طيوب عربية

أبو غريب

قصة لليافعين

رقية العلمي (فلسطين)

من أعمال التشكيلي الكويتي محمود أشكناني

دخل “أبو سليم” الى العمارة وتفاجأ بوجود كيس نفايات أسود مُلقى في الزاوية تحت الدرج…  مقابل باب شقة الساكن الجديد…. فأستاء من هذا التصرف الغير لائق.

قام بقرع الجرس، فتح الجار الجديد الباب وسأل “أبو سليم” مباشرة وبطريقة غير لطيفة “ماذا تريد؟”

أجابه “أبو سليم”:

“مساء الخير يا جار! “ما هو السبب؟ لماذا تكلمني بهذه الطريقة، ولما لا ترد السلام؟”.

لكن الجار لم يتجاوب مع الحوار.

أضاف “أبو سليم”:

“يا جار… لماذا تضع كيس النفايات على مدخل العمارة؟ ان مدخل العمارة النظيف ما هو الا عنوان يدل على نظافة ساكنيها؛ نحن لم نعتد على مثل هذه الممارسات التي تسيء إلينا!”.

أجابه: “خليك بشغلك!.

“كيف يكون ذلك؟ فأنا ساكن في هذه العمارة؛ لي حقوق وعلي واجبات!”

أهمها متابعة المظهر العام للعمارة”.

تمتم أبو سليم: “غريب… ” وطلع الدرج قاصداً بيته…

قص “أبو سليم” على أفراد أسرته ما حدث مع الجار الجديد مُبْدِياً إستغرابه من جفائه حتى انه لم يرد التحية .

فقال ابنه سليم:  “كيف يكون ذلك كأنه لا يعلم تعاليم ديننا الاسلامي التي تنادي بضرورة رد السلام: وقوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَإِذَاحُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَاأَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا. صدق الله العظيم.( 86 النساء).

منذ أن سكن الجار الجديد  في العمارة وهو يتعامل مع الجيران بجفاء، وكان واضحاً من ردود فعله وأجاباته بانه لا يرغب في الإختلاط مع الجيران وأبناء الحي؟

 وعندما طُلب منه  حضور الأجتماع الربع سنوي الذي تقيمه لجنة العمارة لم يأبه لذلك ولم يستجب للدعوة:

عادة تشكل لجنة للعمارة تكون مسؤولة عن المصاريف ورسوم الخدمات التي تصب لصيانة المصعد والسلالم من دهان وطراشة، وكذلك متابعة أمور السلامة مثل شراء طفايات الحريق والصيانة الدورية لخزانات السولار وخزانات المياه…

فقال له “أبو سليم”:

“إن لم يكن لديك الرغبة في حضور الاجتماع فهذا أمر خاص بك، ولكن يجب عليك المشاركة في دفع رسوم الخدمات الخاصة بالعمارة. 

ولكنه رفض بشدة.

كثيراً ما تذمر الجار الجديد من صوت مضخة دفع الماء ( الموتور الكهربائي )… الذي يستعمل عادة لضخ المياه الى الخزانات العلوية:

عندما تنقص المياه يضخ من بئر الماء او الخزانات السفلية عبر موتور كهربائي…وعادة يكون صوت “الموتور” عالياً….

وبما ان الجار مختلف الأطوار، لا يحب الاختلاط مع الناس، ولا التفاعل مع من حوله ويميل الى العزلة شديدة، [لا يراه السكان الا ما ندر]، وشخصيته يكتنفها كثير من الغموض… لذلك أُطلق عليه أطفال العمارة لقب “أبو غريب”…

والغريب هو رَجُل غريب الأطوار:

مُتَّسِم بماهو خارج عن المفهوم العامّ، ذو طَبْع يصعُب فهمُه يأتيك بكلّ عجيب غريب وبكلّ مدهش لا يُصدَّق .

