البدري الشريف المناعي
مريم، وأخيراً غادر أحفادها المشاغبون البيت، فأخذت في إعادة ترتيب الصالون، وإعادة المراتب المتناثرة إلى أماكنها، ودخلت المطبخ حيث قامت بتنظيف الصحون والأكواب وتنفست الصعداء. صحيح إنها تحب أحفادها كثيراً ولا تطيق غيابهم عنها لأسبوع، ولكنها بدأت تشعر بالتعب والملل من حياتها الرتيبة كما تقول. وضعت الركوة على النار، وعملت فنجان قهوة، وجلست على الطاولة بالمطبخ وهي تحدق عبر النافدة إلى لا منتهى. – ما هكذا يجب أن يكون حالها خاطبت نفسها بصوت خفيض! وذهب بها التفكير بعيداً وهي ترفع فنجان القهوة قرب أنفها تشم رائحتها، وتأخذ رشفة بتكيف، وترفع رأسها قليلاً بتنهيدة عميقة. كانت أحلامها كبيرة، ولم لا؟ قالت في نفسها. إنها تستحق.. فقد كانت طالبة مجتهدة وذكية، وعليها مسحة من الجمال، ولا ينقصها شيء؟ لماذا تنتهي هكذا كما هي الآن؟ مدرسة متقاعدة، وكل الوقت بالبيت، ولا تعرف الراحة طوال يومها، فهي الزوجة، والأم، والطباخة، والحاضنة للأطفال، والشغالة، بل وتقوم حتى بالذهاب إلى الأسواق لشراء مستلزمات البيت من مواد غدائية وخضروات وغيرها من الأغراض والمستلزمات.
نظرت ناحية شاشة التلفزيون وقالت: –
– هكذا هن النساء المرفهات يهتممن بزينتهن وملابسهن، ولهن حضور بالمجتمع، وأما أنا فماذا لدي؟
قهقهت باستياء قائلة بصوت مسموع: – يا عازتك يا مريم!..
يا عازتك يا مريم! أنت التي اخترت هذا الطريق، وكان يمكن أن تكوني مثل إحدى هاته السيدات الأنيقات اللاتي تشاهدينهن الآن على شاشة التلفزيون
آه لو يعود بي الزمان الى الوراء؟ وتحركت قليلا من على كرسيها لتصلح من جلستها وصرخت ببعض الألم آه يا ظهري؟ هكذا هو حالك يا مريم استنفدت كل طاقتك في الأعمال الشاقة.
تستأهلين ما تعيشينه فقد كان هذا اختيارك. نعم الآن ها أنت يا مريم قد وصلت سن التقاعد، وقد استهلكت كل أطرافك، فلم تعد ركبتاك تتحملان وزنك، ولم يعد ظهرك مستقيماً كما كان، أما رأسك فهو دائم الصداع، ولم تعد تنفع معه الأدوية.
صبت فنجانا آخر من القهوة، وأخدت رشفة، وبتنهيدة قوية خاطبت نفسها: – يا حسرة عليك يا مريم..
كيف كنت، وكيف أصبحت؟
عادت بها الذكريات إلى أيام الجامعة بكلية العلوم بطرابلس حيث كانت هي وصديقاتها يعشن حياة حافلة ونشطة وممتعة، تجمع بين الاجتهاد في الدراسة، وفي قضاء الأوقات الممتعة التي يقضينها سوياً عند العطلات، يعلقن على زملائهن الطلبة، ولم ينج من تعليقاتهن الساخرة في بعض الأحيان حتى الأساتذة والدكاترة، خاصة المعيدين، ويتحدثن عن طموحاتهن.
كن أحيانا يجلسن بكافتيريا الكلية يتناولن السندوتشات والقهوة، وأحيانا يتجاذبن الحديث مع زملائهن من الطلبة، ولكن بحذر خشية أن يساء الفهم من الفضوليين الذين يراقبون كل حركة وكل سكنة. هكذا تربت هي وصديقاتها، الحيطة ثم الحيطة على سمعتهن، وعليهن التركيز على النجاح في الدراسة، وليتركن موضوع الزواج للظروف، فرغم أن هذا الموضوع مهم ويتناولنه دائماً في أحاديثهن، إلا أنهن دائماً ما ينهين الحديث بأن الحياة قسمة ونصيب.
