المقالة

هجرة الكلمات من الأندلس إلى أويا

هجرة الكلمات من الأندلس إلى أويا.. بقلم محمد عبد المولى الشريف
هجرة الكلمات من الأندلس إلى أويا.. بقلم محمد عبد المولى الشريف

ترتحلُ الكلماتُ من بلادٍ إِلى أُخرى مثلما يجوبُ البشرُ البلدانَ ترحالاً، وظاهرةُ هجرة الكلمات من لغةِ المنشأ وتغلغلها في نسيج لغة الوصول لها أسباب متعددة، لعل أبرزها هو الغزو  -عسكرياً كانَ أًم ثقافيا- مثل استعمار دولة لأخرى بقوة السلاح أو تأثير أمة على أخرى بقوة الثقافة ممتشقةً أسلحةً من نوعٍ مختلف: كسيوفِ العلم ونبالِ الإِعلام ورماحِ الفن وحِرابِ الرياضة. وفي هذا المقال، سنقتبس من ضياء هذه الظاهرة لننير خمسَ كلماتٍ سافرت من اللغة الإسبانية وحطت رحالها في الدارجة الليبية.

تعددتِ الهجراتُ والكلماتُ واحدة

ربما يظن البعض أن الكلمات الأجنبية في العامية الليبية تقتصر على الأصل الإيطالي في الأغلب الأعم أو التركي والإنجليزي فيما ندر، ولكن بالنظر إلى التاريخ، سنجد أن إسبانيا قد حكمت أجزاءً من إيطاليا في القرنين الخامس والسادس عشر، بما في ذلك مملكة نابولي وجزيرة صقلية، والأهم من ذلك، هو سيطرةُ إسبانيا على طرابلس الغرب، حيث استمر حكمها من 1510 حتى عام 1540 حسب بعض الروايات، ذاك التغول الاستعماري الإسباني في تلك الحقبة أدى إلى انتقال عدة كلمات إسبانية إلى عدة دول على ضفاف المتوسط، خصوصاً في جنوب إيطاليا، للحد الذي يجعل النابوليتانيين – سكان مدينة نابولي – لا يجدون اليوم صعوبة تذكر في فهم أو تعلم اللغة الإسبانية؛ لأن لهجتهم تعج بمفرداتها وتراكيبها النحوية. وكل ما سلف هو مجرد توطئةٍ لصلب هذا المقال الذي أود التركيز فيه على بعض الكلمات الإسبانية في الدارجة الليبية، دون الخوض في تفاصيلَ تاريخيةٍ عميقة عما إذا كانت هجرتها بشكل مباشر إبان الاستعمار الإسباني لليبيا أو كانت بالوكالة عن طريق الاستعمار الفاشستي، وبالتالي فإن بعض الكلمات التي كنا نظن أنها إيطالية محضة، هي في الأصل إسبانية انتقلت إلى الإيطالية، ولو سلمنا أن بعضها ذات أصلٍ عربي في الأساس، وانتقلت إلى إسبانيا إبان فتح الأندلس، أظن أن عودتها بصبغتها الإسبانية إلى اللهجة الليبية وسائر لهجات المغرب العربي سيضاعفُ من أهميتها كونها تجسدُ تبادلاً ثقافياً ولغوياً فريداً، فالأسباب عديدة وكذلك الهجرات، أما الكلمات فهي واحدة.

1. موجيرا (Mujer):

موجيرا تنطق “موخير” في الإسبانية وتعني المرأة أو الزوجة في الواقع، وفي ليبيا هي ورقة المرأة التي تعادل القيمة العددية (8) في لعبة الورق (الكارطة). لم تكتفي هذه الكلمة بحزم أمتعتها والسفر من الإندلس إلى ليبيا فحسب، بل انتقلت أيضا من كونها إحدى مفردات لعبة الورق إلى مفردة عامية تطلق أحيانا على الزوجة.

2. 3. دوس، تريس (Dos, Tres):

على غرار موجيرا، ثمة كلمات أخرى انتقلت من لعبة الورق إلى مفردات الحياة اليومية، وهي كلمات الأرقام، مثل كلمتي “دوس” (رقم اثنين)، و “تريس” (رقم ثلاثة) فهما تشيران إما إلى الورقة رقم واحد والورقة رقم إثنين في لعبة الورق أو إلى مراكز لاعبي الدفاع في كرة القدم، حيث جرت العادة أن الدوس هو اللاعب رقم 2 وهو جناح الدفاع الأيمن، أما الأيسر فهو “التريس” أي اللاعب صاحب الغلالة رقم 3. 

