شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدايات انهيار إمبراطورية الخلافة العثمانية وتوسع أمم أوروبا على حسابها بقضم تلك الإمبراطورية ولاية إثر ولاية وإقليما إثر إقليم، في تلك الأثناء وفي برقة بليبيا و«بمدور الزيتون » جنوب مدينة المرج وبالتحديد العام 1866م ولد يوسف بورحيل المسماري ليلقبه بعد أربعين عاما من ولادته الشيخ عبدالسلام الكزه بعقل الجهاد.
عند ميلاد يوسف بورحيل المسماري العام 1866م، كانت الحركة السنوسية قد ترسخت في ليبيا وأفريقيا كحركة إحياء إسلامي سعت لتجديد الفكر الإسلامي من أجل النهضة ونشر الإسلام ومقاومة التنصير والمد الاستعماري في الدول الإسلامية والعربية.
ولد يوسف بورحيل المسماري وسط بيئة وعلى الرغم من الفقر والتخلف كانت الحركة السنوسية قد منحتها حلما بالنهوض بعد الانهيار والتجديد بعد التحجر وبدأت فعلا في تحقيق ذلك الحلم بالتعليم.
الطفل يوسف بورحيل نشأ وسط أحد نجوع بادية برقة كغيره من أبناء تلك الحقبة القاسية، كانت حياة الكفاف الملمح الأساسي لتلك الحياة، فكانت الزراعة الموسمية والرعي ركني الاقتصاد الأساسين.
التعليم كان شبه معدوم وسط تلك الظروف الصعبة التي لا تتوافر فيها شروط الاستقرار، ولكن يوسف بورحيل حظي ببعض التعليم على أيدي فقهاء النجع، فحفظ أجزاء من القرآن الكريم وتلقى بعض المعارف الدينية على أيدي أولئك الفقهاء.
أثناء طفولته تلك، تعرض يوسف بورحيل لحادثة تركت علامة على وجهه، فقد سقط في تنور نار ليعاني آلام الحروق ويتعلم مبكرا أن الحياة قد لا تكون إلا مواجهة للنيران وصبرا على آلامها والأهم الانتصار للحياة على تنورها المتقد.
كبر حاملا لذلك الوسم على خده الأيمن ولقبوه «بوخديده»، كان نحيلا أبيض البشرة، متأنقا في ملبسه ورصينا شديد التعقل منذ سنه الباكرة.
انتقل يوسف بورحيل إلى زاوية الجغبوب ليلتقي هناك بمن سيكون رفيقه وقائده حتى استشهادهما، التقى عمر المختار.
كانت زاوية الجغبوب السنوسية مدرسة لتربية وتكوين قادة المستقبل في تلك الفترة، تعد طلابها لقيادة مجتمعهم نحو مستقبل أفضل، فتربي عقولهم وأبدانهم لتحمل مسؤوليات بناء مستقبلٍ أفضل، كانت تربيهم عقولا عامرة بالمعرفة وأياديَ عاملة بالزراعة والتجارة ورجال إدارة ومقاتلين من أجل حماية الدين والأرض من غزاة قادمين لا محالة.
نضج الفتى يوسف وصار رجلا متميزا ليعود من الجغبوب إلى الجبل الأخضر ويعمل بزاوية القصور معلما وكل ذلك كان برفقة عمر المختار الذي كان يتولى إدارة تلك الزاوية.
كان عمر المختار كثير السفر والتنقل مما جعله يوكل مهمة إدارة الزاوية والإشراف على تعليم وتربية طلابها ليوسف بورحيل رفيقه الأقرب والأكثر معرفة ورجاحة عقل.
العام 1923م تشكلت أدوار المقاومة للمرة الثانية وكانت قيادتها قد أوكلت لعمر المختار وأظهر يوسف بورحيل قدرة فائقة على التخطيط للمعارك والقدرة على إيقاع الخسائر الكبيرة بالعدو وبأقل الإمكانيات، مما جعله من أهم قادة ومخططي الجهاد ضد الطليان تحت قيادة عمر المختار.
أظهرت المعارك تفوقه وقدراته الفائقة على إدارتها والتخطيط لها والخروج منها بأقل الخسائر، كان عبقرية عسكرية وعقلا للجهاد كما أسماه الشيخ «عبدالسلام الكزة».
