.
آمال عوّاد رضوان-فلسطين
.
أقامت “إبداع” رابطة الفنانين التشكيليّين العرب حفلَ تكريم للأستاذ الشاعر عناد جابر، بمناسبة صدور ديوانه الجديد “عواصف الحنين”، وذلك بتاريخ 26-5-2012 في مقرّها في كفرياسيف، وقد حضر هذا الحفل التكريميّ عددٌ من المثقّفين وشخصيّات تربويّة وثقافيّة واجتماعيّة من جميع البلدان والمدن العربيّّة الجليليّة المجاورة من مريدي الشاعر، إضافة إلى شعراء وأدباء وأقرباء، فتخلّل البرنامج عدّة كلمات للسيّد عوني توما- رئيس المجلس المَحلّيّ، وللأستاذ جورج توما رئيس جمعيّة “إبداع”، ومداخلات نقديّة للكاتب والناقد د. بطرس دله، وللشاعر والناقد د. منير توما، وللشاعر والناقد جلال جافّ العراقي قرأتها عنه بالنيابة نادرة شحادة سكرتيرة الرابطة، وعزف على العود الموسيقار الفنان عماد دلال، وكلمة لد.منير موسى، وقراءات شعريّة للشاعر عناد جابر، وقد تولّى عرافة الحفل الكاتب محمّد علي سعيد، وفي نهاية الاحتفال تمّ تكريم الشاعر الأستاذ المُربّي عناد جابر بالورود والذرع التكريميّ .
تولّى عرافة الحفل الأديب محمّد علي سعيد، وجاء في كلمته: مساء الودّ والورد والنقاء، مساء الخير والشعر والصّفاء، أيّها الحضور الكريم والمميّز أهلاً وسهلاً بكم، في أمسية الحبّ الدافئة، أمسية التكريم الحضاريّة والدالة على أصالة شعبنا ووفائه واحترامه لأعلامه متمثلة برابطة إبداع، هذه الأمسية مكرّسة لأحد أعلام هذه القرية الطيّبة ممّن يستحقون التكريم والتقدير، فطوبى للمكرِّمين وطوبى للشاعر المكرَّم عناد جابر، وشكرًا للمشاركين حضورًا في القاعة أو على المنصّة، والشكر موصول لوسائل الإعلام ودوْرهم في تغطية ونشر الحدث بمهنيّة وموضوعيّة، لعلّ وعسى من خلال النشر الإعلاميّ أن تنتقل هذا الفعاليّات الأدبيّة الحضاريّة، وتكون العدوى بالأعمال الجيّدة، ناهيك عن دلالة المقولة “قدّمت تقريرًا ولم تفعل فعلت، فعلت ولم تقدّم تقريرًا لم تفعل”، وهذا المساء مساؤك أيّها الشاعر عناد جابر، هذه أمسية حبّ واحترام، أمسية إبداع شعريّ وإمتاع شعوريّ، وإصغاء مرهف وواع.
كفر ياسيف وشمس التداعي: ما الذي يحضرني متداعيًا بانثيال،عندما أسمع أو أقرأ هذه الكلمة “كفر ياسيف”. بداية، شخصيًّا أعتزّ جدّا بهذا البلد الطيّب وبأهله الكرام، وصدّقوني فلا أجامل ولا أُجمّل، ففيها درست المرحلة الثانويّة، وربطتني علاقة صداقة قويّة مع عريس الأمسية الشاعر عناد جابر، فقد كان أعلى منّي بصفّ، وعلاقاتي الطيّبة لمّا تزل معه ومع الكثيرين، كما وأنّي أزور القرية كثيرًا.
