سرد

رواية الفندق الجديد: الفصل السابع عشر

ذاكرة المجني عليه…

من أعمال التشكيلية شفاء سالم

1 رباية الذايح..

 كانت سيارة سائق الروميس سيدي (جبريل ) ، تلتهم الطريق بسرعتها الكبيرة، لتقل ركابها من خلف جبانة سيدي اخريبيش الي حيث ترغب تلك العائلة ، والتي تكونت من رجل تظهر عليه أثار الفقر المدقع، يبدو هكذا من جراء ارتدائه لكسوة رثة متقطعة، وامرأة بارعة الجمال و القوام، وعلي درجة عالية من الجاذبية والغنج ، يبدو أنها زوجته المصون، كانت تدعي (نجوي)، و كان برفقتهما طفلين يذويان، سيتضح لاحقا بأنهما يعانيان من تشوه خُلقي يمنعهما من المشي بينما، احدهما كان بصيرا عاجزا عن الرؤية تماما ، إلي جانب عجزه الحركي ، هذا العجز الخُلقي سيقف عائقا في أول حياتهم وحاجزا أليماً بينهما وبين اللعب كبقية الأطفال.

 سيدي جبريل:

توا وين تبو؟

حيث خاطب ركابه بما معناه:

الآن حان وقت تحديد الوجهة!

فأين تفضلون الإقامة، هل اذهب بكم ناحية أرض النخلة الصابري (1)، ستجدون زراريب وحلاليق (2) عيت الكاكاوي، وبعض الحيشان العربية الجديدة.

وأضاف موضحا:

منطقة أرض النخلة الصابري هي المنطقة المحاذية لجبانة سي اخريبيش والاصبيتار الكبير (3) شرقا، ولقد بدأت تنمو وتتطور في طريقة بناء بيوتها، فما رائكم؟

ردت نجوى:

ما فيش غير ها الصابري يا أوسطي؟

 السائق جبريل محدثا نفسه:

واضح أن هذه المرأة مُتعبة جدا وستتعبني، فهي التي تحاورني بدلا عن زوجها !!هذا إذا كان زوجها حقا، فهو لا حول ولا قوة معها !!، هذه المرأة ستذهب بوقتي الثمين، إذن يجب أن أحسم الأمر معها لأعود إلى الجنسية (محطة الركاب) من جديد.

…سآخذها إلى الحوش العربي الخالي من السكان، والذي أصبح منذ سنوات ملكا لعيت الأدارسة، اعتقد أنه سيكون مناسب جدا لسكن امثال هؤلاء الذوايح (الغرباء المشردين).

 ثم أضاف مخاطبا (قدري) و(نجوى):

هناك غوط سكني جديد، اتذكر منذ سنوات أخذت إليه عائلة (سي أدم)، الله اربحه، راجل صالح عصامي وتقي، ينذكر بالخير، وحافظ لكتاب الله، وهو ليس كثير السكان فقط به عائلتين هما عائلة (الاوادم) (عيت سي أدم وأولاده)، و(عيت سي إدريس وأولاده) كذلك.

نجوى:

 شو بيعملوا؟

… وت ذي أر دوينق؟

What they are doing?

 جبريل متمتما وساخرا:

 يا عيب الشوم، إيييييه، ياما لامه يا بنغازي من ذوايح!!

 ثم خاطبهم:

 هل أنتم من لبنان؟

يتدخل زوجها (قدري):

سيبك منها سيبك… هذي من كثرة عشقها للراديو، واستماعها للبرامج، ودرت دوتها.

حيث قال للسائق بما معناها:

دعك منها فزوجتي من فرط عشقها لاختراع الراديو أضاعت طريقة تحدثها!

 (نجوى) تُعيد السؤال:

ايش يشتغلوا يا عمي؟

جبريل متمتما بصوت خفيض:

 عمااا يعمي نواضرك هييييييول.

…حيث تمتم بدعاء ضدها من جراء عدم تقبله لسلوكها.

عائلة الأوادم.. عائلة سي (أدم) مهتمة بتحفيظ القرآن للأطفال خاصة، وأبنائه وعاظ وفلاحين.