ابتسمت ورفعت فنجان قهوتها، وأخذت رشفة أخرى مرددة: – قسمة ونصيب.. هذا ما حصل! كانت درجاتها عالية تؤهلها لبعثة دراسية بالخارج لتحضير الماجستير، ولكن!! في نفس الوقت تقدم إليها المهندس عثمان خاطباً، وهو أخ إحدى صديقاتها. واحتارت في الأمر! – هل يوافق يا ترى على مصاحبتها، ويوافق على استمرارها في الدراسة؟
التقت به بترتيب من صديقتها، ولم تخفِ إعجابها به، فهو كما يبدو لطيف وسمعته طيبة، وكما ذكر لها يحب عمله بالشركة التي يعمل بها، ولديه طموح كبير في تحسين وضعه الوظيفي. كلاهما من أول لقاء أعجب بالآخر، ولكن هي لها حلمها بمواصلة الدراسة، وهو له حلمه برفع مستواه الوظيفي وتكوين أسرة وأطفال.
عندما سألته عن رأيه في البعثة الدراسية، وإن كان يوافق على مرافقتها، أجابها بصراحة ودبلوماسية إنه لا يستطيع ترك عمله والسفر، وكأنه في إجازة، وهو يرى بأن تكوين الأسرة، وبناء مستقبله هنا أهم. عندما عادت إلى البيت كانت تتملكها الحيرة ماذا تفعل؟ هل تضيع هذه الفرصة بالزواج من شاب متعلم من عائلة محترمة تعرفها، أم تنحاز إلى طموحها بمواصلة دراستها؟ سؤال صعب حيرها، ولم تستطع النوم لعدة ليال! حاولت استشارة صديقاتها المقربات، ولم تحصل على جواب شاف، فكل صديقة تشير عليها برأي! صديقتها المقربة قالت بصراحة: – يا مريم ليس من السهل إعطاؤك رأي في هذا الموضوع. ولكن لأنك صديقتي المقربة فلا أخفي عليك خشيتي إن ذهبت للدراسة فقد يفوتك قطار الزواج؟ ولا تعرفين إن كانت ستأتيك مثل هذه الفرصة ثانية؟ صحيح أنت شاطرة، وأتفهم رغبتك في استكمال دراستك، ولكن عليك أن تفكري في أولوياتك، وما هي أهدافك في الحياة؟ طلبت مريم من صديقتها بإلحاح أن تزورها في أقرب وقت، لأنها حائرة وتريد أن تناقشها في الموضوع بجدية وبتركيز. جاءت صديقتها في المساء فاستقبلتها مريم وأمها بترحاب كبير، فهي صديقة مقربة من العائلة، وبعد السلام أخذت مريم صديقتها إلى غرفتها، ودخلت في الموضوع مباشرة: –
هل ترين هذه الورطة التي أعيشها، إنني حائرة جداً، ولا أعرف ماذا أفعل؟ فعلا لا أعرف ماذا أفعل، ولم أستطع اتخاذ قرار، فمن جهة لدي رغبة كبيرة في استكمال دراستي، وقد واتتني هذه الفرصة، ومن جهة ثانية أخشى إن رفضت عرضه بالزواج تضيع مني هذه الفرصة، ويجتازني الزمن؟ نظرت صاحبتها مبروكة في عينيها ملياً، وقالت لها عليك مواجهة نفسك، وتحديد أولوياتك.. أيهما أهم الزواج، أم مواصلة الدراسة؟
أيهما أهم؟ أن تكون لك أسرة، أو تصبحين دكتورة قد الدنيا كما يقولون؟
ولكن كما تعرفين كلاهما مهم بالنسبة لي: الزواج ومواصلة الدراسة؟
صحيح نحن جميعا لدينا أشياء كثيرة مهمة، ولكن أحيانا علينا الاختيار، فلا يمكن أن نعيش في حالة تذبذب، وعليك اتخاذ قرارك!
– والله صدقيني الأمر ليس سهلاً!
– نعم إنه ليس سهلاً، ولكن أنصحك بصلاة الاستخارة، والتوكل على الله، ولكن حين تقررين عليك بالرضاء التام بما اخترت، و لا تفكري في الأمر ثانية، أو تندمي على اختيارك، بل عليك تقبل الأمر بنفس راضية
. – صحيح، ولكن بالله أخبريني لو كنت أنت في وضعي ماذا كنت ستختارين؟
ابتسمت مبروكة وقالت: – ماذا سأختار؟ سأختار الدراسة بالطبع، وأخذت تضحك!
