قصة

شهيقة ملعونة

بدأ كلّ شيء بالدّعوة. الامتحان، الخضم، القبول.

من أعمال التشكيلية خلود الزوي
من أعمال التشكيلية خلود الزوي

تحسّست سميّة اسمها المكتوب على بطاقة الفرح، غير مُصدّقة، مرّرت أصابعها مجدّدًا على الاسم المكتوب، ضحكت، أوراق دعوات الزّفاف خشنة كما يقولون عنها، جميلة، تلمع ومرصّعة بالزّخارف. “لا تفكّري بالأمر”، قالت الأم بنبرة مفاجئة، تظاهرت سميّة بالطّرش. استمرّت الأم: “أنسيتِ الذي كان؟ أأقصّ عليك نبأ الشّهيقة الملعونة؟ أيام لا ردّها الله، اذهبي إن شئت ولكن توقّعي العواقب التي أؤكّد لك أنّها لن تكون حميدة”، قالتها وهي تغمض عينيها بنفاذ صبر، وهكذا انتهى الحديث.

مضت الأيّام، زيّن فيها الجيران العمارة، أشعلوها بالأنوار، ذبحوا ذبائحهم، نصبوا خيمتهم وأوقدوا قدورهم، ركّبوا “عالات الشّاي” في الأماكن الأكثر حيويّة، جهّزوا الحلويات وغلّفوا “سوابيت الكساء”، عجنوا حنّتهم، وقرعوا الطّبول، اليوم ابن الجيران يتزوّج بنت الجيران، سعيدهم يحظى بسعيدته، والمنهم إذ يصير فيهم، وها قد عُقد الفرح بعد وابل من المصائب؛ لذلك قرّروا جميعًا أنّهم لن يبخلوا في فرحهم هذا بشيء، بذخوا كرمًا طائيًا من نوعه، يجعل من العرس مهرجانً محلّيًّا مصغّرًا، ناسيين نذير شؤمهم. “

“أيوا.. أيوا.. أيوا.. تِست.. تِست.. تِست.. واحد واحد.. واحد..”، لعلع وصلصل صدى صوت “الزمزامة” وهي تختبر المنظومة في الأرجاء. جفل الجميع، هذا نداء على أنّ السهرة قد بدأت، وها قد جنّ الليل وآن الأوان للطنّة والرنّة. تنافست الصّبايا في التجهيزات، كلّ واحدة فيهنّ زهرة البستان، وكأنّ كل فتاة في ذاك الجمع تعرف سرّها وكيف تبرزه تمامًا؛ ولكن… في الطابق المحظور، كانت جميلة ليست كمثلها جميلة في الحي تتجهّز، حوريّة من السّماء، كحيلة العينين، هيفاء القد، عذبة السنحة والصوت، لم تعدّ لطلتها كثيرًا، جهّزها الله من عنده، وكانت على وقار وأدب خاص، بارعة.

ظهرت سميّة من غرفتها، “وانشلّت” أمّها من الدّهشة، ابنتها الجميلة تحضر أوّل فرح، بخّرتها، سمّت بالرّحمٰن، وناولتها العين والخميسة. نبّهتها وعلى وجهها بوادر القلق: “لا تُطيلي النّظر في شيء طويلًا، بسملي، وصلّي على الرّسول إن أعجبك شيء، ولا تنسي يا ابنتي، لا تنسي أن ترحلي بسرعة إن طرأ شر، تعلمين عن أي شيء أتحدّث، لا تتركينهم يشتبهون بك”. نزلت سميّة باسمة، واثقة، الدّعوة تعني أنّهم يريدونها معهم، ويرغبون بها؛ ولكن وهي تهم بالدّخول سكبت أوّل عجوز لمحتها العصير في “حجرها” وتسمّرت كتحفة، الصّبية التي كانت “تعوّل” على الحضور وتوجّب النساء أوقعت القصعة السّاخنة من بين يديها مفجوعة، وشهقت إحداهن بما يكفي كي تصمت الموسيقى ويلتفت الجميع. حدّقوا طويلًا وكأنّه قد مغنطهم أحد، كان عيبًا أن يصمتوا هكذا فجأة في بيان صريح على رفضهم ودهشتهم، وقد جمعهم الطبل رغمًا عن أنف العصا، هذه المرّة في سكوت بليغ لا يقدره الكلام، يا للعار حين يتصرّف الكبار كالخدّج، يا للعار كيف جرحوا قارورة ضعيفة، وتهامسوا وهي تفرق الجمع همس يسّاقط في الأذن كالدّهائم: “ما الذي جاء بها؟ “ماااذا!” “كيف تجرؤ؟” “يا رب استرنا ويعدي العرس على خير” “قل هو الله أحد” “يا لطيف يا لطيف!”