 أما عائلة الأدارسة، عائلة سي (إدريس) فهم يملكون الكوشة ويجهزون فرادي الخبز، وعندهم مطعم شهير اسمه (مطعم الفلوقة (4)) والمطعم يبيع لحم المفروم بالثوم الفائح والكسبر والشبت والبصل الخضر فقط، اما عيالهم فأغلبهم حفارة وبياعين بهايم.

وأضاف:

 وهناك بعض السكان القلائل الذين توافدوا مع مر الأيام فما هو رائيكم؟

قدري:

 في شنو مافهمتش؟

جبريل:

قلت هل نذهب الي سي (أدم) نبحث لكم عن بيت قرب مسجده؟ ودكاكينه؟

… أم أذهب بكم الي سي (إدريس)، نبحث لكم عن سكن قرب كوشته، ودكاكينه؟

ردت الزوجة:

معش فهمت خويا، ما أسم هذه الحي الجديد؟

جبريل:

غوط الأوادم، نسبة لأول من سكن أرضها سيدي (أدم)

قدري:

هل أنت متأكد؟

لأن أحد أولاد محطة الركاب، عند وصولنا بالكارو، نصحنا باش نستأجروا في منطقة الأدارسة، وتحديداً عند سي (إدريس بوشرفيدة)، فالمنطقة أذن منطقة الادارسة، وليست منطقة الأوادم؟

امتعض السائق جبريل من كل هذه المعلومات الخاطئة والتي قدمها الراكب الغريب (قدري) لكنه سأل سؤال:

هل الذي أخبرك بالمعلومات الخاطئة له أنف طويل جدا؟

…. وهل كان يهتف بصوت ناعم ويردد أسماء أحياء مثل (غوط البركة غوط

بوهديمة)؟

وهل كان يقف معه شخصا أخر ممسكا بدربوكة ويطبل بها؟

قدري:

 نعم.. ولكن كيف عرفت…؟

جبريل:

لم ينبس في البداية ببنس كلمة!!

فقط تمتم ببعض الكلمات ذات الطابع الشعري:

هابتين اوووو هابا //

يامزور التاريخ ويش عقابا؟

…. ثم صاح في وجه قدري بعد برهة من التفكير:

موش قلت لي أن انفه طويل جدا وقلت لي أن معاه فرخ وذنيه امسخطات أطوال و إيطبل علي الدربوكة؟

ثم أردف مغنيا بصوت خفيض:

هذي الدنيا

هذي الدنيا ياما فيها //

وياما من فيها جاهلها !!//

واحد موش عارف مابيها //

وما يعرف من هما هلها.!!

ـــــــ

* ارض وطاها الصالحين //

سيدي أدم وعمتي حواء//

احباب الله المتقين //

احباب الله احباب الدين //

سبحان الله امقدرها //

وامباركها ومسهلها.

ــــــــ

*هذي الدنيا وياما فيها//

وياما من فيها جاهلها //

واحد موش عارف مابيها //

وما يعرف من هما هلها //

ـــــــــــ

*هذي الدنيا يا مبهاك //

لو ديمة تخلص للخالق //

اووو تذكر ان الله عطاك /

رب الكون ابفضله سابق //

احسن في خلقه رباك//

هو العاطي هو الرازق //

هو من يُحسن مثواك //

الله يمهل لا ما يهملها

ـــــــ

*هذي الدنيا ياما فيها //

وياما من فيها جاهلها //

واحد موش عارف مابيها //

وما يعرف من هما هلها.

ثم أضاف:

صح صح يا (قدري) خلاص ما فيش غيرهم عيت اقيادة الأحوال والبصاصة هاهاها وحتى لا يتورط في مزيدا من إهدار الوقت معهم.

 حاول تشغيل راديو السيارة باحثا عن آيات من الذكر الحكيم ليستكين قلبه قليلا، لكن الراكبة (نجوى) تدخلت بالقول:

 توكل شور عيت الأدارسة، (عيت إدريس بوشرفيدة)، شوفلنا حوش للإيجار جنبهم، باين عليهم ناس أمسوطين (5) واتقول ايش.