الحقيقة يا صديقتي سأختار الزواج، وبناء عائلة، فأنا أؤمن بالأمثال الشعبية، والمثل يقول ظل رجل ولا ظل حائط، وازدادت ابتسامتها اتساعاً.
ابتسمت مريم وسألتها ثانية: – هل حقا ما تقولين؟ يعني إنك ترين أن أوافق على الزواج بعثمان، ونسيان موضوع الدراسة؟
أجابت مبروكة: – أنت سألتني عن نفسي ماذا سأختار، وأنا أجبتك! وعليك أنت أن تحددي موقفك بنفسك.
قالت مريم: – أنت دائما لديك حكمة، وأنا أثق دائماً في رأيك ونصيحتك. –
هل معني هذا أن أقول لك مبروك من الآن؟ –
إن شاء الله سأوافق، وإن كان هناك نصيب، سنتم موضوع الزواج.
أفاقت مريم من سرحانها، وأخذت ترتشف بقية فنجان القهوة، وهي تردد القسمة والنصيب. ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تتمتم.. قالت المثل الشعبي يقول!…ولا ظل حيطة، ولكن صدق المثل الذي يقول الزواج أوله عسل ووسطه كسل وآخره بصل هيهه؟ هذه هي الحقيقة، ولكن صح النوم يا مريم الآن تستفيقين بعد أن أفنيت زهرة عمرك؟ أريحي نفسك، فلم يعد هناك شيء يهم! الآن فات اللي فات.
دخل عثمان إلى البيت، ووجدها جالسة على الطاولة، وأمامها سفرة القهوة فقال ضاحكا: – هذا فاش فالحة.. القهوة!، ولابد أنك كنت مشغولة على الهاتف وتدردشين مع صاحبتك مبروكة.. اليس كذلك؟
نظرت إليه بعينين زائغتين ساهمتين، وكادت أن تنفجر من الغيظ، وقالت لنفسها: – هكذا هم الرجال لا يقدرون عمل المرأة.
قامت من جلستها بغيظ، وحملت سفرة القهوة لتضعها على رخامة المطبخ، ولم تقل شيئا. كان يمر برأسها في هذه اللحظات العمل المضني الذي تقوم به في البيت؛ من تنظيف وغسيل وطهي الطعام، بل وحتى الاهتمام برعاية أحفادها، وصرخت داخل اعماقها: – وكل ذلك لا يراه أحد، ولا يقدره لا زوجها ولا حتى أبناؤها! وذرفت دمعة من عينيها على خدها. انتبه زوجها إلى حالتها، وقال لها مازحا: – لماذا هذا الانزعاج أنا أمزح معك!..
هيا قولي لنا ماذا سيكون غداؤنا اليوم؟
نظرت إليه نظرة مستاءة وقالت: – عليك تدبر أمرك، فأنا ذاهبة إلى بيت ابنتي نادية بعد قليل، وكل شيء موجود بالثلاجة.. البيض والجبنة والتن، وتستطيع أن تصنع سندوتشات! التزم زوجها الصمت، حيث أدرك بأنها ليست في مزاج رائق، وفضل عدم التعليق حتى لا تسوء الأمور وتتطور إلى ما هو أسوأ. لقد خبرا نفسيهما جيداً بعد هذه السنين، ويعرفان متى يركنان إلى الصمت ورفع الراية البيضاء حتى تنقضي الزوبعة.
أعدت نفسها بسرعة، وأخذت مفتاح سيارتها، وخرجت مودعة عثمان قائلة بأنها ذاهبة إلى بيت ابنتها نادية فودعها قائلاً: – خذي بالك من الطريق فالشباب هذه الأيام متهورون في قيادة السيارات.
ابتسمت ابتسامة باهتة، وتمتمت داخل نفسها باستياء: – يعني إيه! هو مهتم بي؟
وصلت مريم إلى بيت ابنتها نادية، واستقبلها أحفادها بالصياح وهم يتقافزون حولها ويتصايحون: – أميمة مريم.. اميمة مريم. وبعضهم يجذبها من فستانها، وابنتها تحاول أن تفكها منهم وتقول لهم انتظروا حتى تخلع أميمة معطفها.
