مريم: حويج.. يا حويج.. العفو يا ربي.. تخيره الشيباني اليوم؟ زعما حرجان؟ حييييه عليا.. ان شاء الله غير مش مستاجع.. تنوض يا حاج الشاهي طاب.. نوض كانك بتتوضي وبتصلي قبل ما اتوكل على الله وتمشي تخدم علي حالك.. يا نااااري يا كبيدتي.. رانك خوفتني يا حاج.. بسم الله الرحمن الرحيم.. حاج! يا حاج! صباح الخير يا حاج
الحاج خليفة: احمممم.. صباح الهنى والبركة ان شاء الله.. صبح يا فتاح يا عليم وبسم الله الرحمن الرحيم.. ما فيا شي يا مرا ما فيا شي.. راني سمعتك يا مرومه وين قلتي زعما خيره “الشيباني” اليوم.. ايوااا.. انا شيباني يا مرومه يا بنت الحاج علي؟ يا مريم يا اللى ما جابوك عرب، انا شيباني؟ الله يسامحك وخلاص.. مقبوله منك يا نوارة قلبي انت.. يا ترفاسه من غير تراب.. انت يا اللى الورد ايغير منك والياسمين داير اضراب من يوم ما شافك.. يا دم قلبي انت
مريم: باهي باهي.. شورك هالكلام تتعلم فيه في المنام.. تغير اسكت اسكت.. وطّي حسك راهو يسمعوك الصغار.. ربي اينجيّك ليا حتى انت ويخلّيك لينا يا رب
الحاج خليفة: وخلليهم الصغار يسمعو.. وشني فيها لو سمعو ان بوهم يحب امهم ويدلّع في عزوزته وميت في حب هالشعيرات المسلوته وصبيعات الحنه اللى زي الزلابيا وهالضحكة الحلوه اللى تخللى الواحد قريب يخش في عقله ويطلع منه.. انا راضي عليا ربي اللى نتصبّح في وجيهك اللى يزهّي البال والخاطر
مريم: ياسرك ياسرك.. هيا نوض يا حويج عاد وسادّك من كلام مسلسلات الدلفزيون.. دس هالكلام لبعدين.. نوض توكل على ربك راني درتلك طويسة شاهي تقعّد الراس وصوينية زميته على كيف كيفك من اللى بعتهالك الحاج اصميده وحطيتلك عليها شوية سكر وزيت زيتون
الحاج خليفة: والله كان نيتي اليوم نفطر بيتزا او كرواسونه فرنساويه او حتى بسيسه بالشوكولاته السويسرية.. لكن يللا خيرها في غيرها وحتى الزميته ما عندي ما نقول فيها.. ومن هاليديات الحنيّنه ناكل حتى السم
مريم: سم؟ بعيد السو على شويبانيا.. ان شاء الله في اللى يكرهك
الحاج خليفة: زميته بالزيت والسكر؟ ومنين جاك السكريا بنت الحاج علي؟ مش امس قلتيلي ماعندناش سكر ودار الخزين قاعدا تصفّر؟ وقعدتي تعزري فيا (ومنين بيجينا السكر يا حسره.. والله حتى قنادش الحومه ايخشن لدار الخزين ويطلعن يسبّن ويكفرن وماهن لاقيات بيش ايحلّن ريقهن) مش قلتيلي هكي امس؟ تمنين جاك السكر؟
مريم: السكر راهو جابه ولدك صلاح.. ماهو صلوحه صلّح ماطور سيارة واحد خاشش في خلابيط اللجنة والجمعية وحصّل منه شكارة سكر.. ريت كيف صلوحه فالح؟
الحاج خليفة: تصليحة سياره بشكارة سكر؟ بزنس مش بطال! لكنه ياريته يفك روحه ويبعد عن جماعة اللجان ووجع الراس.. هاضوما ما يجي منهم الا وجع القلب والسمعة البطاله.. تبالك بضاعه فاسده والا مخنوبه هالسكر؟ انا تعرفيني يا بنت الناس.. حوشي ما ايخشلاش رزق الحرام.. يستر الله.. على الاقل عارفين ولدنا وشن ايدير مش زي قليل الحظ محمد ولد الحاج بوداليا اللى مسكين منعيد ما طبّوه فروخ الحرام ماعاد سمعنا عنه حاجه.. الله يصبرنا ويصبر اهله وخلاص.. توين سوريتي الزرقا