تسبب أبو غريب في مشكلة ثانية حين رفض إعادة كرة القدم حين وقعت على شرفته أثناء لعب الصبيان والبنات لكرة القدم في الساحة المجاورة لشقته؛

خطرت ببال الأطفال أفكاراً مختلفة لمنع الكرة من الوصول الى شرفته:

منهم من اقترح زراعة أشجار في أحواض تعمل سوراً طبيعياً يقف عائقاً أمام نزول الكرة الى الشرفة… بنفس الوقت تزين المكان، وأقترح البعض وضع  شبك على حائط الشرفة يكون بمثابة سياج ….وإقتراح ثالث بإن يقف أحدهم على حافة الشرفة يتلقى الكرة بيديه قبل وقوعها! إلا أن هذه الأقتراحات بقيت مجرد أفكار لم يتم تنفيذها.

وبعد التشاور اتفق الجميع على إنتداب واحداً منهم للتحدث اليه!

نيابة عنهم؛ نسب أحمد للقيام بالمهمة: كونه عنصر فعال في الحي، يساعد كبار السن ويؤمن بالعمل التطوعي… ويحرص على نظافة المرافق العامة: من خلال قيادته لفريق “نحو حياة أفضل في حينا” وهذا فريق مسؤول عن صندوق دعم الفقراء وصديق للبيئة، كما ان فريقه يتفقد أحوال المحتاجين ويقوم بزيارة المسنين بشكل دوري.

ذهب أحمد الى بيت أبو غريب لحل تلك المشكله ولكن الآخر أصر على موقفه.. . بحجة ان لعب الكرة يزعجه.

حاول أحمد أن يشرح له بأنهم، وخلال العطلة الصيفية، يلعبون الكرة عصراً!

فقال له أحمد:

” فليكن: فإن مصادرتك للكرة لن تمنعنا من اللعب سيما وان هناك أوقاتاً محددة للعب اتخذت فيها قراراً لجنة العمارة وهي ثلاث ساعات يومياً تبدأ من الساعة الرابعة عصراً وتنتهي في السابعة”.

أجاب أبو غريب :” لا يهمني هذا الترتيب ولست مضطراً الرضوخ إليه!”

بعد هذا الحوار الذي وصل الى طريق مسدود:

“بكل الأحوال يا جار ساعات اللعب في الساحة ستبقى كما هي! فمن الأفضل للصبيان وللفتيات  اللعب في ساحة العمارة تفادياً لمخاطر اللعب في الشوارع والأزقة والحارات!

أنهى أحمد الحوار قائلا “السلام عليك ورحمة الله وبركاته”.

بينما في أنتظار أحمد لمعرفة ما حصل لم يتفاجأ الأطفال من النتيجة….

“الواسطة تفشل في مثل هذه الحالات”.

في عصر أحد الأيام كانت سارة جالسة على المصطبة تطالع كتاب، وما يميز سارة عشقها للقراءة والمطالعة اعتقاداً منها بإن القرأة تزيد من ثقافة الفرد ويُستغل الوقت مع الكتب بشيء مفيد، وتُعرف القارىء على نماذج وخبرات جديدة، كما ان القراءة إبحار الى العالم والتعريف بالتاريخ والإرث والتراث. وتسنح لها فرصة التعرف على المؤلفين والشعراء من خلال كتابتهم وأفكارهم.

بينما هي جالسة مع كتابها، فإذا بسيارة أجرة تقف على باب العمارة وتنزل منها سيدة مُسنة، بينما السائق يساعدها بإنزال الحقائب.

خرجت الى فناء الدار وسلمت على السيدة التي كانت تسأل عن شقة إبراهيم، فخمنت سارة بإن إبراهيم لا بد أنه ” أبو غريب”.

خرج “أبو غريب” مرحباً بوالدته …بينما سارة وباقي الأولاد يساعدونها في حمل أمتعتها الى داخل الشقة.

“ماشاءالله، كم هم متعاونون أبناء هذه العمارة!”