لم يستغرق الأمر طويلا، فها هو السائق (جبريل)، يحسم الأمر، فلقد قرر التوجه رأسا إلى الغوط السكني الجديد والذي بدأت تتحايا به الناس، فالغوط منذ أن سكنه سي (أدم) وزوجته العمة (حواء) سنة 1945، أصبح يشهد زيادة ملحوظة في عدد السكان.!!

ولقد كانت أرض فضاء أختارها (سي أدم)، ليبتعد عن ضجيج السكان، وينشئ سانيه (6)،

ليزرع بها الخضروات وأشجار الكروم والفواكه، ويتنعم بحفظ وتجويد القرآن الكريم، فلقد حقق حلمه في بناء مسجدا، وخلوة لتحفيظ الأطفال تعاليم الذكر الحكيم، وكذلك حقق مبتغاه في الفلاحة.

…. ورغم أن (جبريل) يعلم أن مثل هؤلاء السكان غير محبب قدومهم إلى الغوط، إلا أنه سيجد تبريرا لاحقا يكف به اللوم والتوبيخ الشديدين والذي سيلقاهما من طرف (سي أدم وأبنائه الوعاظ)، خصوصا وأن هذين الطفلين، سيعززان من عدد الأطفال القلائل والذين يرتادون المسجد لحفظ القرآن الكريم.

….. لكن الشيء المطمئن له، أنه لا أحد من عائلة الأوادم (عائلة سي أدم) سيتفطن أنه هو من أتي بهذه العائلة الجديدة للسكن في الغوط، كونهم لا يتواجدون في واجهة الغوط.

وإذا ما اكتشف أنه هو من أتي بهم، فلن يكون هناك عقابا كبيرا، وسينتهي الأمر بتوبيخه والجلوس مع (سي أدم) في الجامع، ليلقي عليه خطبة عصماء ومحاضرة دينية مليئة بالموعظة الحسنة، وبالتالي سيتعلم من هذا الرجل الصالح ،درسا دينيا مجانيا، ينفعه في حياته، فحسم الأمر في قرارة نفسه، وعزم أن يتوجه بهم رأسا الي الحوش العربي المقابل لحوش( عيت الادارسة )، فهذا الحوش يخلو من السكان منذ الخمسة سنوات التي مضت !!، وهو يتوسط الكوشة، والدكاكين السبعة وبيت الأدارسة، واعتقد أن الشايب (إدريس بوشرفيدة) سيرحب بتأجير هذا البيت الذي يُشاع أن تحته تسكن عوالم الأرواح والعفاريت ومملكة الجان.

…. وماهي إلا لحظات حتي أقترب من واجهة الغوط السكني، فها هي دكاكين (سي ادم)، تتراي وها هو الشايب (سي إدريس بوشرفيدة) جالسا كعادته، ينف في عشبة النفة(7) أو العطوس ، فهو يستمتع باستنشاق هذه النبتة كثيرا، خصوصا في فترة العشية، فهو قد أصبح مالكا لعدد سبعة من الدكاكين في المنطقة والتي بدأ يستوطن بها الكثير من السكان الجدد، كان اغلبهم قد جلبهم سي (جبريل) بنفسه، فهو يختصر المسافات ويريح زبائنه الراغبين في إيجار سكنا، بتوسطه، مع أصحاب المعرفة في المدينة، كان يترقب القادمين من خارج المدينة في محطة الكاروات، أحيانا أو عند الجنسية القريبة من الفندق البلدي، والذين يتسربون من اقاصي البلاد، عن طريق وسائل سفر بدائية تجرها البهائم كالجياد والحمير والبغال، فيقبع منتظرا في المحطة، يتحين الفرص، ليحظي بغرباء يرغبون في الاستيطان بمدينة رباية الذائح، في أحلك الظروف قسوة !، كانوا يأتون سعيا في ايجاد فرصة للعمل وللكسب، فسكان بنغازي مافتئوا، يكرمون الضيف، ويقدمون المساعدة للغريب، فيمكنوهم من السكن، ومن فرص العمل، ومن الطعام كذلك، فيتأقلم أي غريب بين أحيائها بسرعة كبيرة!!.