مريم: آمين يا رب العالمين.. افجيوه عليهم يا ناري.. والله يا كبيدتي امه قريب تنعمي من كثرة البكا.. السوريا الزرقا؟ من امتى عندك سوريا زرقا؟ آهي سوريتك البيضا واتيا فوق الكرسي يا حويج.. انا واتيتلك كل شي والفرمله أهي معلقه في جنب الشكماجه وشبشبك قدام الباب البراني
الحاج خليفة: ربي ما يحرمني منك يا مرومه يا بنت الحاج علي.. الله يخلليك ليا يا غاليه يا ام الغوالي.. الصغار قاعدين راقدين شورهم؟
مريم: ايه قاعدين راقدين.. خلليهم يرقدو شويه اليوم يوم جمعه.. وشني تبّي تتغدى اليوم يا حاج؟
الحاج خليفة: غذى؟ اااه.. اليوم نيتي نتغذى.. نيتي نتغذى طريفات لحم غزال مشويه مع طبيخة ترفاس ومعاهم سلاطة بازوزي البحر المخلل بالهريسه وبعدهم كاللوني متاع قرنيطه بالثومه والكمون وجبنة المعيز المعصوره.. وبعدين فنيجيل كابو.. كابو.. كوبوتشينو مع طريف باسطي بالشكولاته السويسرية.. وبس
مريم: شنو شنو؟
الحاج خليفة: والا انقوللك؟ ديريلنا مكيرينه امبكبكه جاريا وخلاص
بعد الصلاة، جلس الحاج خليفة كعادته كل صباح تحت شجرة التين في الحديقة المتواضعة بفناء منزله الصغير. احضرت له الزوجة الوفية مريم وجبة افطاره وتركته ليستمتع بلحظات الصباح الباكر حيث الهدوء والصمت الذي لا يقطعه سوى نباح كلب او صياح ديك وبعض الاصوات الصادرة عن صحوة الطيور في اعشاشها بين اغصان الشجر. لرائحة الارض الطيبة في الصباح الباكر عطر جذاب وسحر خلاب. رطوبة تختلط بتراب ارض صبورة فتسحر الخيال.. ولرقصات اوراق الشجر بعد سقوط قطرات الندى عليها من الاغصان العليا، سحر يفتن المتأمل ويجعل القلب يسبح بقدرة الخالق وعظمة الطبيعة التى هيئها للبشر.
تناول الحاج خليفة افطاره المتواضع ونهض متوكلا على الله. ودع زوجته واستعد لمغادرة بيته الى السوق ليبدأ يومه في السعي وراء رزقه كتاجر للفواكه والخضروات في سوق المدينة. وقبل أن يغادر فناء بيته، لم ينسى توجيه سؤاله المعتاد لشريكة العمر: “بالك ناقصك حاجه يا مرومه؟ ما تبيش حاجه من السوق؟”. وترد عليه مريم كعادتها: “لا يا ودّي.. ما ناقصني شئ الحمد لله الا سلامتك يا حويج.. مربوحه ان شاء الله.. ربي يحفظك من فروخ الحرام وبنات الحرام اللى لا ينامو ولا يخللو من ينام.. رد بالك راهو قالو فيه حفر هلبه في الشارع اللى في جنب المعسكر.. وقالو حتى طوبوات مجاري شارع البلدية مفلوقه
الحاج خليفة: عارف عارف.. يستر الله ان شاء الله.. ماتنسيش تقوللي لصلاح ايجيني في الدكان الساعة عشرة.. هيا بالسلامة
مريم: باهي باهي.. في لامان ان شاء الله.. لا تغيبك عالعين يا بوالعيلة
الحاج مصباح الفزاني صاحب محل الخضروات المجاور لمحل الحاج خليفة مشهور في المنطقة ب “بوداليا”، والسبب وراء التسمية هو شجرة العنب التى تظلل رصيف محله. فهو الذي زرعها وسقاها واعتنى بها لسنوات وسنوات. حتى عندما استولت ثورة العقيد القذافي الاشتراكية على محل الحاج بوداليا وأقفلته لشهور طويلة، داوم هذا الليبي على زيارة شجرة العنب تلك ولم يقصر في الاعتناء بها.. كدليل على عرفانه بجميلها ووجودها كرمز للاصرار على التواجد والاستمرارية والتصميم على محو عبارة “تم الزحف عليه” من على باب دكانه المتواضع.. الذي تظلله “الداليا”.
