في أربعين الراحل الموسيقار علي ماهر، نعيد نشر مقالة الأستاذ مصطفى القعود
والتي يتناول فيها السيرة الفنية للراحل، بشكل موسع متوقفاً عند أهم المحطات..
مصطفى القعود
لم يكن أحد ليتصور أن ذلك الشاب الأسمر النحيل سيكون ذا شأن وأي شأن في قادم الأيام، بحيث يصبح حديث الوسط الفني والجمهور الليبي على حد سواء من أول أغنية يلحنها وتبث عبر المذياع!
ولأن العباقرة وحدهم من يخالفون السائد ويأتون بغير المتوقع، نجح الموسيقار علي ماهر، حيث فاجأ الجميع بأغنية (طوالي) التي طرز حلتها الشاعر مسعود القبلاوي بأنامله الذهبية وأسبغ عليها المطرب ذائع الصيت وقتها الفنان المرحوم خالد سعيد الكثير من الشجن المحبب، فرددتها الشفاه طويلا منذ ظهورها حتى فترة قريبة.
لدرجة أن الإذاعة التونسية في سنوات سابقة أدخلتها قائمة أغاني برنامجها سباق الأغاني مع كوكبة من الفنانين الكبار كأم كلثوم وعبد الحليم وفريد وعلي الرياحي وغيرهم.. فما السر في ذلك؟!
أغنية (طوالي) ببساطة تتحدث كلماتها عن إنسان تغرب عن وطنه واشتاق لرؤية أهله وأقاربه وصحبه وجيرانه فقرر العودة لكونه لم يعد يحتمل هذا البعد والفراق.. التقط علي ماهر هذه الكلمات العذبة وصاغها في لحن بديع أخاذ.. ومن مفاجآت هذه الأغنية في ذلك الوقت (أواخر الستينات) القالب اللحني غير التقليدي وتعدد النقلات الموسيقية فيه على عكس السائد في الأغنية الليبية وقتها، فامتاز اللحن بجمال تصويره للكلمات واستحقت الأغنية تبوأ مكان لها في تاريخ الأغنية الليبية.. ولكن ماذا بعد؟
هل يكتفي علي ماهر بما وصل إليه مكتفيا بما حققه من خلال هذا اللحن وهذه الأغنية.. هل أغنية طوالي بكل ما قيل عنها وقتها هي حد طموح علي ماهر والتي من خلالها وصل القمة وأصبح مشهورا..
الإجابة بالتأكيد لا.. لذا قرر الفنان علي ماهر خوض تجربة أخرى وبشكل مختلف، خطر له هذا الخاطر وهو يقلب صفحات أحد دواوين شاعر الشباب علي صدقي عبد القادر فاستوقفته كثيرًا قصيدة تتغنى بليبيا عنوانها (بلد الطيوب)، وحدث نفسه قائلا: هذا هو التحدي القادم. لماذا لا تخرج هذه الأبيات التي تفيض بالحب والوفاء لليبيا إلى الناس بشكل لائق.
كانت الساحة الغنائية حينها مليئة بالرواد والمبدعين فمن سينافس ملك تلحين القصائد – كما كان يسمى – المبدع المرحوم كاظم نديم، فالشعر الفصيح ملعبه المفضل وهو فارسه بلا منازع.. لكنها تجربة على كل حال..
أكمل علي ماهر اللحن المفعم بروح تراثنا الليبي الأصيل وطلب من الفنان المغربي عبد الهادي بلخياط أن يؤديها، لكنه وبإشارة ذكية من الأستاذ خليفة التليسي – وكان وقتها وزيرا للثقافة (1968) – اقتنع أن يغنيها صوت ليبي ذلك أنها أغنية ليبية تتغنى بحب ليبيا العظيمة وسيكون الأمر ناقصا لو تغنت بصوت غير ليبي لذا وقع الاختيار على الفنان المرحوم محمود كريم وقد أحسن الاختيار.. فلا أعتقد أن ليبيًا استمع إلى بلد الطيوب ولم تحرك فيه مشاعر وأحاسيس تهتف بحب ليبيا..
