صلاح عجينة
الذكرى الأولى لرحيل شيخ الأدباء علي مصطفى المصراتي
الكتابة عند علي مصطفى المصراتي ليست نبوءة تاريخية، بقدر سكونها في التاريخ. تنشغل أولاً بالتأسيس للكيان الوطني وليس أخر انشغالاتها التأسيس المشروع ثقافي عام يستمد شرعنة ما أو تراكماً ما، أو ركاماً ما، أو أي شيء ما من خلال التعلق بها .
أولى علامات هذه الكتابة أنها تأتي كصيرورة لفعل التدوين في مرحلة الاستقلال، وبداية المشروع الوطني. شأن ابن غلبون والنائب في استقلالات ومشاريع وطنية أقدم.
ثاني علامات هذه الكتابة أنها تمثل الاحتراب العنيف لمفاهيم الهوية الفردية بدل الهوية الشمولية من ذلك بروز الشأن الليبي بمختلف صياغاته ومرجعياته في ظل خفوت مشايعة واضحة وصريحة للهوية في نطاقها الأوسع، إلخ ذلك منطلقات أيديولوجية تعكسها والتي تتخذ من الدين والقومية و … إلخ ذلك منطلقات أيديولوجية تعكسها الكتابة.
وتواصل هذه الكتابة اقتراحها هذا داخل الحيز الجغرافي شرقاً وغرباً دون تخندق في محراب تحوم حوله شبهة تعصب ما.
الكتابة – هنا – سواء كانت فعلاً إنشائياً أو تحريرياً أو تحقيقاً أو .. إنما تتوسل اصطلاحاً شمولياً لفعل الحراك الثقافي المدوّن بمختلف أجناسه وصياغاته.
أما ثالث علاماتها فإنه النطق بالموقف التاريخي بلغة الاختيار لا بلغة القول الصريح الذي -مثلاً- يتجلى في كتابة الشيخ الطاهر الزاوي عن الحرب الأهلية زمن الجهاد أو حرب الزعامات حسب اصطلاح المعتدلين من المتأخرين، عموماً حدث أن حدثت حرب أهلية، سواء باختلاف الزعامات أو باختلاف الجموع لأن أيا منهما يؤدي للآخر.
المصراتي موقفه ينطلق بوصف النقد عملية اختيار أولاً.. وهنا نلتقي بموقف ضمني تفرزه محرراته من كتبه.
من علاماتها الأخرى أنها سعي حثيث وكدح متواصل في سبيل تطويع الموضوع التاريخي للتدوين والدرس، هذا السعي لا ينجو دائماً من ثلاث هنات متواصلة ودائمة وضرورية أيضاً:
1 – نبش الموضوع كرؤوس أقلام أي كان الكتابة دعوة أو استمالة أو استشراف لكتابة أخرى، والوعي بهذه النقطة بالذات حاضر حتى في أفقه هو منذ البداية فنجده يعلن صراحة في كتابه )الصلات بين ليبيا وتركيا التاريخية والاجتماعية) الصادر في يناير 1966 ما يلي:
(الصلات بين ليبيا وتركيا هي جوانب عميقة الأثر واسعة الأطراف، موضوع متشعب يتصل بدراسة التاريخ ودراسة الحياة الاجتماعية والفكرية في عهود طويلة والصفحات هنا محددة لا يمكن أن تحصر صلات وعلاقات تاريخية عبر قرون تزيد عن الخمسة في هذه المساحة الورقية. لا يمكن حصرها واستيفائها حقها في فصول سريعة يسيرة .. لكن لا ضير من أجل الحقيقة وبدافع شعور الواجب ومن أجل إبراز صفحات من هذه العلاقات .. من أجل هذا لا بأس أن نقدم هنا جوانب موجزة وإشارات ولمحات. هي أقرب أن تكون رؤوس موضوعات.. أو إشارات لجوانب عزيزة علينا لأنها غدت جزءا من تراثنا وصفحات من التاريخ المشترك والمؤثرات المتصلة بين الشعبين الكريمين.. وكل موضوع أو فصلة فى هذا الكتاب الصغير الذي نقدمه اليوم هو الحقيقة جوانب وموضوعات في حاجة إلى مؤلفات ضخمة ودراسات مستفيضة ونظرات واسعة عميقة.. وسيجد الباحثون والدارسون في ذلك في المجال روائع وحقائق ….. . إلخ).
والجدير بالذكر أن هذه العلاقات لم تدرس -كمثال حي على ريادة المصراتي في افتتاح حقول معرفية مبكراً- إلا عام 1982 من خلال مؤتمر تاريخي بطرابلس صدرت أعماله فيما بعد وتحت عنوان أوسع أي: العلاقات العربية التركية ..
وهذه العلامة يمكن استنباطها حتى من بعض عناوين مؤلفاته ككتابه لمحات أدبية عن (ليبيا) الصادر عام 1956.