الحاج بوداليا: نهارك مبروك ان شاء الله.. الطويسه الاولى فاتاتك والله.. لكن الثانيه قريب اتطيب.. انشا الله جبتلنا الخبزه معاك.. الدور عليك اليوم عاد
الحاج خليفة: اوب اوب.. يا عيني.. عندي الشي
الحاج بوداليا: الله يفتح عليك
الحاج خليفة: ادلل يا حاج بوداليا ادلل.. انت الخير والبركه يا ولد بلادي.. والله جايبلك خبيزه على كيف كيفك من كوشة عمك الحاج سعد.. خبيزه طازه قاعده تدقل سخونه.. لكن كعيكيصات الخبزه ياخذن سوّك راهو
الحاج بوداليا: عارفينها ديما اتجي منك اتزغرط
فتح الحاج خليفة باب محله وبدأ في ترتيب اموره استعدادا لاستقبال زبائن يوم الجمعة المزدحم بالاعمال الكثيرة حتى اقتراب موعد صلاة الجمعة. في اسواقنا الشعبية التي لاتزال عامرة بالالفة والبساطة والكثير من الاشياء والاحاسيس الاصيلة بالرغم من سنين المد الثوري الشاذ والجزر الفكري الذي احضره معه هذا النظام الشمولي المحتكر الوحيد للسلطة وللثروة والسلاح.. في اسواقنا الشعبية هذة، يلتقي أهالينا من المدينة وضواحيها لشراء ما يقدرون عليه من مستلزمات البيت والاسرة.. ولقاء المعارف والاصدقاء لأجل تبادل الآراء أو من أجل الاستمتاع ب “دق الحنك” و”طرالها جرالها” في المحلات والمقاهى الشعبية.
تلك المقاهي الشعبية المليئة بالحكايات وقفف المشاعر المكتومة. هناك يلتقون كل يوم جمعة.. هذا يبيع وهذا يشتري.. هذا يأتي ليطمئن على قريب او صديق وذاك يأتي ليتسول القليل من الخبز لاطفال عائلة تنتمي لدولة نفطية!! منهم من يأتي الى السوق الشعبي لكنه يتجنب النظر باتجاه محل القصّاب وذلك لعدم قدرته على شراء القليل من اللحم لعائلة لا ترى اللحوم الا مرتين او ثلاثة في الشهر. يغرز الناقم على اسعار اللحوم اصابع يده في شوال الفول اليابس.. يداعب حباته ثم يسأل: بقداش الفول والنبي؟ وبعد المساومة والشكوى لله من ارتفاع الاسعار، يشتري السائل كيلو او اثنين من الفول وينسحب حالما ببروتين حبات الفول الذي سيعوض غياب بروتين “هبرة” اللحم المجنّب. وفي زوايا كثيرة من هذا السوق الشعبي، سنجد من لا يعجبه اللون الأحمر لفلفل الحاج عمر ولا رائحة نعناع الحاج خليفة ولا طعم قهوة الحاج حموده ولا شكل حبات طماطم الحاج بوداليا.. فهو يأتي للسوق فقط من أجل ان يضيع في الزحام وليدس انفه في امور الغير. يتتبع هذا المخلوق العجيب أخبار وأحاديث العامة.. يسجل شكواهم وما يصدر عنهم من تعليقات.. خاصة تلك الكلمات التى تمس الوضع السياسي او الآلهة الجديدة لهذا البلد المنكوب. وكما تقول العامة، يتحول هذا المخلوق المتطفل على المجتمع الليبي الاصيل الى فيروس او ميكروب او شوكة بين الظفر واللحم.. وينقلب الى مسخ “كاسر وذنه” ينقل أخبار المتسوقين الى من يخشون ناسهم ولا يخافون الله.. ويتحول مخبر “عصر الجماهير” في هذا المجتمع المنكوب الى سمسار لحم وطني ينهش لحوم المواطنين الليبيين ويبيعها بالجملة وبالقطاعي مقابل مرتب أكل عليه الدهر وشرب عادة ما يصله متاخرا شهورا كثيرة.
انشغل الحاج خليفة وجاره الحاج بوداليا في ترتيب وتنظيم بضائعهم كبداية لروتين الدوام الرسمي.. هذا يكشف على صناديق الطماطم ويرمي غير الصالح منها في صندوق مخصص لذلك.. والآخر يرش الماء على المعدنوس والنعناع والحبق، فتنتشر في الجو رائحة جذابة.. . حط غراب قاتم السواد على حافة صندوق اللوز بالقرب من محل الحاج بوداليا..
الحاج بوداليا: اش اش.. يا صبح يا فتّاح.. اللهم اجعله خير يارب.. امشي يا وجه النكد.. امشي.. حه حه حه
التقط الحاج خليفة “ربطة معدنوس” لوّح بها في اتجاه الغراب الذي طار تاركا ورائه صمت مؤقت.. لكنه لم ينسي ترك بصمة ارسلها وهو في الهواء لتسقط على صفحة من صفحات جريدة الزحف الأخضر تغطي كيساً كبيرا لمطحون الفلفل الاحمر امام محل الحاج خليفة.. وليتحول الزحف الأخضر الى زحف لمخلفات رمادية اللون لغراب اسود… عند حوالي الثامنة والنصف وصل بلقاسم مساعد الحاج خليفة في المحل وبدأ في مباشرة عمله على الفور. لاحظ الحاج خليفة ثلاثة غرباء يتحدثون مع جاره الحاج بوداليا. طوّق أحدهم كتف الحاج بوداليا وقاده الى داخل المحل. ارتاب الحاج خليفة في ما يجري وقرر أن يطمئن على جاره.
