قــراءةٌ في “ضجيج الصَّمـت” لخالد خميس السَّحـاتي
زهـرة خصــخوصي (نـاقـــدة من تـونـس)
* سيرةٌ ذاتيَّةٌ تُعــرِّفُ بالكــاتب:
خالد خميس السَّحاتي: كاتبٌ وباحثٌ وقاصٌّ ليبيٌّ.
من مـواليد مدينة بنغـــازي/ ليبيـا.-
-يكتُبُ: المقالة الأدبيّة والثّقافيّة والسّياسيّة ــ القصّة القصيرة ــ الأقصوصة (القصّة القصيرة جدّا) ــ الدّراسات الثّقافيّة والفكريّة والسّياسيّة ــ الحوار الصّحفيّ.
-عُضـو هيئة التّدريس بكُلِّيَّة الاقتصاد ــ جامعة بنغـــازي/ ليبيا.
-شارك في عدد من المؤتمرات والملتقيات العلميّة والثّقافيّة والأدبيّة في عدد من الدّول العربيّة.
-عُضوٌ في العديد من المُنظَّمات والجمعيَّات الثّقافيّة والأكاديميَّة في الوطن العربيِّ.
-فازت أقاصيصه في شهر فبراير 2008 بمسابقة (قصص على الهواء/ أصوات شابّة في القصّة العربيّة)، وهو مشروع ثقافيّ لمجلّة العربي الكويتيّة.. نُشرت أعماله الفائزة في تلك المسابقة في : كتاب [مجلّة العربي] الكويتيّة لشهر أبريل عام 2009.
-نشر دراساته وأبحاثه ومقالاته في العديد من (الدَّوْريَّات) المجلَّات والصُّحُف المحلِّيَّة والعربيَّة في الوطــن العـــربيّ وخـــارجه.
-صــــدرت لهُ مجمُوعةٌ من الكُتُب الأدبيَّة والثّقافيَّة والأكاديميَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النَّصُّ:
ضجيجُ الصَّمْتِ:
استشاط الصّمت غضبا، أمسك بتلابيب حارس الزّمن الكسول، أوقعه أرضا، نظر يمنة ويسرة، حاول إيهام نفسه أنّه بخير، لكنّ هذا الهراء لم يرُق له!، فذهب ناحية السّراب ليفرغ في وجهه تلك الشّحنة من الصّراخ والصّخب اللّذين ينوء بحملهما لسنوات طويلة، تناهى إلى سمع السّراب ضجيج مرعب، لم يعرف مصدره، وحين أبصر الصّمت لأوّل وهلة، أفزعه ما رأى!، هدّأ من روعه قائلا له:
ــ إنّك من ذهب. أجاب الصّمت بهدوء مصطنع: وهل يتجاهل النّاس الذّهب ويقصونه في زاوية مُهملة؟، عندها فقط تبادل الصّديقان الأدوار، فصمت السّراب، ودخل الصّمت في حالة من الصّراخ المتّصل حتّى تحوّل إلى سراب !!.
خالد خميس السَّحـــاتي
مجموعة: “شــواطئ الغـربة”، القاهرة، ص ص17ــــ18.
* القـــراءة:
مــدخـــلٌ:
لمـــاذا نكتُبُ النَّصَّ الأدبيَّ؟ ولمــن نكتُبُهُ؟.
لمــــــاذا نَقْــــــرأُ النَّصَّ الأدبيَّ؟ وكيف نقــــرأُهُ؟.
هل يُقدِّمُ النَّصُّ خـارطة القــراءة التي يستدعيها؟ أمْ هي خَرَائِطٌ عِـدَّةٌ يُقدِّمُها لِقِرَاءَاتٍ مُمْكِنَةٍ تَخْتَلِفُ مِنْ قـــارئٍ إلى آخـــر، ومنْ زمـــنٍ إلى آخــــر؟.
ما هُـــو النَّصُّ، ومـــا هي القـــراءةُ، في الدَّرس النَّقديِّ الحديث؟.
هي إشكاليَّاتٌ تظلُّ مُتدافقةً كالسَّيْلِ، تُواجهُ القارئ مع كُلِّ تجربة استقراءٍ لنصٍّ أدبيٍّ حديثٍ، خاصَّة أمام نُزُوع عجيبٍ للتَّجريب الإبداعيِّ صار يسم الرُّؤى المُختلفة للكُتَّاب ســرداً وشعـــراً.