كفر ياسيف قلعة وطنيّة ومنارة ثقافيّة، إنّها النّور والنّار، نور منارة أضاء حياتنا وسلّحنا بالعلم وبالمعرفة، وتخرّج أكثر مثقفي شعبنا البارزين في الجليليْن والسّاحل من ثانويّة طيّب الذكر الخالد ينّي ينّي ومنهم: محمود درويش، وسالم جبران، ومحمّد علي طه، وعلي الظاهر زيداني وزكي درويش، وغيرهم من حملة الأقلام من خارج البلدة، وأمّا من أعلام حملة القلم الشعريّ، فلكلّ مقام مقال، والمقام للشعر، من كفرياسيف نفسها، فتحضرني أسماء المرحومين: حبيب شويري، سامي مزيغيت، سليم مخولي، جميل لبيب خوري، جريس أيّوب الخوري، وهو القائل في توديع الدّولة العثمانيّة: ودولةٍ لمّا سألنا ربَّنا التعويضَ عنها/ وفرحنا حين ولّتْ جاءنا أضرطُ منها.
ذهب الذين نحبّهم فلهم الرحمة، وبقي الذين نحبّهم فلهم طول البقاء، ومنهم الشاعر المحتفى به عناد جابر، أحمد الحاج، إبراهيم مالك، سليمان مرقس، رفول بولس، بسّام فرح، قسطندي مرقس، أسامة ملحم.
كفرياسيف نار قلعة وطنيّة، لم يقتصر وينحصر دوْر المدرسة الثانويّة على الجانب العقليّ فقط، بل وبتأثير الوعي الوطنيّ في كفرياسيف، ساهمت في بلورة هُويّتنا الوطنيّة التقدميّة، وليس من باب المصادفة أن تُعقد في كفر ياسيف مهرجانات شعريّة ومنها في 1958 مهرجان للشعر الفلسطينيّ، ومن شعرائه راشد حسين وفيها قال: اليوم جئتُ وكلنا سجناء/ فمتى أجيءُ وكلّنا طلقاء/ يا كفر ياسيف أردت لقاءَنا/ فتوافدت للقائِكَ الشعراء/ أسرى بهم كرم الجليل/ فأقبلوا فكأن ليلتهم هي الإسراء. وأمّا جورج نجيب خليل فقد قال: فإذا تندرَ بالثقافة مِعشرٌ/ شهد الجميع لها بطول الباعِ/ هوتِ المفاخرَ من قديم عهودِها/ علمًا ومعرفةً وحسنَ طباع.
ومَن منّا ينسى أو يستطيع أن ينسى المرحوم إميل حبيبي حين طلب من شعبنا قائلا: تكفرسوا، لقد صدّقتَ، فكفر ياسيف هي النموذج في الكثير من جوانب الحياة، وعلينا أن نتكفرس حقّا.
الشاعر عناد جابر صديق عزيز منذ المرحلة الثانويّة، أوّل ما يتداعى من الماضي الذي يعانق الحاضر، عناد لاعب كرة القدم الفنان والمراوغ ومبتكر الحركات، ولا يمكنني أن أنساه عندما وقف على يديه وصدّ الكرة برجليْه، لقطة لصورة ما زالت مغروسة في ذاكرتي وكأنّي أراها الآن، كما وأذكر أنّي طلبت منه ومن ابن صفّي أنطون قبطي أن يلعبا مع فريق البعنة في مباراة حاسمة، وطبعًا لبّيا طلبي واحتفلنا بهما في نادي الفريق في قرية البعنة.
أصدر عناد ثلاثة دواوين شعريّة وهي: “ربّما في الرّحلة القادمة عام 1995″، و”نقوش على وجه الضباب” عام 2000، و”عواصف الحنين” عام 2011، وهذه المسافة الزمنيّة بين كلّ ديوان وآخر، تقول إنّ شاعرنا يسير بخطوات غير متسرّعة، ولكنّها مدروسة نحو الشعر الصافي، وقراءة متأنّية لشعره من البداية حتى الآن ترسم لنا خطّا بيانيًّا، يسير بصورة عموديّة أكثر منها أفقيّة، في المبنى وتقنيّاته وأشكاله، والمضمون وتفريعاته ومرجعيّاته: فمن الدلالة المباشرة إلى الدلالة المجاورة بحذر، ومن الصورة النثريّة الروحيّة البسيطة، إلى الصورة المُركّبة المتراسلة الحواسّ مع انفراج أكثر في زاوية الخيال، ومن تراكيب الجملة الانشائيّة التقليديّة إلى التراكيب المبتكرة والخارجة عن المألوف النحويّ، ومع ذلك فإنّ شاعرنا لم يقع في مصيدة حداثة التقليد الأعمى غير الناضجة؛ بسبب البوْن الشاسع حقيقة بين الواقع المعاش والتعبير عنه، أو بين الصدق الحياتيّ والفنيّ، وحسنا فعل، وكأنّي به يُردّد ما قاله أحد الشعراء: صديقي كلّ ما فيه جميل/ ولكن في محادثتي خبيث/ يُحدّثني فلا أفهم عليه/ كأنّ حديثه شعر حديث.