اضطهدوها، رجموها بنظراتهم، همزوها ولمزوها وتطاولوا في الإثم أكثر حين كادت عجوز -تذكّرت أنّها ليست لوحة وتستطيع الحراك- ترعد كالصاعقة من الغضب أن تضربها. أرادت سميّة البقاء، بعد أن منّت نفسها بالبهجة المحرومة؛ لكنّها فرّت مكسورة.

سمعت العروس بالأخبار، نهضت تجري لتلحق بضيفتها التي لم يتوقّعها أحد، ولأنّ الحنّاء لم تصبغ في أقدامها بعد ولا وقت تنتظره فيها، ركضت العروس بدمّها الحار “تعفس” على السجاد، والبلاط الأبيض غير آبهة بشيء. إنّ الإهانة أقسى الحوادث، إذ لا ينجو منها أحد، تدهس كالشّاحنة، وتثقب كالخرطوش، وتفلق كالشّيتا، ولأنّها تعلم معنى أن يُهان أحد؛ ضحّت بحنّاء عرسها المهمّة ناسية كيف أكّد عليها العريس أن تكون داكنة زكيّة؛ علّها تلحق بما قد دمّره القوم الذي من دمها؛ لتصلحه وتوفّيه. لا آثار لسميّة – استنتجت العروس فورًا-، كان القوم في فوضى فظيعة، “يدقّلوا” كالنّار، وكن في دهشتهن ككمشة عذارى لا عجائز، وقد داهمهن رجلًا عاريًا ومجنونًا وليست حسناء صبيّة.

بكت سميّة، انتحبت طويلًا على رخام الدّرج البارد، وكان وراءها -وقد لحظه نفر وحيد- دون أن تدري دخّان العجلات، وآثار المكابح، وصوت الطلقة الغريق وهي تخرج من الجحر، استنتجت العروس: “حادث كبير يا ساتر”، ومازال الوقت مبكّرًا على التحمّد بالسّلامة، الإصابة ليست في الحديد، في الغالي يا رب الغوالي.

كفكفت سميّة دموعها على عجل، وانتظرت ما يكفي كي تختفي الحمرة، أنفها اللعين لا زال عازما على إفشاء الأمر؛ لكنّها أدارت المفتاح على أي حال ودخلت الشّقّة.

بوغتت بالسّؤال أوّل شيء: “ما الذي يفسّر عودتك سريعًا؟” لا شيء، فقط مللتُ الأجواء، “بعد عشر دقائق؟”، لم تجب سميّة. نهضت الأم من الكرسي قائلة: “حسنًا” ثمّ رفعت سبّابتها في وجهها: “ألم أحذّركِ؟ ألم أقل أنّهم لن يقبلون بنا؟ إنّنا كالمُهق بين العبيد، ننحدر من سلالة إبليس، شماعة يعلّقون عليها بؤسهم وسوء حظّهم، أكان عليك الذّهاب كي تدركي هذا أخيرًا؟ هاه؟ أكان حقًا عليك الذّهاب؟”. كانت رغبة الأم هي أن تحمي مشاعر ابنتها منذ البداية، ولكن ما الذي يقتل الفضول كالتّجربة؟ ولولا ذلك لما ابتعد الطفل عن برّاد الشاي وهو يتذكّر لسعته الحارّة كلّما سمع لفظ “أحّا”، تركتها تذهب لمرّة على الأقل، علّها تدرك كيف يصير الصّبر فناء، وأنّ منفاهم انتظار الفرج.