ولعلّ الكتابة السّرديّة تظلّ الأكثر مخاتلة للمتلقّي بإيغالها في تجريب يبلغ، في إرباكه البناء السّرديّ المألوف قصّا وروايةً، حدَّ الزّعزعة والتّقويض، الذي يستفزّ في القارئ ملكة الاستقراء، وقدرات الاستذكار، وآليّات التّأويل، ويستنفر فيه جهد المساءلة والتّفكيك من أجل بناء قراءة ذاتيّة تُسهم في توسيع دائرة مقروئيّة النّصّ.
فجوليا كريستيفا وهي تعرّف النّصّ بأنّه عبارة عن نظام أدبيّ ولغويّ يتضمّن خطابا مرتبطا بالواقع الاجتماعيّ، ويعالج قضيّة من قضايا المجتمع المختلفة بلغة ترقى عن الكلام العاديّ المتداول بين النّاس، تؤكّد البعد التّداوليّ الكامن في النّصّ، المنفتح على التّعدّد باختلاف القرّاء، وتعدّد زوايا ولوجهم البنية العميقة للنّفس، حفرا في البنى الدّلاليّة الثّاوية فيها، استنادا إلى التّعريف النّقديّ الحديث للقراءة بأنّها إنطاق النّصّ الأدبيّ بحقيقة ما فيه، أو الكشف عن خباياه، واستكشاف ملامح جماله، وتشكيل دلالاته الخبيئة، وأنّها ” قد تكون شرحا أو تحليلا، وقد تكون تفسيرا أو تأويلا، وقد تكون نقدا أو نقد نقد، وقد تكون تعليقا أو تشريحا”(1).
ونصّ “ضجيج الصّمت” للكاتب خالد خميس السّحّاتي يُعدّ أنموذجا للتّجريب في القصّ، بما يتّسم به من مخاتلة قصّيّة تجعل قراءته لا تكون إلاَّ تعليقاً وتشريحاً وتفسيراً وتأويلاً في آنٍ. لهذا نرتئي في هـذه القـراءة التي نقترحُها إمكاناً منْ إمكاناتٍ شتَّى، أن نسلُك نهج التَّفكيك ثُمَّ المُساءلة من أجل رسم خارطةٍ لاستقراء الدّلالات، وتأوّل المعاني الخبيئة فيه، بما نمتحه منْ آليّات السِّيميائيَّة التي تكسرُ الحُدُود المُغلقة التي فرضتها البُنيويَّة على النَّصِّ والنَّقْدِ معـا زمناً، وتُشرعُ أبواب النَّصِّ على سياقاته ومقاماته، وخلفيَّات كاتبه، وقُــدرات قــارئه على التَّفكيك والتَّأويل.
وسننطلق من عتبتيْ النّصّ: العنوان والأيقونة التي ترافقه، شأنها في ذلك شأن كلّ نصوص المجموعة القصصيّة “شواطئ الغربة” التي ارتأى كاتبها أن يُرفقها برسمات تنويعا للعتبات، قد يكون القصد منها تيسير قراءة النّصّ، الذي يمثّل الوظيفة الأسّ لكلّ عتبة، أو قد يكون من أجل التّنكيل بالقارئ المعاصر الرّاكن إلى التّلقّي السّلبيّ العابر.
1ــ الأيقونة وما تطرحه من إشكاليّات:
يُصافحُ قارئُ النَّصِّ، قبْل وُلُوج متْنِهِ، رسماً تشكيليّاً موسُوماً بعُنوان النَّصِّ: “ضجيج الصَّمْت”، وسما يُؤكِّدُ انتماءهُ إلى النَّصِّ عتبةً تُجاورُ عتبة العُـنوان، وتُحاورُ النَّصَّ لتُومئ إلى بعــض مفــاتيـح استقـرائه للظَّفْـــر بدلالاتــه.
