(1)
في ستينيات القرن الماضي …..
حدث فيضان في مدينة درنة.
كان حدثا غير عادياً وسمت أحداثه الذاكرة الليبية….
جيشت الحكومة مواردها للمساعدة …
وتوافد الجيش والكشافة للأشراف على علميات الانقاذ وتقديم العون ….
لا زلت اذكر كيف تفاعلت مدينة بنغازي مع الحدث..
وكيف انتقل العديد من أناسها لمدينة درنة ….
لمواساة المنكوبين وللاطمئنان على أحوال الأقارب …
كما أذكر كيف تفاعلت المدينة في نفس الفترة مع حدث من نوع أخر…….
فقد سرت إشاعات قوية بأن جنديا أنقذ امرأة عجوز من الموت المحقق …..
عندما قذف نفسه في وسط السيل الجارف وتمكن من جرها إلى بر الأمان…..
أغمى على ذاك الجندي لبرهة ….
وعندما أفاق أحس بتغير شامل في قدراته الذهنية والعقلية. …
فدعاء تلك المرأة العجوز أكسبه المقدرة على شفاء المرضى…..
كتبت إحدى الجرائد عنه بينما أجرت أخرى مقابلة معه. ….
وتقاطر الناس إلى بيت احدى عوائل بنغازي التي استضافت ذاك الرجل ….
أصيبت المدينة بالدهشة ولم يعد لها حديثا سواه.
انقسم الناس كالعادة. ….
بين مصدق لهذه الأعجوبة التي وصلت حد إعادة البصر للمكفوفين…
وبين ساخر ومكذب.
رآها البعض ضربا من المعجزات التي تحدث بين الحين والأخر….
بينما رآها البعض الآخر ممارسة للدجل والشعوذة….
انقسمت البلاد آنذاك بين الرأيين.
اصيب الجميع بالدهشة.
(2)
مر الزمان كعادته ….
وتغيرت الكثير من الأشياء في حياتنا….
لم نعد نصاب بالدهشة …..
ولم نعد ننقسم.
ولم نعد نكذب أو نصدق أحدا …..
هذه قنوات فضائية تتسابق لعرض أراء المنجمين وتنبؤاتهم للعام الجديد…
وأخرى تعتمد الخرافات والتضليل لتفسير الظواهر السياسية والدينية والاقتصادية….
وهذا محلل سياسي مخضرم يعيد تدوير الترهات والأوهام …
وهذا كاتب يعيد برمجة ما تبقى من العقول وشحنها بالتعصب للقبائل والمدن …
هذا شيخ يشفي بأعشابه العقم والجنون والعجز والإيدز….
هذا كتاب يفك السحر وأخر يراكم الثروات….
وهذه مدارس وجامعات تهب الشهادات وتعطل العقول …
وذاك طبيب دونما تخصص يجري كل أنواع العمليات باقتدار ….
صارت الشعوذة في كل مكان.. وارتدت كل لون.
(3)
مر الزمان.
تلاشى الحوار.
اضمحل الفكر.
غابت الرؤى.
وتلاشت “الفروق” بين العديد من الساسة والزعماء والنخب والمشعوذين …
ولم نعد نحن نصاب بالدهشة.
صرنا فقط نُصاب … بالغثيان.