كان عمر المختار قد عينه نائبا له في قيادة المجاهدين وقائما على دور «البراغيث» فقد كان عمر المختار قد أصدر قرارا بتعيين قادة لأدوار المجاهدين بالجبل الأخضر من الشيوخ الذين رفضوا الاستسلام وأصروا على مواصلة المقاومة وشملت تلك التعيينات مناصب أخرى مالية وإدارية وفقهية دينية وقضائية وكل ذلك لإعادة تنظيم حركة الجهاد ضد المحتلين الطليان.
شارك يوسف بورحيل في غالبية المعارك التي خاضها المجاهدون بقيادة عمر المختار، فقد كان الذراع الأيمن لعمر المختار في المعارك وكان ممثله في المفاوضات وحل النزاعات القبلية.. كان العقل الراجح وكان كما قال عنه عمر المختار «مافيش عمر المختار بلا يوسف بورحيل» وتولى بعد استشهاد الفضيل بوعمر كتابة وتحرير رسائل عمر المختار وأطلق عليه «الجنرال الفاشي جرسياني» القائم بأعمال القيادة.
قاد يوسف بورحيل معركة «جردس العبيد» وكبد فيها الإيطاليين خسائر فادحة وغنم فيها المجاهدون غنائم هامة من أسلحة وذخائر ومؤن.
العام 1931م تلقت المقاومة الليبية ضربة موجعة وقاصمة باستشهاد عمر المختار بعد أسره وشنقه في سلوق، ولكن و رغم تلك الضربة استمرت المقاومة وواصل من تبقى من المجاهدين المقاومة بعد أن اتفق من تبقى من قادة الأدوار على تسليم القيادة ليوسف بورحيل وأصدر السيد أحمد الشريف قرارا بذلك وقد قال أحمد الشريف في رسالته إلى بورحيل «هذا القرار ليس منا بل بناء على وصية عمر المختار للحفاظ على الجهاد».
تسلم بورحيل قيادة الجهاد في ظروف شديدة الصعوبة، مجاهدون يعانون الجوع ونقص الذخيرة وتفتك بهم الأمراض، كان الحصار الذي فرضه الإيطاليون قد جردهم من كل شيء ولم يتبق لهم من سلاح ولا غذاء إلا الإيمان والإرادة.
على الرغم من تلك الظروف واصل بورحيل القتال حتى الرمق الأخير، حيث جمع قادة الأدوار الباقين وقال لهم «إننا محاصرون من كل الجهات وقد هاجر أحبابنا وأهلنا إلى مصر ودول أخرى والإيطاليون يضغطون علينا لنستسلم ولكننا لن نفعل لن نستسلم بل سنواصل حتى الطلقة الأخيرة والشهادة».
يوم 19 ديسمبر 1931م وقرب زاوية «أم ركبة» شرق طبرق حاصرت كتيبة إيطالية يوسف بورحيل وثلاثة من رفاقه بعد أن لجؤوا لكهف وظلوا يقاومون حتى استشهد بورحيل ورفيق آخر وجرى أسر المجاهدين الآخرين.
الإيطاليون لم يكتفوا بقتل الشهيدين بل مثلوا بالجثامين الطاهرة ثم قطعوا رأس يوسف بورحيل ووضعوه في صفيحة وحملوه إلى البردي للتعرف عليه ثم عرضوا الرأس على نزلاء المعتقلات من الأهالي ليكون رأس يوسف بورحيل المقطوع الإعلان عن نهاية المقاومة.
يوسف بورحيل أحد أبرز قادة الجهاد الليبي وذراع عمر المختار وعقل الجهاد الراجح ظل وبكل أسف مغيبا عن كتب التاريخ وسرديات تاريخ الجهاد وكان آخرها فيلم عمر المختار حيث اختفت شخصية نائب عمر المختار وخليفته في قيادة الجهاد بعد استشهاده، من هذا الفيلم، ولم يكن من سبب لهذا التغييب إلا وجود المناضل الوطني «أحمد بورحيل» نجل يوسف بورحيل في المعتقل السياسي سبعينيات القرن الماضي.
بوابة الوسط | الخميس 25 أبريل 2024م