… لذلك أضحى لمدينة (بنغازي) كُنيه جديدة هي (رباية الذائح) وأمسي هذا النعت فخرا واعتزازا للقادمين الجدد! فيحلوا لهم ترديده مع أولادهم، فتوريثه حتى.!!!

نعم ما عنديش في الوقت الحالي إلا بيتا وحيد، هو الحوش العربي، اللي امقابل بيتي، أجاب (إدريس بوشرفيدة) السائق (جبريل)، حين سأله عن بيتا للإيجار يستر به هذه العائلة المهاجرة، وعند المصافحة، مصحوبة بغمزة طرف عين مباغتة مع ضغطة يده علي يد (جبريل)، دون أن يتفطن (سعيد بو شملة)، و(مفتاح بومضغة) الجالسين أمام دكاكينهم المؤجرة من سي (إدريس بوشرفيدة)، أنهما يتابعان عن كثب عملية التفاوض المتعلقة بالتسكين تلك.

ثم التفت (سي إدريس بوشرفيدة) متجاهلا صوت أذان صلاة العصر المتسرب من مسجد (سي أدم) الي السائق جبريل وخاطبه ساخرا:

خلينا نكسبوا فيهم اجر يا (سيدنا جبريل).

جبريل:

هل الحوش مناسب لهذه العائلة المسكينة؟

رد (إدريس):

ايوه يا سيدنا (جبريل)..

وهنا اقترب سي (مفتاح بو مضغة) متدخلا كعادته وهامسا ومقهقها لسي إدريس:

ولكن ازعمك حيخلوها اعيالك الابالسة في حالها يا عيت الأدارسة؟ ها ها ها

حيث قال بما معناه:

ولكن هل تعتقد أن أولادك المتهورين سيتركون هذه المرأة الجميلة في حالها.

(إدريس بو شرفيدة):

والله معاك حق أولادي شياطين انس.. وانا اغلبت واتعبت في تربيتهم.

وأردف:

لكن ما تخاف من شيء راه انا مازلت لتمتع بالهمة ومازالوا هالفروخ يهابوني راهو.

حيث قال بما معناه:

لكن لا تخاف من أي شيء، فأنا مازلت قادرا على متابعتهم، ومازال الاولاد يرهبونني.

انتهي الحديث الجانبي بين ابو الشياطين (سي إدريس) و(مفتاح بومضغة).

وهنا تدخل (سي سعيد بوشملة)، فيهم مخاطبا بعلو الصوت بينما كان ينتزع العصي من يد أحد الأولاد، كان يستعملها كمكرفون، مسترسلا في الغناء بصوت جميل.

…أنه الولد (خميس) ابن (سي مفتاح بومضغة) حيث سارع للجلوس في كتر (8) سي (أدريس بوشرفيدة).

، وبدأ منسجما يشدوا بأغنية بينما راحة يد سي (إدريس) تُربت على ظهر الولد (خميس) بنعومة وحنان، فتداخلت كلمات أغنية الولد مع صياح (سعيد بوشملة).

الطفل (خميس) يُغني:

أقرب نطريلك يالغالي//

اقرب نطريلك

واو ندعيلك//

 يا ربي ايسقملك حيلك

أما سي (سعيد بوشملة) كان يصيح فيهم:

هيا يا سي (إدريس) صبي صبي لصلاة العصر.

… هيا يا سي مفتاح.. انت يا (بو مضغة) هيا صبي للصلاة! وتعال خوذ اولدك (خميس)، أقريب ايبطلي طبلة وذني من الشعر اللي يشعر بيه.

ثم صاح:

كنكم ما اتصبوا اتصلوا

سي إدريس بو شرفيدة:

يا ريت تعفوني من الصلاة وراء سي (أدم) انا ما انطيق وجهه، امغير انجامل فيه امجاملة بحكم الجيرة، لكن ما نرضي أن انصلي اوراه، إمام أو ادياولوا.

سعيد بوشمله ضاحكا وهامسا في أذن إدريس بوشرفيدة:

 بطل هالخصلة يا لايطة!! (9)، وانت حشيشتك فروخة (10) ع العيل، توا ايحقك بوه ايدير فيك شطيب ونحيب!

