صحيفة أثير إلكترونية
محمد الهادي الجزيري – تونس
مواضيع الكتابة شتّى.. متنوّعة ومتشعبة.. لكن أن تفتتح عزّة كامل المقهور مجموعتها القصصية التي تعتزم على نشرها في القريب العاجل.. ومنحتني نسخة فريدة تكريما لي..، فأن تفتتحها بموضوع حرج ومسكوت عنه خاصة في بيئة عربية.. هذا الموضوع هو العنوسة التي تعاني منها ملايين النساء…
القصة تتمحور حول امرأة بلغت من السنّ خمسين عاما ولم يخطب يدها أحد.. في حين أنّها مولعة منذ كانت صبية برجل.. والآن بلغ ستين عاما وما يزال أعزب..، ما شدّني في هذه القصة لغتها الواضحة الرقيقة الظامئة.. للحبّ والإنجاب والأمومة المؤجلة..، يا للعرب كم تموت بينهم أشجار.. وإليكم فقرة من” المربوعة” القصّة الأولى في المجموعة القصصية ”امرأة على حافة العالم”…
”تعاقبت الفصول على قلبها كما تعاقبت حولها، وذاك الحب الذي غزاها روحا وجسدا خف دبيبه في عروقها… لم يحيها فتح الله يوما، لم يمعن فيها النظر وهي التي تتزين وتلبس له، لم تتجاوز كلماته تحية الصباح التي يردها ولا يبدأها.. جف المطر على الأرض الجدباء، فاصفر العشب..”
من قصة ”السنفاز” وهو ”الفطايري” باللهجة التونسية.. قصة مكتوبة 6 جانفي 2013 تحكي لنا ما حدث في ليبيا من فوضى وقنص وقتل وغيره.. وقتل بائع الفطائر.. وتجويع أبنائه.. لكن هذه الفقرة مقتطفة من وسط القصة.. وتروي لنا الكاتبة كيف يموت الإنسان العربي ويُعزّى ويقايض دمه بملاليم وقفة من المؤونة وينتهي…
”تنصب الخيمة وتعلق الأضواء الكاشفة وتصف الكراسي البلاستيكية البيضاء ويعلو صوت شيخ ما وهو يتلو القرآن، وتفوح رائحة البصل والطماطم و البهارات ويأكل الحي بأكمله، وتوزع أكواب الشاي بأدوارها الثلاث ويقدم السفنز صباحا، تعقد الجلسات والصفقات ثم تفض بعد ثلاثة أيام، يتحصل السائق على تنازل من أهل المجني عليه ويطلق سراحه بعد أن يؤدي أهله على مدار الأيام الثلاثة واجب العزاء وإحضار بعض المؤونة.”
ثمّة قصة نجحت القاصة في تشبيه بطل الحكاية بقرن الفلفل.. فهو ميليشاوي انتهازي مخادع.. لا ينمو ولا يستطيع العيش إلا بين أفراد من شاكلته.. لكم غرّر بشباب ليبيا وقادهم إلى التهلكة.. سخر منهم وضحك عليهم.. إنّ الكاتبة شجاعة ومغامرة في التطرق إلى هذا النموذج الخطير.. خاصة في هذا الظرف الصعب.. وقد أهدت القصة ”إلى شباب ليبيا المغرر بهم في حروب بائسة…”
”شباب صغار في السن، عاطلين عن العمل، جمعهم من شجيرات عدة، وضعهم في إحدى الفلل الفخمة المهجورة المملوكة لرجال النظام السابق الفارين. اهتم بإطعامهم وعبأ جيوبهم، وتركهم في تلك الفلل معطلة عقولهم ومنتفخة أوداجهم وجيوبهم، والبنادق الاتوماتكية على أكتافهم.. كانوا يقتلون ويعيثون فساداً، بينما هو يتلوى ويتلون ويضحك..”
القصة الأخيرة بعنوان ”قشور الكاكوية” وهي مقارنة واقعية وحيّة بين عملية تحمير حبّات الكاكوية وبين استرخاء الجسد الإنساني داخل حمّام.. إنّه لعب بالكلمات مقرون بتبادل فقرات النصّ للأدوار فمرّة نتذوّق حبّة كاكوية ومرة أخرى نرحل مع آلام البدن وما عاناه من أوجاع.. فنكتشف في آخر المتن الشيّق أنّ جراحا كثيرة انتابت جسد أنثوي ولكن الجرحين البارزين للعين المجرّدة لهما علاقة بالحياة: ”لكنها تعلم أن جرح ثديها وهبها الحياة وجرح القيصرية وهب غيرها الحياة.”
فالكلّ له بالنار أو بمخدع النار.. حبّة الكاكوية في إناء ساخن إلى حدّ التلاشي.. وجسد يتقلّب فوق رخام حارّ.. حقيقة لا أجد تعبيرا أو وصفا لهذه القصة.. وشرف لي أن تكون كاتبتها سيدة ليبية مستنيرة ولها في فنّ القصّ ما تقول…
ما شدني في المجموعة صدقها ووضعها اليد على جراح كثيرة.. منها ما هو مطموس ومسكوت عنه.. وكم في مجتمعنا من ممنوعات ومحظورات خاصة على المرأة.. وكيف إذا كانت الأنثى كاتبة متمرّسة بالكتابة السردية ومهووسة بمشاكل المرأة خصيصا والمجتمع عامة.. لقد اختارت عزّة كامل المقهور المواجهة وليس في يدها غير قلم جريح.. يثير الشفقة والسخرية.. في مجتمع رجالي ينظر إلى المرأة كشيء ثانوي وتابع ”لسي السيد” لكنّها تقاوم وتفحم الجميع بقدرتها على الكشف عن جراحات كثيرة.. بثقة كاتبة لها باع وذراع في الكتابة السردية.