لقد بقي شاعرنا يعزف في مكان التماس بين التلميح والتصريح، ولأنّي لست من مُقدّمي الملاحظات النقديّة، سأكتفي بفقرة كتبتها من باب رصد الإصدارات في محور بانوراما في مجلة الشرق التي أرأس تحريرها: جاء في إهداء ديوانه: “إلى زمن غير هذا الزمان، وإلى وجوهٍ عصيّة على النسيان”، ودلالة هذا الإهداء تؤكّد بأنّ الشاعر يكتب وعينه على المستقبل الذي سيأتي ليكون أجمل، وقديما قيل: كلّ شاعر نبيّ وليس كلّ نبيّ شاعر، فلدى الاثنين رغبة في الإصلاح ووسيلتهم الكلام.
قصائد الديوان غنائيّة جميلة وراقية تثير فيك الدهشة، فتحرّك فيك المشاعر لمضامينها الحياتيّة وأسلوبها السهل الممتنع، لتدفّقها العفويّ والسلس وتشبيهاتها المبتكرة، وهذه الروح الشعريّة الشفافة الدافئة كمطر القلب، تتنفس في جميع القصائد تقريبًا، ترتفع بنا قصائد الديوان – ولو قليلا- عن مرارة الواقع الحاضر إلى واقع مستقبليّ أجمل، أو تحاول أن تُجمّل الواقع ليساعدنا في تحمّله، وفي الحالتيْن تشعر بالراحة النفسيّة بهمس القصائد، وتعتقد بأنك أنت قائلها، فتتقمّصها، وفي أعماقك تشكر الشاعر وتُغبّطه.
عناد صديقي الصادق الصدوق، قالت العرب: لكلّ مسمّى من اسمه نصيب، فالاسم عناد= عين ونون وألف ودال، فالعين-ع: علو في الشمائل وفي المقام وعفو عند المقدرة وعذر لمن أخطأ، وعمق في المعرفة وعدل في القرار وعذب في الشعر وعزة نفس وعطاء بلا حدود وعصاميّة، والنون- ن: نور يضيء عتمة الأمّيّة الحرفيّة والفكريّة والجهل الاجتماعيّ، ونار يساهم في بناء الهُويّة الوطنيّة، ونبع عطاء لا ينضب والألف- أ: أخلاق حميدة إحساس شاعر مرهف وآداب في التعامل وإصرار على النجاح، إيمان بانتصار الحق، احترام الذات والآخر، والدال- د: دماثة في الأخلاق ودعاء صادق لكلّ الناس ودليل هدي للضائعين، دؤوب في العمل.
وكانت كلمة للسيّد عوني توما- رئيس المجلس المَحلّيّ، تفابع العريف يقول: لا يمكن لهذا الكمّ من الفعاليّات الثقافيّة من تكريم للأدباء وللفنانين وعقد الندوات الثقافيّة، بدون مباركة قوليّة ورعاية فعليّة من رئيس المجلس، الذي هو دلالة إلى مناخ البلدة، الرئيس الممتدّة يده لكلّ عمل ثقافيّ والمفتوح قلبه لكلّ نقاش بنّاء.