تنحدر سُميّة من عائلة معيانة، سميّة أبو عين كان اسمها، ولأنّهم ومتى وجدو في مكان قضوا عليه؛ حكمت عليهم نظرات النّاس بالعزلة، لم تحظَ سُميّة بطفولة طبيعيّة، رأت المسكينة الرّجل يُساق إلى القبر، والجمل وهو يساق إلى القدر، والجبل يستحيل إلي ربوة سحيقة، ولون الحياة وهو يسلب من الجسد، شهدت هذا بعينها، وكانت أمّها تردّد الصبر هو الفناء والانتظار هو المنفى، أحجية حياتهم، وقدرهم المقضي، كانت العائلة تكتفي بأفرادها اكتفاء الغرور، همّهم هم أدرى به؛ ولكن في لقاءاتهم السريّة صارت تنفجر المصابيح فجأة، ويحترق السّجاد، ويُصرع الأفراد في ما بينهم صرع الموت الذي قد لا يحاربه الدّعاء. وهكذا حُظر التّزاور بعد أن جرّبوا المساكين كل شيء؛ كارتداء النظارات الشمسيّة وعصب العيون، وصار كلّ فرد من عائلة أبو عين يخشى حتّى نفسه، ويخشون العين كما لا يخشاها أحد. إنّهم يقيمون “الحضرات” ويقيدون النّار للبخور أخماسًا مخمّسة “فاسوخ ووشق في عين من شهق” ويرتدون العين الزرقاء والخميسة والقرين ولا يتكلّمون إلاّ بالقرآن والذكر الحكيم. ومع ذلك تلك الطاقة ظلت على عنادها القديم ولم يسيطر عليها أحد، حارقة خارقة، مورّثة من جيل إلى جيل.

منذ أن اكتشف النّاس سرّهم، عافوهم، وخسرت سميّة أصدقائها جميعًا، وكان هذا العرس الوحيد الذي قد عبّرها فيه أحد وأقام لها شأنًا، وشعرت بفرحة لا تضاهيها فرحة وهي تنظر إلى اسمها على بطاقة الدّعوة “كريمة عائلة أبو عين، سميّة”.

عادت العروس لغرفتها؛ حيث من الممكن أن تحظى بالهدوء، إنّها تشعر بالذّنب، ها قد استطال مرود لطفها بشكل غريب، وراحت تسأل نفسها: “أعُمي ما عوّلت على تكحيله؟ أتراهُ مُطّ ما بيني وبين سميّة من عِشرَة طويلة -كذبًا- كأنف بينوكيو حين دعوتها؟، وهي تظن الآن أنّني أهزأ بها؟ أكان خطئي أنّني لم أمهّد لهم؟ سميّة التي قد نسوها لا زالت هُنا، أذكّرتهم بالذي مضى؟ أرميتُ عليهم الرّمد وسيء الأسقام؟”. فكّرت في شيء، وقبل أن تعزم على فعله، تأنّت، راجعت القرار، قوّمت بالقلم الأحمر، التأنّي وحده من يقلّم أغصان الأقدار، ويهذب ما تشابك من الأحداث، قبل أن تقع وهي تقع وبعد أن تقع أيضًا. ودون أن ينتبه لها أحد ارتدت العروس عباءتها فوق “الرّدِي” وهي ترتعد من الخوف تذكّرت الحادثة المشؤومة، كيف دهستها كلّ دُرْجة من درجات هذا البناء العتيق، وآخر مرّة زارت فيها سميّة. جلجل صوت سميّة في أذنها فجأة وهي تقول: “محلاه صندليك يا إيمان”، وكان هذا آخر ما سمعته قبل أن تفيق في المشفى، كُسِرت عظامها التي لم تجبرها الشُهور، وقال الطّبيب أنّها كادت أن توافي القدر. تذكّرت فجأة كيف صارت السّيرة علكة يلوكونها جميعًا، قرأت بسببها نساء الحي طالعهن، واستنجدت كلّ سيدة بسيدها المرابط القدير، وصارت الحادثة نكالًا لمن أراد القرب من سميّة، ورغم أن العروس إيمان كانت تعرف مخاطر ذهابها؛ إلاّ أنّها آثرت على الصّعود ودفعها مجدّدًا دمها الحار وهي تقول: “على أحدهم أن ينهي هذه المهزلة، على أحدهم أن يريهم أنّهم ضحايا أيضًا”. في الدّار، كانت سميّة تقاسي الويلات “هِئ هِئ هِئ هِئ”؛ الشّهيقة الملعونة تداهمها مجدّدًا، “هِئ هِئ هِئ هِئ”؛ مجدّدًا بعد سنين، “تلقّف” المسكينة، تستنجد الهواء، لو أنّ الناس يموتون جميعًا، لو أنّه لا يتحدّث عنها أحد، “هِئ هِئ هِئ هِئ” مجدّدًا، للأبد.