رحبت الأمهات والفتيات بالزائرة الجديدة …تناوبن على رعايتها دون إنقطاع….. وقدمن لها الكثير من الهدايا…وأصبح هّم الجميع تسلية والدة “أبو غريب” والتأكد بإنه لا ينقصها شيئاً… من خلال جلوسها اليومي على الشرفة أصبحت أم إبراهيم صديقة لكل الأطفال!”.

كانت هذه علامة مهمة في العلاقة “أبو غريب” …وبدأت تأخذ مساراً آخر،  إن المعاملة  الحسنة لوالداته من قبل الجميع غيرت من طريقة تفكيره… فما كان منه إلا التجاوب مع هذا الواقع الجديد… وقام وأمه برد الزيارة للجيران… وأصبح يتكلم مع الجميع ويتفاعل مع كل نشاطات العمارة: ففي الأجتماع الدوري وفي اجتماع العمارة كان إبراهيم أي “أبو غريب” أول الحضور والتزم بقوانين العمارة… وشارك مادياً ومعنوياً بكل ما يُطلب منه.

خلال الإجتماع قال مخاطبا الجميع:

“فعلاً بإن الإنسان لن يستطيع العيش في عزلة عن من حوله…وأنا الآن سعيد بهذا التعارف بكم والأختلاط معكم”….

فرد أبو سليم: “إنت جارنا قبل كل شي… وتعاليم ديننا تنادي بحسن التعامل مع الجيران”.

نادى “أبو غريب” أحمد واعطاه الكرة  ودعاه لتناول كوب من العصير…

من يومها تصادق الاثنان واجتمعا على حب الخير والمساعدة من خلال تطوع “أبو غريب” في برنامج العمل التطوعي الذي يقوم به الشبان والشابات لمساعدة اللأجئين في المخيم… مهمتهم الأساسية إنسانية …. تساعد من تشردوا عن وطنهم…. عُرف من أم إبراهيم بأنهم لجوءا الى هذه المدينة بسبب الحرب الأهلية التي دمرت بيتهم؛ ومما دفعهم للخروج من ديارهم والأنتقال الى هنا بإن إبراهيم كان يعمل مدرساً في البلد الذي تركه ورائه ….حيث ضربت قذيفة على المدرسة ومات بسببها أحد تلاميذه… أمام عيناه ….ومن يومها أصبح غريب الأطوار… يكره النزاع المسلح … ويتضايق من الأصوات العالية…

وبما ان إقامته لن تطول في هذه المدينة [لأنه لا بد سيعود الى وطنه مهما طال الزمان]… لذلك قرر عدم الأختلاط مع أهلها.”

بعد كل هذا… بقيت هناك أشياء غامضة عن حياة جارنا وأسئلة دون جواب!…

أما لماذا لم يتزوج “أبو غريب”… وأين كانت والدته قبل ان تنتقل الى هنا؟ ولماذا لا يوجد عنده أسرة… لا زوجة ولا أبناء… وأين يا ترى باقي أفراد عائلته؟ … هل عنده  أخوات وأخوان؟

بقيت كل هذه التساؤلات مبهمة…ولغموض حاله بقي لقب ” أبو غريب” كما هو لم يتغير.

كل هذا ليس مهما، المهم  ثم الأهم… من كل ذلك…  بإن “أبو غريب” دخل دائرة الحب والتآخي وتآلف مع الجيران واندمج في المجتمع… يعامله الجميع بإحسان ولطف لحين عودته لدياره…!!! يتمتع بحسن الجوار…فبالكلمة الطيبة ومثابرة السكان تغير “إبراهيم”  – “أبو غريب” وأصبح واحداً منا!

مقالات ذات علاقة

أحمد ضياء يكتب عن مسرح الصدمة

المشرف العام

أزمة الفرد والمجتمع في روايات سناء الشعلان (بنت نعيمة)

المشرف العام

عاد السنونو

المشرف العام

اترك تعليق