضحية قد تكون دون مردود حقيقي مثلما حال التضحية في النضال أو الثورات، حيث ستكون الجدوى هي المحك النهائي عبر تقييم الناتج الجوهري عن كل هذا العناء. لقد خرج بطل رواية الشيخ والبحر لهمجواي بعد معاناة طويلة مع الهيكل العظمي للحوت الذي كان يصطاده، والبعض اعتبر أن المغامرة كلها فاشلة، غير أن معتنقي مذهب اللذة يعتبرون أن المتعة كلها في هذه التجربة وفي هذا العناء، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو المقارنة بين متعة الشيخ بطل الرواية ومتعة كاتب الرواية الذي حول كل هذا الشقاء المجاني إلى عمل إبداعي استمتع بكتابته.
يقول إميل سيوران: ” قال لي أحد المرضى: “ما الجدوى من آلامي؟ لست شاعرا حتى استثمرها أو أفتخر بها.” في إشارة لا تخلو من تهكم يجيده سيوران، غير أن سؤال المريض البريء يحيل إلى مفهوم دارج للفن وللإبداع عموما، كونه ارتبط في الذهن الشعبي بالمعاناة والتعرض للألم، وكأن من عاشوا حالة مرفهة لم يتركوا لنا تراثا عظيما في شتى أنواع الفنون، وكأن المعاناة والفاقة قدر المبدع وحظوته المحسود عليه.
المسألة برمتها مرتبطة بالموهبة والاستعداد والاندغام في المشروع بإحساس أن العمر لا يكفي لقول كل شي. ثمة أيضا فنانون عظام تركوا سِيراً من الشقاء والألم الذي أحاط بمشاريعهم، غير أن الأمر يتعلق بالحالة نفسها من الوسواس القهري تجاه الفن الذي لم يعطهم وقتا لترتيب حياتهم العادية أو التفكير في الرفاه، وربما متعتهم تكمن في رفاه آخر يتعلق بلذة ممارسة الفن والإبداع نفسه، حتى وإن كان في الظل أو العتمة.
_____________