 (مفتاح بومضغة) يتسرب الي حيث يتواجد (قدري)، ويقوم بمصافحته بحرارة، يبدو أنهم معرفة قديمة.

…. وهنا استأنف سائق الحافلة البولمن مشوار الطريق، فتسرب بسيارته من خلال عديد الازقة، والتعرجات والطرق الداخلية في الغوط حتي وصل الي بيت قديم يقع في زنقة الوحل، زنقة (عيت الأدارسة) الواقعة في أطراف الحي الجديد والمتنامي، حي (سيدي أدم) كان بيت مبني بطريقة شائعة فترة الخمسيناتو الستينات، كان اغلب أجزائه مرقعا بقناطر من الخشب وبعض من نبات الديس الذي ينمو بكثافة حول الصبخة الملحيه المحاذية.

هظا هو حوشنا أمغير يبي اشوية برمة يا (نجوي)..

هذا ماهمس به (قدري) لزوجته (نجوي) بهدوء أثناء معاينته السريعة للبيت المعروض عليهما للإيجار

حيث همس لزوجته بما معناه:

هذا البيت سيأوينا لو تمت نظافته جيدا يا (نجوي).

نجوي:

والله ماضني يا بتي، الحوش مازال ياما ايريد ح يتعبك، شوف شوف السقف اقريب ايطيح من ها الرطوبة والملح شفته؟

… أنت أكيد تقدر اتصلحه طول بعد ما اتأجره؟

حيث قالت نجوي بما معناه:

لكنه يتطلب كثيرا من الجهد والوقت لمنع وقوع السقف من آثار الرطوبة والملوحة فهل تستطيع إصلاحه وترميمه فور تأجيره؟

قدري:

امالا شنو نقدر ونص، تي هذي لعبتي.

حيث قال الزوج (قدري) بما معناه:

بكل تأكيد فهذه المهنة هي لعبة بالنسبة لي.

نجوي متمتمة بسخرية وحريصة ألا يسمعها زوجها:

توا انشوف أخرتها معاك يا وجه الفقر..

ثم أضافت بصوت مسموع:

 لكن قل لي:

من هو الرجل الذي اقترب منك وصافحك عند مدخل الغوط؟

 قدري:

أنه سي (مفتاح بومضغة)، أما الولد فهو مصماصة الكرشة، (خميس) ديمة يشعر ويغني صوته سمح.

نجوي:

اخر العنقود (ايصمه) يا راجل!

الراجل مازال اصغير اكيد فيه بعبوط اخر بعد (خميس).

قدري:

… خلاص.. آخر البعبوط (خميس) أو (جمعة) أو (سبت)! مالنا دخله بيهم نحن انقولوا ربنا ايصون وخلاص.

وأضاف مستدركا:

لكن يا ريته سي (مفتاح بومضغة) ما شافني الحق؟

نجوي:

ليش؟

قدري:

تتذكري اخر مرة جبتلك قابية (11) العنب الخارب (12)؟

نجوي:

أي عنب خارب؟

قدري:

اللي اشتريته من غوط (سي عبد العاطي) الشهر الفايت.. كانت فرزة عنب فاسدة، جايبها (سي مفتاح) من حلاليق الهرابة في غوط العجاج.

نجوي:

نعم نعم تذكرت اللي درناه امبيت.

قدري:

ايوه عليك نور

وأضاف:

مازال ما سلكتش حقه وطالبني بيه، وما بش ايسامح، فلازم انسلكه؟

نجوي:

وكم حقه؟

 كم يبي رقيق الغرض (13)؟

قدري:

3 قروش

نجوي:

ننقالة بارد وما يتحشم!!

…. كان الحوش يحوي غرفتين متصدعتين، ومطبخ متهالك جراء الرطوبة القادمة من بخر تلك البحيرات الصبخية المحاذية للغوط، أما الحمام فلقد كان من الطراز القديم، ويطلق عليه آينذاك اسما ليبيا قديما هو (الكنيف)، وكان بمنتصف الحوش فناءً كبيراً ولقد كان يبدو كصحن، يطلقون عليه مصطلحا ألا وهو (وسط الحوش)، حيث يُترك بدون سقف، أما أرضيته فهي عبارة عن أرضية ملساء من مادة الاسمنت تسمي بــ (استاك).

