(إضاءة على مجموعة تحطيب سكان الريح للشاعر مفتاح العمّاري)
(الأشجار التي تحجّر عطرها
كيف نسميها حديقة؟
كان عليّ جمع الحطب
لا انتظار الريح.)
بهذا المقطع يستهل الشاعر “مفتاح العمّاري” رحلته الجديدة راويًا حكايا سُكّان تحطيب الريح، ففي مجموعته الشعرية الأخيرة يجمع الحطب وينسف ساعات الانتظار إنه يتعمد إدانة الحطّاب الذي حطّم الشجرة وقتل ما عليها من أعشاش لطيور الكناري والقُبّرات يد ذاك الحطّاب عادت إلى البيت بأحشاء الشجرة الذبيحة ؟ وربما كان عليها أن تنجو وتصرخ صرخة شجيّة من حُنجرة الناي ! كيف للموت أن يصرخ بينما اليد الآثمة تتدفأ بأشلاء الضحايا ؟ ونفس تلكم اليد تسجن الزهور وراء سُورٍ سمته مجازًا بالحديقة إذًن لا مبرر لانتظار الريح !
(منذ أن دفنا أبي وتركنا أخطاءه
تلعب حرة خارج القبر
منذ أن تدبرت أمنًا زوجًا آخر
ولم نعد نراها إلا في المآتم منذ أن تخلت عني الأبواب
وتحول اسمي إلى خمسة أرقام هزيلة
وأمست الثكنات ملاذي غير الآمن.)
الثكنة هاجس الشاعر الموت الذي تحيا به قصيدته فهي قد ولدت من فوَّهات البنادق وأوامر المشرف العسكري بالاستيقاظ قبل الساعة السابعة صباحًا وكان لابد جراء حجم الخوف هذا أن يتحسس الشاعر جبينه المحموم بالقصيدة فيندفع إليها دفعًا لا يسابقه فيها أحد لا الريح ولا بقايا الجثث المتفحمة !
(على طاولة عامل بدالة في معسكر الكتيبة 23 مشاة
كان النبي مهانًا
شوّهت ملامحه أرقام وخربشات عابثة
وبقع الشاي
منذ ذلك الحين وأنا أكتب الشعر لجمهور مغرور
يتجاهل الموسيقى ويفسح الطريق للجنرالات)
لعل قدر الأنبياء اللوذ بالحرف والكلمة ليقولوا احتجاجهم ليموتوا وهم واقفين دفعًا للإهانة وردًا للصفعة هذا ما أراده الشاعر فلكي يأخذ بأسباب النجاة كان عليه أن يتشجأ ويتقيأ ويتخلص ! ليس مهما الشكل الهندسي لتلك الأبجدية المتساقطة على صدر الورق.
(حيث لا شيئ يصمد طويلاً
في الحرب
تشّبثت بالموسيقى
تلك الرفيعة شبيهة السر
فمهما كانت عظمة النار
وحدها الموسيقى لا تحترق)
أشياء أبلغ عمقًا من الموت ترويها لنا قصيدة الشاعر حين يفقد الكلام شفافية أمانه وتشتهي الثرثرة أمان صمتها ! لكن في المقابل لازال الجسد الذي تُسكره ثمالة الموت ماثلاً في ذاكرة قصيدة الشاعر لا يلبث أن يُنسى أو حتى أن يُعلن هزيمته ! لماذا يختار الشعراء الانتصار بقصيدة ؟ كيف خطر لهم أنها الطريقة المثلى لسقوط الأعداء في ميادين الوغى ؟
(في عطلة الأسبوع
ذهب الجنود إلى عائلاتهم
وتركوا الثكنة لي وحدي)
العُزلة مصيدة الشيطان حيث يُعدّها على طريقته ويستدرج بها ضحاياه قبل أن يتحولوا إلى قاتلين أو قتلى ! هنا لم يلقى الشاعر نفسه إلا أن يُمضمض ريقه الحاد برسالة الشيطان بينما الجنود الآخرون يلوذون بأهاليهم، شيطان اللغة أرغم قلم الشاعر على النبش بعيدًا في أحشاء الشجرة التي اقتطعها الفأس وغنّاها الناي بحرقة ؟
(ثياب الجندي
التي لبستها طيلة عشرين عامًا
عجزت عن إخفاء ظل الشاعر)
هل الشاعر هنا هزمته الظلال ؟ فحتى وهو يُمزّق بزّته العسكرية تذكّر عودته من الموت بقصيدة ! قصيدة أظمأت قدميه للعودة للبحر واصطياد سمكة كبيرة كما كان يحلم سنتياغو في رواية الشيخ والبحر ! لكنّ العودة مؤجلة ماتزال مؤجلة فثياب الجندي عجزت وظل الشاعر لازال فمه يغتصّ بآثار دم تلكم الثياب !
(أحيانًا أغبط أولئك الكسالى
وهم يسترخون في المقاهي
ويثرثرون بأصوات حرة ولأسباب لا أفهمها، أغبط النار
الشوارع لحظة أن تستيقظ في الشتاء )
ربما كان لابد من مجاراة الانتظار وفتح روزنامة الوقت يومًا بيوم الحفر في أخاديد أسئلة مثل لماذا أنا ؟ وكيف تواقح عليّ القدر؟ تحسمها خطوة واحدة تتمثل في العودة والاغتسال بزغاريد النهار وإلقاء مجرد نظرة على أنثى غنّت الليل بأنوثتها ! قصيدة الشاعر تُرمم فجوات المنفى بالكلمات وكأنها ترغب في إرباك إيقاع الزمن الذي ورّط الشاعر خلف قناع الجُنديّ المحترق تحت لهيب الشمس !
(اعتمروا الخُوذ
وتنكبوا البنادق
خمس سنوات
لا أمي ابتسمت
ولا اخوتي عادوا)
مرة أخرى يرمي القدر بصنّارته أمام ألم الشاعر ويُذكِّره بحقيقة الذاكرة المفتوحة على الزمن المتداعي ! إنه في لحظة يراها جيدًا في المرآة تشتد معاناته فالأسباب الغامضة لم تحوله إلى جزار ولم تُعلِّمه البنادق متى يقتل كل ما تُحرّكه الريح ! لقد وضعته الأسباب الغاضمة على أرض ملغمة بالكلمات والكلمات تقتل وتُحيي تُوهم صاحبها بالإنتصار وهو طريح الهزيمة المرآة لا تُزيّن حقيقته حين تفرّ المرأة من أحضانه في ليلة ممطرة حين تراه القاتل والقتيل في آن !! بعدما أخبرها بضرورة أن يموتا طيّعين مثلما علمته البنادق ! بكم تُقاس المسافة بين الخوف والنجاة ؟ هل بالقصيدة التي انهمرت عوضًا عن الرصاص من الفوّهة ؟ لا حرج على المحاولة محاولة أن نكون ثابتين وإن بدت الأرض رخوة وهشة، حيث تُصر القصيدة على التمسك بحقها في انتزاع ملابس الجندي المغبرّة !
تتجاوز قصيدة مفتاح العمّاري سطحية التربص بنهديّ عذراء بالكاد تُزرر قميصها ومطاردة أثر دم ليلة الزفاف، إنما في قصيدته الأسئلة تُزكم رائحة أنفك ولا ترويها إجابة داخل سياق المنطق ! يلتبس على الوعي صداع اللغة المزمن وتجربة المشي حافيًا وتذكّر أنّا نريد لولا أن أُريد بنا .