وكانت كلمة للمربّي الفاضل المعلّم والمُرشد السيّد جورج توما رئيس رابطة إبداع، فتابع العريف يقول: إبداع رابطة الفنانين التشكيليّين العرب تؤمن بالأعمال أكثر من الأقوال، وتقوم بترجمة المشاريع والفعاليّات تطبيقًا واقعيًّا وليس بصياغتها شعارًا وإعلامًا، وفعاليّات رابطة إبداع هي تطبيق صادق لقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله ورسولُه والمؤمنون)، جاء في الآية الكريمة “وقل اعملوا وليس وقلْ قولوا وحدّثوا وانظروا و”. بدأت إبداع في الاهتمام بالفنّ التشكيليّ على أنواعه، ولكنّها في المدّة الأخيرة اقتحمت وبكفاءة مجالات إبداع أخرى وخاصّة الأدب، وأخذت على عاتقها تكريم أعلام الإبداع وهم أحياء وهذا مهمّ جدًّا، فليس من المعقول أن نُكرّم الأعلام بعد وفاتهم، فكلمة إطراء يسمعها المبدع في حياته أفضل من كتاب إطراء بعد مماته كما قال فولتير. وقيل: اُذكروا محاسن موتاكم، وأضيف: ومحاسن أحيائكم أيضا. وقال الشاعر: يهوى الثناءَ مقصّرٌ ومبرزٌ/ حبّ الثناء طبيعة الإنسان.
هذا النشاط الجادّ والجيّد والمتواصل الدائم كخليّة النحل لا يأتي من كسل وفراغ ونيّة حسنة، فالنوايا الحسنة لا توصل إلى الجنة، وإنّما يتجسّد واقعًا بفضل هيئة إداريّة واعية ومتعاونة ومتحابّة، ترى فيما تقوم به رسالة وطنيّة حضاريّة، وهذه السفينة لا بدّ لها من ربّان يقودها بحكمة ودراية كي تبقى مُبحرة بثقة ونجاح.
وفي حديث العريف عن د. بطرس دله قال:
إنّه أستاذنا جميعنا تقريبًا، يتابع الحركة الأدبيّة بتفاصيلها، ويقرأ كلّ ما يصل إليه وينشر قراءاته في الصحافة المحلّيّة، يُربّت بأبويّة مُشجِّعة على ظهر الأدباء، ويُخبرهم شفويًّا برأيه الصريح والقاسي أحيانًا كثيرة. إنّه جملة استثناء في جميع النصوص الحياتيّة، في نصّ التعليم فقد كان مُعلّمًا مميّزًا كان مُعلّمًا للحياة، وفي نصّ التقاعد لا يهدأ، فيوميّاته طافحة بالمواعيد من عرافة أو محاضرة أو حضور أو تنسيق ولا تنتهي، ولا أجدّد لكم شيئًا إن أخبرتكم عن مميّزاته أو تخصّصاته أو سعة معرفته، إنّه الكلّ في واحد كما يقولون في الإنجليزيّة، ومحبّة وتقديرًا قمنا في مجلّة الشرق في تخصيص عدد كامل تكريميّ وتوثيقيّ له، وقد أجريت معه مقابلة شاملة كشفت فيها الكثير ممّا لم يكن معروفًا بالعام، وهو يستحقّ وأكثر، وفي نقده يحاول أن يضيء ضبابيّة النصّ بقراءة ما بين سطور النصّ أو وراءها؛ ليقدّم للقارئ صفات النصّ ومضامينه، إنّه الناقد والمؤرّخ والشاعر (رغم أنه لا يعترف بذلك).
تحدّث د. بطرس دلّة عن عواصف الحنين شعر الشاعر عناد جابر فقال: أعرف قصائد وشعر تلميذنا سابقًا وزميلنا في التعليم لاحقًا، عندما كنت أراجع بعض محاولاته، وكان طالبًا مميّزًا في المرحلة الثانويّة، وأعرف أيضًا أنّ والده كان إنسانًا مُطالعًا من الدرجة الأولى، وللحقيقة أقول أنني لم أره مرّة إلاّ وكتاب في يده، والشعر عند الأستاذ عناد تطبيق لفكر فلسفيّ وإيمان خاصّ طوّره من خلال تجربته الفنيّة بالكتابة وفي التعليم والمطالعة، وأن يكتب من خلال وعيه الخاصّ للأمور التي يعالجها، فذلك عمل فنيّ يعكس الظروف التي يعيش في وظيفته الحاليّة كمدير للمدرسة الدرزيّة الشاملة في يركا، وكذلك وعيه لِما يعيشه ويُعانيه يكون المقياس المُطلق في الوجود.