هذه النجاحات المتتالية لعلي ماهر لخصها أحد المقالات في مجلة الإذاعة والتلفزيون – وقتها – بعد أن زين العدد بصورة للفنان وهو يحمل على كتفه آلة الجيتار، فقد أسهب صاحب المقال في الإشادة بهذا القادم الجديد والذي استطاع باقتدار أن يقارع كبار الملحنين في فترة قصيرة، وكيف تمكن من كسر احتكار الفنان كاظم نديم ميدان القصائد بل عمل على فتح الطريق أمام تطوير الأغنية الليبية.
واستمر مركب علي ماهر يمخر عباب بحر النغم دون توقف يحصد ثمار جهده وعطاءاته، فتغنى بأعماله نخبة من الأصوات الليبية والعربية، غنت له فائزة أحمد أغنية (ياللا معانا) ونازك تألقت في قصيدة (قد كفاني) وعلية التونسية في أغنية (يا شمس وين تغيبي) وسعاد محمد صدحت بقصيدة (المعتصم بالله) وفهد بلال بصوته الجهوري غنى له (تكرام)، أما وديع الصافي فقد تسلطن في أغنية (الوطن)، وبعده لطفي أبوشناق..
كما جمعت فناننا علي ماهر مرحلة جميلة بالفنان عبدالهادي بلخياط فأخرجا لنا روائع عديدة منها (ارحميني، غنيلي الليلة، شارد في الليل، يوم التحرير، لا تقتليه) وغيرها. وكيف ننسى تلك الأغنيات التي تغنت بها الفنان ميادة الحناوي (لكل الناس، لمن أغني) عندما كانت في أوج شهرتها، وهي التي امتدحت فناننا واشتكت من عدم قيام الإذاعة الليبية بتسويق أغنياتها معه رغم طلب الجمهور لها في كل حفلاتها.
تميزت الأغاني التي لحنها للفنانة أصالة نصري وهي (شمعة وحيدة، شط الحنان) وكذلك كل الأغاني التي تغنى بها أغلب الفنانين الليبيين كخالد سعيد رحمه الله في (طوالي، أغاني صباحية، أغاني من البحر) ومحمد رشيد (شيله يا تيار) وغيرها، ومحمد السليني في (أم الضفائر، أجاويد، نكرتي، قصيدة إن أسعدتني) وغيرها، وغنى له الفنان علي الشول بعض الأغاني الوطنية والمسرحية.
أما فتحي أحمد فقد غنى له (قولولها، لومي علي، حبيب الملايين وغيرها، ومراد اسكندر وأغنيته الشهيرة (ودي نقي) ومصطفى طالب تغني بـ (ننسى، البيعة)، وخالد الزواوي في قصيدة لشاعر مغربي، وراسم فخري في أغنية (صوت الحق ينادي)، وإذا نسينى فكيف لنا أن ننسى رحلته المليئة باللآلئ مع المرحوم محمود كريم (بلد الطيوب، تعيشي يابلدي، قناعك، رحال، قد اشتهي) وغيرها.
وقد تعاون علي ماهر مع عديد شعراء الأغنية من داخل وخارج ليبيا منهم الشاعر الكبير حسين السيد صاحب ست الحبايب وفاتت جنبنا والتي من ألحان الفنان محمد عبد الوهاب، فقد لحن له علي ماهر أغنية (شارد في الليل) وكذلك أغنية وطنية بعنوان (يوم التحرير) تغنى بها الفنان عبد الهادي بلخياط، وفاجأ فيها علي ماهر الجمهور بصعوده خشبة مسرح الكشاف وقيادته للفرقة الموسيقية، كما لحن للشاعر محمد الفيتوري قصائد عن أفريقيا.