ولعــلَّ ما يشدُّ الانتباه في هذه الأيقونة هو ألوانها المتدرّجة صعودا من قاعدة الرّسمة إلى أعلاها من انتثار الأبيض والأزرق والأصفر والبنّيّ على امتداد ثلث الصّفحة، ليكتسح اللّونان الأسود والأحمر الثّلثين الباقيين منها. وانطلاقا من الوصف العلميّ للتّدرّج اللّونيّ للاحتراق بأنّه ينطلق في مساره نحو اشتداده أكثر فأكثر من الأحمر الذي يسمّى “أبرد الألوان”، فالبرتقاليّ والأصفر والأبيض، فالأزرق، ثمّ الأسود المظلم الدّالّ على شدّة الاحتراق، فإنّنا نلاحظ اجتماع النّقيضين أي الأحمر البارد والأسود المظلم الحارق في شدّة احتراقه، وهو ما يضع المتلقّي أمام فيض من الإشكاليّات: ما دلالة هذا الجمع بين اللّونين في هذه العتبة النّصّيّة؟ ماذا يضمر ذلك أو عمّا يفصح؟ ألا تضحي هذه العتبة المشحونة بالغموض والعتَمة عقبة أمام القارئ، تعسّر عليه الفهم فتنفّره من ولوج العوالم الدّلاليّة للنّصّ؟.
2ــ العُـنوانُ وإشكاليَّاته:
العنوان هو العتبة النّصّيّة الأولى التي تستقبل القارئ في عمليّة تلقّيه النّصّ. ويعرّفه صلاح فضل قائلا: “العنوان ضوء يمدّ القارئ بموجّه دلاليّ قويّ، لفهم النّصّ، بل هو نصّ آخر على تخوم النّصّ، يدخل معه في علاقة جماليّة أو صياغيّة أو دلاليّة”(2). وهو تعريف يمتح جوهره من الوظيفة المركزيّة التي يتكفّل بها العنوان في فعل التّلقّي، المتمثّلة في توجيه القارئ توجيها أوّليّا حول بعض دلالات النّصّ والإغراء بالقراءة وسحب القارئ نحو العوالم السّرديّة وبناها العميقة.
والمقبل على هذا النّصّ يستقبله عنوانه “ضجيج الصّمت” بزخم من الإشكاليّات التي يطرحها انبناؤه على التّقابل الحادّ بين مكوّنيه “ضجيج” و”الصّمت”. فلئن دلّ الضّجيج على تزاحم الأصوات المتعدّدة حدّ انعدام وضوح المعنى وتعصّي الفهم، فإنّ الصّمت دالّ على انعدام الصّوت وغيابه التّام. فأنّى يجتمع الضّدّان ليشكّلا معنى دالّا على تيمة النّصّ؟ هل هي بلاغة الصّورة إليها يستند الكاتب ليمهّد لولوج نصّه؟ أم هي براعة الواقع يدفع الكاتب إلى التّأليف بين المتنافرات ليستطيع تقديمه تخييليّا؟.
عتبة العنوان موغلة في التّكثيف. ولعلّ الكاتب يستمدّ مشروعيّة هذا النّزوع الأسلوبيّ في العنونة إلى التّكثيف من الدّرس النّقديّ الحديث الذي يؤكّد أنّه “بقدر ما يشتمل العنوان على التّكثيف اللّغويّ والدّلاليّ، ينعقد تناغم وانسجام ظاهران بينه وبين المتن، والصّلة الواشجة بينهما وثيقة التّرابط بصرف النّظر عن طرائق حضور العنوان داخل المتن”(3)، فيمنح الكاتب بهذا الانزياح من العنونة من الإفصاح إلى الإلماح دورا في فعل مخاتلة القارئ إغراء بالقراءة وترغيبا في الاستقراء. فالعنوان بالنّظر إلى أنّه ” مرجع يتضمّن بداخله العلامة والرّمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلّف أن ينحت فيه قصده برمّته كلّيّا أو جزئيّا”(4) يكون انتقاؤه من طرف الكاتب قصديّا براغماتيّا، ويكون تلقّي القارئ إيّاه تلقّيَ الباحث فيه عمّا يهديه إلى خارطة نسيج النّصّ، أو ما يومئ إلى مؤشّرات دالّة على تيمته. ولعلّ الغموض الثّاوي في التّنافر بين مكوّني عنوان هذا النّصّ يمثّل ذلك المؤشّر الدّالّ الذي بتقفّي مسار البحث فيه قد يظفر القارئ ببعض العلامات الدّالّة على خبايا البنى الدّلاليّة في النّصّ.
فكيف يمكن استقراء هذا العنوان بالعودة إلى متن النّصّ؟ وهل يفضي ذلك الاستقراء إلى اعتبار هذا العنوان عتبة تيسّر ولوجا يسيرا للنّصّ وتضمن قراءة جيّدة للمتن؟ أم أنّ العتبة فيه تحوّلت إلى عتمة تقف عقبة أمام إدراك معاني النّصّ والدّلالات الثّاوية فيه؟.