لحظة واختفى كل ذلك الضيق الذي كانت تشعر به وهي ترى اللهفة والفرح في عيون أحفادها وهم يستقبلونها. جلست بالصالون وسألتها ابنتها عن حال أبيها، ولماذا لم يأت معها، فغداؤهم اليوم سمك، وهي تعرف أن أباها يحب السمك.
ابتسمت أمها وقالت: – إنه فعلاً يموت في السمك.. ما رأيك أن تتصلي به وتطلبي منه القدوم للغداء؟
اتصلت نادية بالنقال بأبيها، ولكن الهاتف يرن، وليس هناك رد.. استغربت فقالت لها أمها: – ربما يكون في الحمام، أو أن الهاتف بعيد عنه، حاولي معه بعد قليل. عدة محاولات تمت للاتصال، ولكن لم يكن هناك رد، فقالت لابنتها: – لا أستطيع أن أبقى، ربما حصل مكروه لوالدك لأنه ليس من عادته ألا يرد على الهاتف، وقامت لترتدي معطفها، فطلبت ابنتها من زوجها أن يلحقها في سيارته.
عندما وصلت أمام البيت وجدت صهرها أمام الباب، فقد سبقها في الوصول إلى هناك، وما أن فتحت الباب حتى أخذت تنادي على زوجها، وسمعت أنيناً فاندفعت نحو الحمام، ووجدته ملقى على الأرض لا يستطيع القيام، فقد انزلق في الحمام، وسقط على ظهره، وأصيب في رأسه.
كانت مريم مذعورة جداً، وأخذت تؤنب نفسها بأنها ربما أغضبته عندما خرجت من البيت مما أفقده تركيزه وأدى إلى سقوطه.
بمساعدة صهرها ساعدا زوجها في النهوض، وقد كان يتحرك بصعوبة، وهي تسأله إن كان يحس بالألم في ظهره، وتحاول أن تواسيه وتخفف عنه.
أخذاه إلى المصحة القريبة من بيتهم، وبعد كشف الطبيب تقرر أن يبقى تحت الملاحظة، ولإجراء المزيد من الفحوصات، فقد كان يحس بالألم الشديد عند كل حركة. طلبت من صهرها أن يعود إلى بيته وقالت له بأنها ستبقى صحبة زوجها فلا ينشغل، وعليه أن يطمئن نادية على حالته. لم يتوقف الهاتف عن الرنين، فقد سمع أبناؤها بالحادث، وجميعهم يتصلون للاطمئنان على حالة أبيهم، وبعد قليل امتلأت الغرفة بالمصحة بأبنائهما وهم يحيطون بوالدهم ويستفسرون عن حالته، وقد طلبوا من والدتهم أن تعود إلى البيت وتستريح، وأن أحدهم سيبقى مع والده وينام معه بالمصحة فلا تنشغل.
رفضت مريم العودة إلى البيت وأصرت على البقاء صحبة زوجها، وعند منتصف الليل عاد أبناؤها إلى بيوتهم، وبقيت هي جالسة على كرسي قرب سرير زوجها تلبي طلباته، وتسأله بين الحين والحين إن كان يحس بتحسن في صحته. كانت وهي جالسة سارحة في ماضيها وعادت بها الذكريات إلى أيام خطبتها وبداية زواجهما.. غطت وجهها ابتسامة عندما تذكرت فرحتهما عندما أنجبت أول أطفالها، وعندما سافرا سوياً في شهر العسل، وطفقت تستعيد كل الذكريات التي عاشتها هي وزوجها.
نظرت إلى زوجها وهو مستلقٍ على السرير، فوجدته يمعن النظر إليها وعلى وجهه ابتسامته المعهودة، فابتسمت له، وقالت له ما الذي يجعلك تبتسم هذه الابتسامة؟
فقال لها لقد كنت أراقبك منذ دقائق، وأنت سارحة في مكان بعيد.. فأين كنت؟ –
ماذا أقول لك لقد سافرت في رحلتنا الطويلة كل هذه السنين، والحمد لله أنه وفقنا في بناء عائلة سعيدة.
ضحك وقال: – يعني أنت لم تعودي غاضبة مني؟
ابتسمت وقالت: – أي غضب، ربنا لا يحرمني منك… إنها عشرة عمر!