…. هكذا يُبني الحوش العربي في ليبيا، فترة ما قبل السبعينات، فتشاهد من خلال وسط الحوش السماء بشمسها وقمرها ونجومها حتي!! لكن في أحد زوايا هذا الحوش العربي كانت هناك غرفة مهملة، وهي مغلقة بإحكام بواسطة صخرة كبيرة، وكان بها فتحة نسجت العناكب عليها شباكها بمرور الأيام والشهور بل السنين الطوال، يُخال أن هذه الغرفة كانت تؤدي لسرداب أو نفق طويل، يبدو أنها تؤدي إلي مملكة الجان أو الي عالم من المجهول.

…. وما أن ولجت تلك الأسرة الجديدة، ذلك البيت القديم حتي بدأت أقدام شباب الحي تترك (الشوكات) وتنجذب، اقترابا، لتستطلع الأمر!!، كانوا فتية أشبه بمتسكعين جراء تقليعاتهم الغريبة، حيث كانوا يهملون عن عمد حلاقة رؤوسهم، فتتضخم شعورهم وتتلامع السلاسل في أعناقهم، أياديهم تزينها الخواتم والأساور التي تتدلي منها خمائس وقرون، كانوا من فرط إعجابهم ببعض المغنيين الأجانب يرغبون في أن يكونوا نسخة طبق الأصل من بعض أولئك المشاهير.!

.. الفضول لم يقتصر على أولئك المراهقين، والذين كانوا يهرولون ويوشوشون بأغنية مرعبة:

من يسكن الحوش المسكون //

 متخوخم أهبل مجنون !!

من يسكن حوش عفاريت //

 تعبان العيت شلاتيت.

حينها صاح بهم، ابن المؤذن بمسجد الحي (سي أدم)، كان اسمه (محمد) وهو شاب يافع بهي الطلعة طويل القامة تظهر علي محياه صفات وسمات الصالحين، كان يعبر متوجها للمسجد، لأداء صلاة العصر بمسجد كان قد بناه والده (سي أدم)، فصاح بهم باللهجة الليبية القديمة:

هيا تباعدوا، هيا كل واحد يلعب قدام حوشه.

….. ابتعد المراهقون، ولكنهم ابتعدوا عن مضض جراء احترامهم لصيت والده (سي أدم)، فهم يعلمون أنه ابن رجل صالح ومحترم، حافظ لكتاب الله، وهو من تلامذة الأولياء الصالحين الذين قدموا لمدينة بنغازي من مدينة جالو وزليطن، في منتصف الأربعينات، فأنخرط في القراية عندهم في خلواتهم الدينية، فتعلم أصول الفقه، والتلاوة والتجويد، كان (سي أدم) هو أول من وطأت أقدامه هذا الغوط، والذي تطور حتى أصبح حيا سكنيا يتزايد بالسكان يوما بعد أخر.

نجح ابن الثامنة عشرة ربيعا (محمد) ابن (سي أدم) في إبعاد المشاغبين الصغار، لكنه عجز عن إبعاد الشياطين الأبالسة الكبار، بل الأنكى من ذلك أنه لاحظ أن النوافذ العالية للبيوت المجاورة، بدأت تتفتح أيضا، لتتابع المستأجرين الجدد بفضول وترقب شديدين!

أشاحت الشبابيك عن وجوهٍ قبيحة فاجرة، فظهر من خلالها أكبر شياطين والعن أولاد الحي، كانوا أبناء (إدريس بوشرفيدة)؛ إنهم (ميلود، وربيع، ومسعود)، كانوا يتقافزون بأنصاف أجسادهم الشبه عارية، وأبخرة وأدخنة سيجاراتهم المتصاعدة من بينهم ومن خلال الشبابيك، ومن بعيد كان الأبن الرابع (صفوان) قادما علي الكاروا بسرعة منقطعة النظير، ومن خلفه كانت هناك مجموعة من الكلاب تنبح عليه وعلي الحمار أثناء ملاحقتها له!