إنّ معظم ما كتبه شعراؤنا باللغة العربيّة فيه الكثير من الاستغراق في عبثيّة الوجود والتغنّي بالقضيّة العربيّة، من هنا فقد جاء الشعر العربيّ الحديث تاريخًا لثورة شاملة في الفكر السياسيّ والمجتمع، فجاء هذا الشعر تفجيرًا لرموز الحضارة الانسانيّة الراقية واندفاعها الصارخ العنيد، من هنا نستطيع أن نفهم أنّ الثورة العربية لم تبعد عن الشعر بل بالعكس، فقد شملت الشعر كأوّل عنصر إبداع في متناول اليد، وهكذا مع مرور الزمن تغيّرت مضمونات الشعر العربيّ الفلسطينيّ، فاستبدل المديح والرثاء بالفكر المعاصر الإنسانيّ والواقع، فبات يهتم بتشخيص هموم وأوجاع ومستقبل هذا الإبداع، إلاّ أنّ الثورة في الشعر لم تأخذ اتّجاهًا أيدلوجيًّا واحدًا على صعيد المحتوى، بل اكتفت بمثل هذا الاتّجاه على سبيل السياق التقليديّ للقصيدة، من حيث الأوزان والقافية، وهكذا حتى الآن ظهرت عشرات القصائد الحماسيّة العنتريّة، والتي تصف البطولات على طريقة الشعر، على رأس شعراء هذه المدرسة يقف أدونيس، الذي جاءت قصائده الأولى عابقة بالحنين إلى فردوسه المفقود أوّلاً، ولكن هذه المرحلة لم تطُلْ فانتقل إلى تقديس الجَمال المُطلق وتقديس المرأة وتمجيدها، كما فعل نزار قباني في مجموعاته التسع، ولكن هذا المنحنى تغيّر أيضًا، وجاء مكانه الاتّجاه القوميّ العربيّ الذي تَمثّل بالواقعيّة الاشتراكيّة، كشعر سليمان العيسى، ويوسف الخطيب، ومحمد الفيتوري، ومعين بسيسو.
في هذا الخضمّ الهائل مِن التطوّر ظهر شعراء مثل هارون رشيد، وفدوى طوقان، وخليل حنّاوي، وصلاح عبدالصبور، فجاء شعر هؤلاء مرتبطًا بالوجود والواقع، ولكن ليس خطابات سياسيّة كما قد يدّعي البعض من خلال الحديث عن الشعر المُلتزم. بعد مرحلة الالتزام هذه تخلّصت القصيدة العربيّة الحديثة من المواطن القوميّة الحماسيّة التقليديّة، والعناصر الضروريّة القبليّة كالغزل والرثاء والمديح، واندفع هذا الشعر نحو الواقع الحيّ، ليرصد تأمّلات العقل الحديث، ولم تعُدْ مُهمّة الشاعر أن يبكي على الأطلال ويتغنّى بالأمير ومُعجزاته لاستجداء المال، إلاّ أنّه تحوّل إلى إنسان ذي رؤى حضاريّة، وامتدّت مسافة المعاناة والعذاب الداخليّ والحنين ضمن التجربة الشعريّة الذاتيّة الواجدة، لتنتقل إلى تفجير إيقاعيّ لرموزنا الحضاريّة.