4. لابس (Lápiz):

تعدُ كلمة “لابس” مثالاً جيداً للتجانس الصوتي بين ألفاظ اللغات المختلفة (Interlingual homophones)، وبالتالي فإن السياق هو الذي يحدد ما إذا كانت “لابس” هي الكلمة المقترضة من الإسبانية، ومعناها (قلم رصاص)، أو الكلمة العربية التي تعني أن الشخص يرتدي ملابس، وخذ هذه الجملة على سبيل الجِناس الفكاهي بين ثنايا الجد: “لابس وفي يده لابس”. بالعودة إلى الجد، يمكن الاستنتاج أن “لابس” انتقلت إلى العامية الليبية من جنوب إسبانيا حيث يُنطَقُ حرف “z” سيناً (لابِس) وليس ثاءً (لابِث) كما هو السائد في شمالها. الجدير بالذكر أيضاً أن كلمة “لابس” قد فقدت شيوعها وسط الشباب الليبي من مواليد التسعينات والألفينات، أما مواليد الثمانينات فالأكبر سنا – كصويحبكم الكهل كاتب هذا المقال – فهم يعرفون هذه الكلمة جيدا واستعملوها في فترة ما وربما مازال بعضهم يستعملها حتى اليوم.

5. ريمونتادا (Remontada):

انتقلت هذه الكلمة حديثاً عبر بوابة دوري كرة القدم الإسباني (La liga)، وهي تعني قلب النتيجة من الخسارة إلى الفوز. وأصبح الشباب اليوم يستخدمونها في سياق الرياضة أو الألعاب عموما مثل لعبة البلايستيشن أو حتى للتعبير عن أي تحول من موقف سلبي إلى إيجابي. هي اليوم كلمة شبابية بامتياز نظراً لتأثر الشباب الليبي بكرة القدم الإسبانية التي اكتسحت العالم. 

ختاماً، اتفق عدة مفكرين ولغويين من العرب والعجم، مثل عبد الوهاب المسيري ونعوم تشومسكي على أن اللغة هي منتوج بشريٌّ – حسب مبدأ العقل التوليدي – نظراً للقدرات التي أودعها الخالق في الإنسان، وبالتالي، لعل أبرز القواسم المشتركة بين سفر الكلمات وسفر البشر يكمن في إحدى دلالات لفظ “السفر” ذاته: وهو ما يُسفِرُ عنه الشيء بعد جملةٍ من التحولات، فنجد أن بعض الكلمات قد تأدبت بآداب اللغة التي سافرت إليها، وخضعت إلى نظامها الصوتي وأوزانها الصرفية، وحيث أن أسباب السفر تعددت، فمنها الغزو العسكري ومنها الثقافي كما أسلفنا، يمكننا أن نضيفَ سببا آخر، وهو السبب التجاري؛ لاحتمال وجود بعض الكلمات الإسبانية ضمن لغة التواصل المشترك أو ما يعرف باللينقوا فرانكا (Lingua franca)، والتي كانت تستخدم كوسيلة للتبادل التجاري في منطقة البحر المتوسط. وعليه، استعرضتُ في هذا المقال خمس كلمات، تنوعت بين الكلمات القديمة المستعملة من قبل كبار السن والكلمات القديمة المحايدة التي تستعمل من جميع الفئات اليوم، وكلمة أخيرة انتقلت حديثاً إلى الشباب الليبي من دوري الليغا الإسباني، وسواء كانت الهجرة عبر غزو قديم أو حديث، عسكري أو ثقافي، فإن تعدد هذه الأسباب يجعل ظاهرة هجرة الكلمات ملهمة ومثيرة للاهتمام تاريخياً ولغوياً وثقافيا.

مقالات ذات علاقة

رفيق المهدوي.. ورفيقه

نورالدين خليفة النمر

قرن المصراتي!

أحمد الفيتوري

أين ليبيا التي عرفت؟ (7)

المشرف العام

اترك تعليق