الحاج خليفة: شني صار في الشاهي يا حاج؟ ان شاء الله غير ما انحرقش البريريد!
الحاج بوداليا: قريب ايطيب.. راجيني خمس دقايق بس.. ما تتباعدش.. خلليك قريّب
وفي داخل محل الحاج بوداليا جرى الحوار التالي بين الحاج بوداليا وزواره:
الحاج بوداليا: شنو فيه يا جماعه؟ خير ان شاء الله.. جيّتكم هادي مش بلاش.. يا ستار استر
الضابط: احنا يا سيدي زي ما قلتلك من أمن الجماهيرية.. غير تفضل قعمز بس.. تريح بيش انفهمك الموضوع
الحاج بوداليا: يا ودي الراحة في القبر.. فهمني شنو فيه بالزبط.. ولدي محمد وين؟
الضابط: ولدك محمد.. عليك نوووور.. والله يا سي الحاج عندنا ليك خبر مش باهي بخصوص ولدك محمد
الحاج بوداليا: نهار اسود عليا وعلى ايامي
وحس الحاج بوداليا بأنه على وشك سماع خبر فقدان ابنه محمد، حاول استدعاء صديقه الحاج خليفة لكن رجال الأمن منعوه من ذلك.
الضابط: وسّع بالك يا حاج وما فيش داعي تخشش ناس ثانية في الموضوع.. الموضوع يا سيدي باختصار هو ان ولدك محمد اتعيش انت.. مات.. لا اله الا الله.. على قد ما درنا فيه هو راكب راسه.. والباين ان جماعته في الحبس قلبوله دماغه وخش معاهم في الاضراب وكسرو الحبس وضربو الشرطة والحراس وخنبو سلاح وحاولو يهربو من الحبس.. في الدعكه اللى صارت يا سي الحاج.. جماعة ولدك ضربوه وبعدين دفوه ورموه من فوق الحيط.. ومسكين توفى في مكانه وقتي وهذا اللي صار.. والبقية في حياتك وما على الرسول الا البلاغ.. فيه بالله عندنا طلب صغير وهو انكم ما تكبروش الموضوع لأن المرحوم كان امتاع مشاكل ويتبع في الناس البطاله.. ممكن اتديرو عزا.. احنا مسلمين والحمد لله ونفهمو الظروف.. لكن ما دابيكم ع السكوتي وفي هدوء وما تكتروش من البكا والعزا.. راهو الولد تريّح وريّحكم وريّحنا كلنا.. وما على الرسول الا البلاغ.. وتوّا وقعلنا او ابصملنا على هالوريقات هادي.. ورانا راهو في الحكومة قمنا بالواجب وتكفلنا بدفن المرحوم بيش ما انتعبوكمش في الزنازه وغيرها..
لم يغمى على الحاج بوداليا لكنه شرد وغاب عن هذا العالم القبيح والشاذ لبضعة ثواني.. تعجز الكلمات دائما في وصف شعور الأب والأم بعد سماع خبر فقدان فلذة الكبد . الحاج بوداليا، اختطف منه ابنه الوحيد محمد في اواخر الثمانينيات وزج به في السجن بتهمة الانتماء لتجمع سياسي محظور في دولة يحكمها نظام الحزب الواحد.. حزب اللجان الثورية الذي يخشى وجود المنافس له في ساحة الفكر الديمقراطي والسياسة، وخوّن المنتمين للحزب الحاكم كل ليبي حاول أن يقول أن ليبيا ليست القذافي وأن فكر القذافي ليس هو فكر ليبيا. سأل الحاج بوداليا عن ابنه في كل مكان وطرق كل الابواب في دولة يتغنى شواذها بالوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الانسان في نفس الوقت الذي ينتهكون فيه حرمات الوطن والمواطن بدون قانون وبدون محاكمات عادلة. ان من أفشل ما يسمى بالنظام البديع لسلطة الشعب في ما يسمى بالجماهيرية هم الثوريون انفسهم بسبب تشبتهم بالسلطة وقمعهم لشعب “أول جماهيرية” التي قرر الشعب الليبي الشريف أن تكون “آخر جماهيرية” يعرفها التاريخ. سأل الحاج بوداليا عن ابنه وبحث عنه في كل الامكنة المسموح لليبي العادي بارتيادها، لكن كل ما سمح له حراس “فكر القائد” بمعرفته هو (ولدك محبوس عندنا لأنه مجرم وخاين وضد الثورة وضد الشعب والقايد ومن المستحسن انك تنكره وتنسى موضوعه مره واحده).
يا اولاد الحلال، بأي حق يطلب “مفكر عالمي” من عجوز ليبي متعب أن ينسى ابنه الوحيد؟