سمع طرق الباب، لم تُصدّق الأم أذنيها، طرقٌ أعلى وأشد، لم تُصدّق بعد، وتابعت لظم الخيط في الإبرة، فجأة اهتزّ الباب، وأدركت الأم أنّها لم تتوهّم، حوقلت وهي تنظر من عين الباب: “بسم الله الرّحيم، بَشَرِي من العوام أمام بيتي؟” قالت بصوتٍ قد سرقه الخوف: “من؟”، “جارتكم إيمان”، أجابت العروس بلهجة صارمة، “ماذا تُريدين؟”، “أن أحادث سُميّة”، لم تجب الأم؛ لذلك أردفت إيمان بأدب: “أعدك سأكون سريعة”، فتحت الأم الباب، ووجدت إيمان نفسها في “المربوعة” مواجهة لسميّة.

خيّم هدوء عكر، ضيّفت الأم فيه العصير، ودقّت الثّواني على الحائط بعنف، هدوء يجعل من الحبّة قبّة، ومن بلعة الرّيق كركرة نهر، ومن مقلتا العين الضّجرتين جرمان سابحان في المجرّة. وهكذا مضى وقت شعرت به الفتاتان أنّه طويل جدًا، بما يكفي كي تستفتيا قلبيهما، وتستذكر كلّ منهما على حدى صداقتهما القديمة، وبعد أن لاحظت إيمان أنّ سميّة تتجنّب النظر في عينها قالت وهي تميل شطر وجهها بلطف: “يا ربي! ورّيني ترا؟ بكيتي؟ أنفك يفضحك كما هو الحال”، وكما هو الحال لم تجب سميّة. قالت إيمان: “أعتذر، أعتذر عن ضيوفي الحمقى جميعًا”، أماءت سميّة رأسها علامة على القبول، “يمكنك الصّراخ، قولي أي شيء، اشتمي، سِبّي، أقسم بأنّني لن ألومك”، تشبّثت سميّة بصمتها المعتاد، صمت مستفز لا يطيقه أحد. ولأنّ فرائص إيمان كانت ترتعد لهذا البرود؛ قرّرت أن تفتح الدّفاتر وقالت في ثورة خشنة: “أتعلمين؟ لم تسأليني أبدًا عن رأيي في تلك الحادثة، أبعدتني عنك فورًا، بنيتي بيننا الحواجز، أتتذمرين الآن من وحدتك وأنت السبب فيها؟ تقرّبت منك، هاتفتكِ بعد أن تعافيت آلاف المرّات؛ لكنّك دفعتني بعيدًا، كان عليك سماعي على الأقل”، لا إجابة. “أتبكّمتِ لا سمح الله؟ يمكنك أن تُشيري إذًا وسأفهم!”. مضت لحظات، تحدّثت إيمان: “أردت أن أخبرك لسنوات أنّك أنقذتني، لقد أنقذتني، كُنت ذاهبة إلى مكان حيث وقعت شظايا، ماتوا جميعًا، وكان حتفي هناك، لو لم يعجبك حذائي، لو لا عينك لما كنت عروس اليوم، لما تعثّرت، وجرى ما جرى”. وفيما كانت إيمان تقدّم شُكرها الذي لا يُصدّق ولم يخطر في البال، كان وجهه سميّة وقتها لا يفسّر، لا يقرأه شيء، كود سرّي من الدّهشة والشّرود، أكان هذا حقًا ما هي عليه رُغم كل شيء؟ أنقذت عينها الشّريرة أحدهم؟ ودون أن يكون هناك وقت لأيّ شيء، أخذت إيمان سميّة من يدها ونهضت بها سريعًا، نظرت إليها وهي تقول: “لا عرس من دونك اليوم، أتسمعيني؟ جاءت بها على الملأ، “هذه ضيفتي” قالت، “أريدها في عِرسي، وانظروا ها هي يدي في يدها ولم يحدث شيء”. تحلّقوا حول الطّبل أخيرًا بعد أن استثقلوا الأمر، غنّوا رقصوا وصفّقوا. كانت الأمور عال العال، لولا مصباح كبير قد أعجب سميّة، انفجر المسكين فجأة على ترانيم الصّراخ كحادثة يتيمة، قالت إيمان وهي مطمئنّة: “الحمد لله جت في الرّيش”.

مقالات ذات علاقة

طفولة

غفران جليد

فَزَّاعِيَّاتٌ ( 2 ) قصصٌ قصيرةٌ جدًّا ..

جمعة الفاخري

النحوي وجحا والبحر

محمد دربي

اترك تعليق