3ــ علامات الترقيم والإشكاليّات التي تطرحها:
ينبني هذا النّصّ على تواتر سرديّ تحقّقه جمل قصيرة و تسوسه الفاصلة، مع حضور للنقطة في موضعين وحيدين، في بداية السّطر قبل الأخير وفي نهاية النّصّ. وهو تواتر يجعل نسق السّرد سريعا كأنّما همّ الكاتب أن يدرك المنتهى ويفرغ من السّرد، بل كأنّ سرد هذه الأحداث أمر حارق موجع يستعجل الكاتبُ الخلاص منه ليطرحه بين يدي المتلقّي توقا إلى أن يشاركه لظاه. فلم هذه العجلة السّرديّة؟ وما الدّلالات التي تحملها الفاصلة؟ وما مقصديّة هذا اللّهاث السّرديّ نحو الحدث الخاتم؟ وكيف يمكن استقراء ذلك تأويليّا بربط النّصّ بسياقاته الأدبيّة والواقعيّة؟.
4 ــ أنواع البيان في النّصّ:
لا يخفى على قارئ هذا النّصّ أنّ الخبر طاغ، يتحقّق عبر جمل مثبتة وأخرى منفيّة، بينما يكتفي الإنشاء بالحضور في جملتين من خلال الاستفهام والتّعجّب. وباعتبار أنّ اللّغة في الأدب ليست ” مجرّد “شكل” أو “قالب”، بل هي جوهر الإدراك نفسه، ومن ثَمَّ فهي التي تصوغ هويّة العمل الأدبيّ”(5) فإنّ قارئ هذا النّصّ لا يمكن أن يمرّ بظاهرة طغيان الأسلوب الخبريّ هذه دون الوقوف أمامها متسائلا: لم ينزع الكاتب إلى الأسلوب الخبريّ التّقريريّ؟ وما الدّلالات الممكنة الثّاوية في ذلك النّزوع؟.
5 ــ الشّخصيّات:
ارتأى الكاتب خالد خميس السّحّاتي أن ينحو في انتقاء شخصيّاته إلى مفارقة الكائن المحسوس منها إنسانا أو حيوانا أو جمادا، والاتّكاء على المجرّد غير المحسوس من “صمت “و”حارس زمن كسول” و”سراب”. وهو انتقاء يطرح إشكاليّة النّصّ والسّيّاق: هل يفرّ الكاتب من رداءات السّياق المحسوس المعاصر الذي يلازمه من بشر وعناصر وجود، فيستعيض عنه بالاستنجاد بالمجرّد؟ أم أنّ هذا السّياق التّاريخيّ يخنقه ويحاصره فيخاتله بالمجرّد الوهميّ اقتداء بالفيلسوف بيدبا في الزّمن القديم حين اختار الحيوان عالما لشخوص كتابه كليلة ودمنة يملي عليها أفكاره ويحمّلها أقواله، متستّرا بها، متبرّئا من أفعالها وأقوالها، ليفضح حقيقة واقع موجود، ويفصح عن توق إلى بديل مرادٍ منشود؟.
6 ــ التّعــالق بينهـا:
تتوزّع العلاقات بين الشّخصيّات في هذا النّصّ إلى علاقة صراع وتوتّر جامعة بين الصّمت وحارس الزّمن الكسول، وعلاقة تآلف وتعاضد جامعة بين الصّمت والسّراب، دون أن يستمدّ الكاتب مرتكزات هذا التّفريع من الواقع، بل نلفيه في ذلك يوغل في التّخييل كأنّما الانشداد إلى الواقع نقيصة أو عار. وهي سمة في النّصّ تزيده تضمّخا في السّمة الإشكاليّة التي تلازمه، والقارئ يواجه إشكاليّات لا تني تنسلّ من بعضها، فيتساءل، ومعه نتساءل: ما الدّلالات الممكنة الثّاوية في هذه الشّخصيّات؟ كيف يمكن قراءة هذه التعالقات بينها؟، ما الخلفيّات التي يكشفها انتقاء الكاتب هذه الشّخصيّات غير العاقلة؟ ضمن أيّ أدب يمكن أن ندرج هذا النّصّ؟.
7 ــ بنـــاء النّصّ:
مدار أحداث هذا النّصّ التوتّر والصّراع منذ الحدث الأوّل حتّى الحدث قبل الخاتِم.