2 – التنوع في الكتابة التاريخية بين التحقيق التاريخي كتحقيقاته لكتاب النائب (نفحات النسرين والريحان) أو رحلة الحشائشي في ليبيا ودواوين أحمد الشارف ومصطفى بن زكري وأحمد ،البهلول وبين الترجمة التاريخية ككتبه : أعلام من طرابلس ومؤرخون من ليبيا ونماذج في الظل، والتأليف ككتبه: غومة فارس الصحراء وسعدون وابن غلبون وصحافة ليبيا في نصف قرن، والصلات التاريخية بين ليبيا وتركيا هذا التنوع بقدر إضافته الحيوية في إنعاش اسم المصراتي ثقافياً بقدر ممارسته لنزف هادئ حرم المصراتي من إنجاز صومعة متفردة وأبدية في ميدان ،بعينه وهذه السمة لا تخص المصراتي وحده، بل تسري على جيل التأسيس في عديد الأقطار ذات النشأة الحديثة.. سيما البعيدة منها عن الأنهار .
3 – في الكتابة التاريخية عند المصراتي يمكن ملاحظة لجوئه للتعبير الأدبي كحالة إنشاء، كما في كتابيه على سبيل المثال فقط : غومة فارس وسعدون البطل الشهيد، وهو ما يتعارض مع الكتابة التاريخية الحديثة الصحراء، وحتى الأدبية أيضاً، والتي تفترض واقعاً كتابياً موجزاً وتحليلياً مع الالتزام بالشرط العلمي للكتابة.
في عند المصراتي هذا الإنشاء يعد ملمحاً حاسماً عموم كتاباته حتى القصصية منها، بل يرى صراحة في رده على منتقديه في هذا الجانب أن هذا الملمح جزء أصيل من أسلوبه الكتابي.
على مستوى المضمون يمكن فرز خطوط دقيقة وأكيدة وثابتة عبر دفقه الكتابي بأسره ما يلي:
أولاً: المصراتي من أولئك المؤرخين الذين يرون في الدولة العثمانية دولة الإسلام المنقذ والمعادل للهيمنة الكاثوليكية التي مثلتها إسبانيا والبرتغال، كما أن هذه الدولة ليست السبب المباشر في تأخر العرب وما يدل على ذلك حالة دولة عربية لم تكن تحت السيادة العثمانية كالمغرب واليمن والحجاز، وأن هذه الدولة جامعة لأبناء الأمة العربية والإسلامية تحت لواء واحد وإلى آخر هذا الرأي الذي من مشاهير الناهضين به د عبد العزيز الشناوي وغيره، وتجلى هذا لغة المصراتي في حديثه عن هذه الدولة عموماً في كتابته أو في احترامه الجلي للفاتحين الأوائل كطرغود وغيره بل للمصراتي كتاباً مخطوطاً الاتجاه في عن الأخير .
ثانياً : تجنبه للقبيلية وللجهوية ولكل انتماء بعد ليبيا من قريب أو من بعيد في عرض ترجمته لأعلامه وشخصياته، وهذا لا يخلو من أيديولوجية متكاملة وراسخة في ذهن المصراتي الكتابي والشفاهي والقبيلة هنا بوصفها علاقة انتماء داخل جغرافيا معروفة كالمدن، بينما نجد أنه يعرف بها أعلامه عندما تتصير هذه أي القبيلة إلى جغرافيا متنقلة كقبائل البدو غير المستقرين.
أي كتابة تتوضأ بالوطن وتفترضه كانتساب جامع ونهائي. وهذا الاتجاه يلحظ كثيراً في عديد الكتابات الحديثة، والتي تنتقل فيها الكتابة كجهاز فرز ووعي لنخبة محايدة إلى ساحة صراع جهوي وقبلي متخلف.
ثالثاً : تلمسه لطريق الثقافة الشعبية الشفهية، وخلق حساسية لتدوينها ورصدها كمجس حي لحركة المجتمع ،وتاريخه وهذا الانزياح ترك آثاراً منفصلة ككتبه: فنون الأدب الشعبي في ليبيا أو التعابير الشعبية. دلالات اجتماعية ونفسية أو من خلال رصده للأشعار الشعبية والزجليات التي جاءت داعمة لكتابته كما في كتبه عن غومة وسعدون وغير ذلك.
هذا موجز مختزل في ذاكرتي أشبه برصد نسقي له ما يؤيده من مدونة المصراتي التاريخية، وله أن يقترح ما يتصل بفقره من وضع تصور عام عن كتابة تشكل مرجعاً وحيداً فتحت أفاقاً وأنبت عليها تصورات في فترات سابقة، وتشكل حالياً شغلاً استدلالياً قائماً لعديد الموضوعات، ولعل أبرز تجليات ذلك (مؤرخون من ليبيا) و (صحافة ليبيا في نصف قرن) و (سعدون فارس الصحراء).
صحيفة الجماهيرية – العدد (5658) 27 سبتمبر 2008م
المصدر: عبدالله سالم مليطان (هذا هو المصراتي)، المؤسسة العامة للثقافة، 2009م.