حقيقة.. لم يقتصر الأمر علي أبناء (ادريس) الذكور فقط، بل كان هناك فتاتين جميلتين تتلصلصان معهم كذلك، لكنهن كن يراقبن الوضع بسرية تامة، ولم يتفطن إليهن الأخوة الأشقياء خاصة، كانت (رتيبة) و(مريم) بنات (إدريس بوشرفيدة) كذلك، وقد شاركن في المراقبة، كن يتلصلصن بشغف من نافذة الكوجينة بل كادتا تلتهمان بنظراتهن زوج (نجوي) (قدري) التهاما، ولم تحيدان أعينهن من عليه لحظة البتة!

….. غادر (محمد) ولد (سي أدم) المكان مجرجرا اقدامه بثقل وحزن شديدين، فقد أدرك متأخرا أن والده قد أخطأ منذ بداية تأسيس الغوط السكني في منح (إدريس) موطئ قدم وقدر أكبر من حجمه، فمكنه من التملك بالحي، دون معرفه أصله وفصله حتى، فالأنكى أنه قام ببيعه عددا من الدكاكين! فأصبح من الملاك في هذا الحي.

كان (محمد) فصيح اللسان لتعوده حفظ كتاب الله، فهو يتكلم اللغة العربية الفصيحة وبينما كان يجرجر اقدامه تحدث في قراره نفسه قائلا:

يا ليت أبي ما فرط في الدكاكين يوما، فها هو هذا الإبليس (إدريس)، وقد صار مستقرا بالغوط، وبدأ يفصح عن أسارير الشر، وها هو الخبث يلقي بظلاله علينا نحن سكان الغوط الأصليين، من جراء فعائله وفعائل أولاده الأبالسة الشيطانية.

وأضاف:

الشر بدأ ينتشر عن طريقهم بطريقة أسرع من الخير الذي أراده والدي لينتشر، ببنائه للمسجد في الغوط! وهو سبب يبقي منطقيا لوالدي، فأجبره على بيع الدكاكين السبعة! فقد باع لمن يدفع أكثر خصوصا وأن المسجد، قد استوجب بنائه من الطوب الحجري والطفلة والقناطر الخشبية، ولكن الإبليس (إدريس) كان ينتظر، مترصدا لفرصة البيع تلك فأشتري.

ثم أضاف متمتما وهو يسير متثاقل الخُطي:

يا ليت السائق سيدي (جبريل) قام بجلب بدلا من هذه العائلة البائسة، عائلة أخري محترمة بها أولادا شرفاء، حتي يلقنوا معنا نحن أولاد (أدم)، أولاد (إدريس بوشرفيدة) دروسا في التربية والأخلاق، وليساندوني وأخوتي في منع انتشار واستفحال الشر عن طريقهم في حينا، وأن يوقفوا هؤلاء الأبالسة عيت الادارسة في التعدي والتمادي بسلوكياتهم القذرة.


1- أرض النخلة: هو الاسم القديم لمنطقة الصابري..

2- الحلاليق: جمع حلاق، والحلاق هو الموقع السكني ويحدد باسوار مركبة بالصفيح

3- الاصبيتار الكبير: هو الاسم القديم للمستشفي المدني الذي بناه الطليان، ثم أصبح أسمه الجمهورية عهد القذافي.

4- الفلوقة: كسرة الخبز الكبيرة وتستعمل كسندويتش

5- امسوطين: ممتازين

6- والسانيه: المزرعة الصغيرة جدا.

7- النفة أو العطوس: نوعا من الاعشاب المفيدة للجهاز التنفسي وتعمل علي تنشيطه، حيث تجعل من يستنشق قليلا منها أو منه يبدأ في العطس.

8- الكتر: وسط الجسم.

9- اللايطة: هو الشخص المتحرش بالأطفال.

10- حشيشتك فروخ: تحب بشدة سلوك التحرش بالأطفال.

11- والقابية: الصندوق الخشبي المستعمل لحمل 5 كيلو من خضروات أو فواكه.

12- الخارب بمعني الفاسد.

13- رقيق الغرض هو الإنسان البخيل في اقرب معانيها.

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (18)

أبو إسحاق الغدامسي

الكرنفال

محمد الأصفر

رسالة هنري ميلر لمحبوبته أناييز نين*

مهند سليمان

اترك تعليق