وشكل ثنائيا جميلا مع رفيقه الشاعر مسعود القبلاوي وزينا المكتبة الموسيقية بأجمل الأغاني مثل (طوالي، حنيت، لكل الناس، مداين وأرياف، الوطن) وغيرها. ولحن أيضا للأستاذ علي فهمي خشيم رائعتيه (غنيلي الليلة غنيلي). ولحن له أيضا أغاني مسلسل حرب السنوات الأربع وأداها بصوت العذب الجميل ولا زلنا نذكر أغنية (درنة) في هذا المسلسل. كما لحن قصيدة (ارحميني، لمن أغني) للشاعر نوري الحميدي.
ولحن لابن المدينة القديمة الشاعر أحمد الحريري العديد من الأغاني العالقة في أذهان الناس أشهرها (تعيشي يا بلدي).
وقدم للشاعر علي الكيلاني (انت قمر، أجاويد، نكرتي) وغيرها.. كما أبدع مع الشاعر عبد الله منصور في (شمعة وحيدة، ودي نقي). وتحصلت أغنيته التي تغنت بها الفنانة سارة صلاح الدين على الجائزة الأولى في مهرجان الأغنية العربية. أما للشاعر عبد السلام زقلام فقد لحن أغنية (ننسى) وللشاعر الكبير الأستاذ خليفة التليسي قصيدة (وقف عليها الحب). القائمة تطول وتطول.. ولكل أغنية من هذه الأغاني حكاية، ومكانة في نفوس الليبيين.
ففي كل أغنية مما ذكرت تلاحظ التنوع والتفرد والتميز من خلال المزج بين الموسيقى الشرقية وروح الموسيقى الليبية، وقد تميزت أغانيه خاصة الأخيرة منها بإيقاع خاص استمعوا إلى (غنيلي الليلة) أو (ودي نقي) وكذلك (نكرتي) لتتبينوا ذلك.
يمتلك علي ماهر صوتا عذبا قادر على أداء اللحن بشكل محبب، فقد غنى عددا من الأغاني التي لاقت القبول والاستحسان مثل (في آخر الليل، ياحلو صبح، الحرمان) وكذلك قصيدة (أحب الربيع) وغيرها.. له أيضا تجارب موسيقية رائدة في مجال السينما من خلال الموسيقى التصويرية لشريط (تاقرفت)، وحسب معلوماتي المتواضعة فهو من أوائل من لحنوا للمسرح بداية من المسرحية الغنائية (هندة ومنصور) للكاتب الكبير أحمد إبراهيم الفقيه.. وكذلك أبدع بألحانه التي قدمها في مسرحيات أخرى مثل (باب الفتوح، السندباد) مع المخرج فتحي كحلول.. كذلك لحن مغناة طويلة بعنوان (شعب لا ينحني) للشاعر عمر المزوغي شارك فيها العديد من المطربين مثل راسم فخري وأحمد سامي وغيرهما.
ولعلي ماهر تجربة في مجال الإخراج المرئي حيث أخرج رائعة الدكتور خليفة التليسي (وقف عليها الحب) والتي أداها كل من محمد السليني – مراد اسكندر – راسم فخري – على الشول، كما ترأس مهرجان الأغنية الليبية في دورته الأولى والتي كانت من أنجح الدورات.
لعلي أطلت، لكني لا أعتقد أني قد بالغت فلقب موسيقار التصق بالفنان علي ماهر، وهو اللقب الذي كان مقتصرا على المشارقة فقط. وهنا أنهي حديثي بالقول إن الفنان وديع الصافي قد أطلق عليه لقب (موسيقار ليبيا الأول) وذلك عند أدائه لأغنية الوطن على أحد المسارح الليبية، وهذه شهادة من أحد أعمدة الفن العربي الأصيل.. وفي الختام أختم ببيتين تغنى بها ولحنهما الموسيقار علي ماهر تقول:
أحب الربيع وزهر الربيع ** لأن خـدودك مـثل الـزهـر
أحب العـنادل إن غـردت ** وصوتك أحلى وأغنى وتر ….