البداية: الصّمت غاضب، يمسك بتلابيب حارس الزّمن الكسول، يوقعه أرضا. وهي بداية متوتّرة مضطربة تجافي المألوف من البناء السّرديّ، في الدّرس النّقديّ، الذي يشترط أن تكون البداية متّسمة بهدوء المسار الحدثيّ وتوازنه.
الوسط: استمرار التّوتّر: (فذهب ناحية السّراب ليفرغ في وجهه تلك الشّحنة من الصّراخ والصّخب اللّذين ينوء بحملهما لسنوات طويلة، تناهى إلى سمع السّراب ضجيج مرعب، لم يعرف مصدره، وحين أبصر الصّمت لأوّل وهلة، أفزعه ما رأى! هدّأ من روعه قائلا له:
ــ إنّك من ذهب. أجاب الصّمت بهدوء مصطنع: وهل يتجاهل النّاس الذّهب ويقصونه في زاوية مهملة؟ عندها فقط تبادل الصّديقان الأدوار، فصمت السّراب، ودخل الصّمت في حالة من الصّراخ المتّصل).
النّهاية: ظفر الصّمت بالسّكينة بتحوّله إلى سراب:
هذا البناء السّرديّ المسكون بالتّوتّر المشحون بالصّراع يُبين عن وجه آخر من وجوه الغموض الذي يمسي قدر القارئ في عمليّة تلقّيه إيّاه، يزرع أمامه بذور الحيرة والتَّساؤُل في مسار إشكاليّ عجيب: ىكيف يغضب الصّمت؟ لم يغضب؟ لم يمسك بتلابيب حارس الزّمن الكسول؟ هل للزّمن حارس؟ وأنّى يكون حارس الزّمن كسولا؟ ما دلالة كلّ ذلك؟ ما دلالات السّراب؟ أنّى يتصادق السّراب والصّمت؟ كيف يمسي الصّمت سرابا؟ ما مقصديّة هذا البناء العاصف للمسار السّرديّ؟
8 ــ التّكثيف وإحالاته الدّلاليّة:
يعمد الكاتب خالد خميس السّحّاتي في نصّه هذا إلى التّكثيف، آليّةً أسلوبيّةً للقصّ، يوظّفه منذ العنوان “ضجيج الصّمت”، ويتوسّل به في انتقاء إسميْ الشّخصيّتين “حارس الزّمن الكسول” و”السّراب”، ثمّ يجعله مطيّة لشحن الأحداث بالغموض، وذلك في موضعين من النّصّ :”أمسك بتلابيب حارس الزّمن الكسول، أوقعه أرضا” / “ودخل الصّمت في حالة من الصّراخ المتّصل حتّى تحوّل إلى سراب”. كما حمّل الكاتبُ أسلوب التّعجّب وظيفة الاضطلاع بهذا التّكثيف، كأنّ هاجسه في العمليّة الإبداعيّة إرباك القارئ وخلخلة يقينه بيسر الفهم في فعل التّلقّي الأوّل ماتحا مشروعيّة هذا الهاجس من كون ديدن النّصّ في الدّرس النّقديّ الحديث أن “يحثّ القارئ على النّظر والتّفكّر ويدعوه إلى استنفار طاقاته وامتحان قدراته وجلاء موهبته”(6).
ولعلَّ “التَّكثيفَ”، سمةً بارزة في هذا النّصّ، تشحنُهُ بشعريَّة السَّرْدِ، كما تنثُرُ في زواياهُ الغُمُوضَ، يَزْرَعُ بُذُور الحيرة والتّساؤُل في القارئ وهو يضعه أمام إشكاليّة تجنيس النّصّ: هل هو قصّة قصيرة أم هو قصّة قصيرة جدّا؟. ولعلّ هذه الإشكاليّة، وهي تنتصب أمام القارئ، تستنفر فيه ملكة تجميع ما تجلّى أثناء التّفكيك من عنونة غامضة مخاتلة وإيغال في التّخييل في تسمية الشّخصيّات، وتوتّر في سيرورة السّرد منذ بدئها، وتسارُع وتيرة تعاقب الأحداث بأسلوب تقريريّ، تجلو له بعض ما أعتم وهو يلفي نفسه أمام نصّ قصصيّ قصير جدّا لا تحقّق لكينُونته إنْ لمْ يُحقِّق فِعْلُ تلقّيه إرباك القارئ ومُخاتلته، واستنفار ملكة التّساؤُل والتَّفْكيك والتَّأْوِيلِ فِيهِ.
9 ــ التّناصّ:
تنجلي لنا ظاهرة التّناصّ ثاويةً في جملة تقريريّة مثبَتة مؤكَّدة، جعلها الرّاوي على لسان شخصيّة السّراب مخاطبا الصّمت ” إنّك من ذهب.”، لتحيل على مثل شعبيّ قائل:” إنْ كان الكلام من فضّة فإنّ الصّمت من ذهب”. وهو مثل شائع في شمال إفريقيّة، بل لعلّه منتثر في شتّى الأمصار العربيّة.
وهو تناصّ لئن يكشف في ظاهره عن انشداد الكاتب إلى المرجعيّة الاجتماعيّة، فإنّه يجيء مسكونا بالسّؤال الباحث في الخلفيّة التي يكشف عنها هذا التّناصّ، فإلام يحيل هذا النّصّ من مرجعيّات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة المتعدّدة المتنوّعة جهلا وتخلّفا، وفقرا وعجزا وجبنا، وخنوعا وخضوعا وتبعيّةً؟
وهل في هذا التّناصّ تكمن تيمة النّصّ وجوهر بنائه الإشكاليّ العاصف بسكينة القارئ واستكانته إلى مألوف من القراءات اليسيرة السّلسة؟.
10 ــ البناء التّأويليّ للبنية الدّلاليّة للنّصّ:
إنّ تفكيك هذا النّصّ كان سبيلنا لتجميع المؤشّرات النّصّيّة الهادية إلى البنى الدّلاليّة العميقة فيه، ومن فوضى التّشظّي التي شكّلها هذا التّفكيك، يُفضي بنا مسار القراءة هذه إلى جملة من الاستنتاجات التي يشرّع لها التّأويل وآليّاته النّصّيّة، والذي نستمدّ مشروعيّة توسّلنا به من المنهج السّيميائيّ الذي تتلاشى معه سلطة الكاتب لتحلّ محلّها سلطة النّصّ بما يمليه على المتلقّي من فهوم تشكّلها رؤيته الذّاتيّة لترتيب فوضى التّشظّي تلك، فتتعدّد الرّؤى والفهوم والقراءات بتعدّد القرّاء؛ ذلك أنّه “بقدر ما يتفاعل المتلقّي مع النّصّ، ويحاوره، ويؤوّله، ينفتح النّصّ ويمتدّ إلى آفاق معرفيّة عديدة ليتجاوز رؤية المبدع ذاته إلى رؤى المتلقّين أنفسهم، وبذلك تتحقّق جماليّة الإبداع”(7).
يبين لنا في هذا النّصّ تشكيلٌ جماليّ فنّيّ تقدّمه الأيقونة المصاحبة، ونسيجٌ سرديّ، يتجاوران ويتحاوران لتقديم طرح فكريّ يقدّمه الكاتب في نصّ قصصيّ قصير، يعرض فيه جملة من المقولات السّائدة ويسعى إلى دحضها وتفنيدها عبر بناء حدثيّ مخاتل.
يطرح الكاتب قضيّة المسلّمات السّائدة، كما يراها ضبابات وسرابات لا تُلقم الإنسان المعاصر، كما أبدا، غير الوهم والضّلال. فالتّسليم بأنّ الزّمن يتحرّك بمعزل عنّا، له حارسه الأبديّ “الكسول”، لا يعدو أن يكون ضربا من الوهم المتوارث، نقيضه أنّ الزّمن منّا ينبجس، نحن من نحرّكه عبر الفعل فيه، فإن استنهضنا الهمم وشحذنا الهمم مضى بنا كبراق نحو آفاق العلا، وإن خنعنا إلى العجز خلّفنا خلفه كبقايا جيفة في معارك الضّواري ومضى. والتّسليم بأنّ الصّمت كنز ذهبيّ وهم لا يورث غير الظّلم وسواد الاستبداد والجهل. كما أنّ الرّكون إلى أنّ كلّ صوت مُبلِغٌ مقاصدنا، مدرِكٌ آمالنا، ليس إلّا محض ظنّ مآله سراب الفعل وضباب الوجود، تتضامّ فيه الشّرارة الأولى للوعي مع اللّهيب الأخير للثّورة ـ كما تصوّره الألوان في عتبة الأيقونة ــ فلا نظفر من الجهد بغير رماد الخطى…
نصّ “ضجيج الصّمت” مسكون بتعدّد الخلفيّات، فهي اجتماعيّة، سياسيّة، وحضاريَّة. وهُو بذلك يُمثِّلُ أنمُوذجاً سرديَّاً يُؤكِّدُ أنَّ ” النَّصَّ وإنْ كان لهُ عالمٌ خاصٌّ، فإنَّ بُنية هذا العالم مشرُوطةٌ بالعـالـم الخارجيِّ. فالكاتبُ ليس هُو وحدهُ المُؤلِّفُ، بل يشتركُ معهُ في آنٍ واحدٍ المُجتمعُ والتَّاريخُ”.
“وهُو أيضاً مسكُونٌ بأيديُولوجيَّة كاتبه، التي تنتقي من هذه الخلفيَّات ما تشاؤُهُ لتوجيه المسارات الدّلاليَّة. وهُو بكُلِّ ذلك أنمُوذجٌ بديعٌ للتَّجريب الأدبيِّ السَّرْديِّ المُعاصر، الذي تنعتقُ فيه اللُّغةُ والبُنى الفنِّيَّةُ منْ عقال البُنيويَّة تشكيلاً للنَّصِّ ولاستقرائِهِ في آنٍ.
خــاتمــة:
إنّ نصَّ “ضجيج الصًّمْت” بعتبتيه المسكُونتين بالغُمُوض أيقُونةً وعنونةً، وبنائه الفنّيِّ المُربك، ولُغته المُجافية المألُوف السَّائد، وبمَرْجِعِيَّاتِهِ المُتعدِّدة، يُقدِّمُ لَنَا صُورةً منْ صُور التَّجريب السَّرديِّ في (القصَّة القصيرة جدّاً)، هذا التَّجريبُ الذي يقطعُ مع سُلطة الكاتب التي تُغفلُ الطَّبيعة المُتفرِّدة للنُّصُوص ممَّا يُؤدِّي إلى ذوبان شخصيَّةِ النَّصِّ وبُرُوز التَّلقِّي السَّلبيِّ المُطمئنِّ إلى “أُفُق انتظارٍ تقليديٍّ”، ويحتفي بسُلطة القارئ الشَّريك في العمليَّة الإبداعيَّة، قارئاً يُشكِّلُ، باستقرائه النّصّ عتبات ومتناً، رُؤيته التَّأويليَّة، فهماً ذاتيّاً سندُهُ التَّفكيكُ وآليَّاتُهُ التّأويلُ، فيُنشئُ نصّاً على نصٍّ، ويُسِهِـمُ فِي تعدُّد أوْجُـهِ وُجُـود النَّصِّ التَّخييليِّ وخُـلُودِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الهــوامـش:
(1)عبد الملك مرتاض، نظريّة القــراءة، وهـــــران، دار الغرب، 2003، ص20.
(2) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النّصّ، سلسلة: عـالم المعرفة: (164)، الكويت، المجلس الوطني للثقـــافــة والفنون والآداب، أغسطس 1992، ص236.
(3) البشير الوسلاتي، النَّصُّ الأُقصُوصيُّ وقضايا التَّأويل، تونس، دار صامد للنَّشر والتَّوزيع، ط1، مـــاي 2014، ص121.
(4) شعيب حليفي، هويّة العلامات في العتبات وبناء التّأويل: دراسات في الرّواية العربيّة، دمشق، محاكاة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، 2013، ص14.
(5) إدوارد الخراط، في البحث عن هويّة الأدب الفرنكفونيّ، مجلّة: العربي، الكويت، العدد: 515، أكتوبر 2001، ص78.
(6) علي حرب، “قـراءة ما لم يُقـرأ: نقــدُ القراءة”، مجلَّة: الفكر العربيِّ المُعاصر، 1989، ص100.
(7) العرابي لخضر، “النَّصُّ: فضاءٌ مثقُوبٌ ومساحةٌ مفتُوحةٌ”، مجلَّة: كتابات مُعاصرة فُنُون وعلُوم، بيروت، العــدد: 80، المُجلَّد: 20، أيار- حزيران، 2011، ص61.
(8) توفيق الزّيدي، أثر اللّسانيّات في النّقد العربيّ الحديث من خلال بعض نماذجه، تونس، الدّار العربيّة للكتاب، ط1، 1984، ص149.