هكذا أصبح الانقلاب الشعريّ الحديث انقلابًا عالميًّا، وقفز الشعراء من مرحلة الإبداع الرومانسيّ إلى الشعر الحضاريّ الراقي والوافي، وشاعرنا في هذا الديوان ينتمي إلى هذا الرعيل من شعراء الواقع الحضاريّ، مع أنّه في دواوينه السابقة كانت لديه مسحة عنتريّة حماسيّة، حيث يتغنّى بالبطولات المُحبّبة إلى قلبه، فيجيء شعره كمن يدقّ طبول الحرب في أرض المعركة، وعندما كتبت مقالة سابقة عن ديوان الشاعر عناد جابر “نقوش على وجه الضباب”، قلت إنّ الشعر لديه ملجأ يلوذ به كلّما ادلهمّت الأمور وضاق ذرعًا بالدنيا، فيبحث عن متنفس له في الشعر، شأنه في ذلك شأن كلّ الشعراء المجيدين، واقتبست هنا من ص 7 في مطلع ديوانه بعض قصيدة يقول فيها: “أخربشُ ما تجود به القريحة/ وأمزجُ كربة الشعر الجريحة/ وأسكبُ أدمعي حبرًا زلالا/ يُخفّف وطأة النُّدَب القبيحة/ وأرسمُ زقزقات الروح شعرًا/ وأرصدُ كلّ شاردة مليحة/ وأجرع من دنان الشعر خمرًا/ فيُغنيني عن الدنيا المشيحة/ وأنقش ما تُسطّره الليالي/ على صفحات أحلامي الذبيحة”.
إذن؛ إنّه يُردّد الكلمات ذات الجَرْس الواضح، والتي تُشير إلى الجبروت والقوّة الجسديّة التي يتمتّع بها الشاعر، ويُثير مشاعر القرّاء وجمهورَ السامعين عند إلقائه لشعره. شاعرنا في هذا الديوان مختلف عنه في دواوينه السابقة، فأيامه االحاليّة تشتعل بالحزن والدم، وهو يجمع بين صوت النبيّ وصراخ السجين، بين صياح الملايين البائسة في ساحات الشهداء في ميدان التحرير، وبين مخالب التنين الحكوميّ التي تقطر بالدم، ويشتدّ التناقض وتتوتّر حدّة الصراع عندما يجوع ملايين الفلسطينيّين. إنّه يتمزّق تجاه الذات حين تعبره اللعنة لارتكاب الخطيئة التي لم يرتكبها هو، إنّما يتوقّع الانسجام ضمن التمزّق والوحدة من خلال التشابك والتوافق عبْر الفوضى، وستتوحّد تجربته ديالكتيكيًّا في رؤيا حدسيّة متفاعِلة.
إنّ عالم شاعرنا عناد جابر هنا هو عالم الغربة والتحوّل والصيرورة، فهو بحدسِهِ يخترق المجهول، وهو كإنسان سيسافر أبدًا في جنّة الرماد، وسيبني جُزرًا من الوهم. هكذا نجح الشعر بعد عام 1948 في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة، وهو ما زال يعمل في نفس السرداب، ولكن بتفاوتٍ حسب عالم الشعراء. إنّ الكلمة لدى شاعرنا هي وسيلة التفاهم والتواصل مع الآخر، وهي عند الأستاذ عناد جابر جسر الخلاص بكلماته الروحيّة وشمس الانبثاق. الشاعر عناد جابر يكتب الشعر الكلاسيكيّ ويعشق الحرّيّة مِن أجل الإبداع، إلاّ أنّه يكتب قصيدة الحزن حين يتعاطف الناس معه، فالوضع عنده حيث يعمل مديرًا للمدرسة الشاملة غير مريح، ولذلك فإنّه بحاجة ماسّة إلى دعم من كلّ الفئات في الساحة التعليميّة، فيشعر أنّه وحيد ولا مُعينَ له، فيشكو بمرارة مِن وضع يعاني فيه كلّ المعاناة، وحتّى الدموع فلا أمل له فيها ولا استجابة لندائه، لأنّ طعم الملح فوق الجرح، وقد سدّ الظالمون عليه منافذ الهواء فهو يكاد يختنق، كما في قصيدته “الجنّة الضائعة” ص 115 حيث يقول: “وحدي/ وعتم الليل يَسبح في دمائي/ وحدي/ وأمشي هائمًا/ ومُشرّدًا/ وحدي في وحشيّة البيداء/ غاب القمر، وتهافتت جند الظلام على سمائي/ فُكّي قيودَك يا دموعُ/ وحدي/ صفحات ضدّي/ كيف ضاع رجائي/ خبّريها/ كيف ارتدى ثوب الأنين غنائي”.
بعد هذه القصائد الحزينة التي ذوّبت مشاعر شاعرنا، وحوّلته من شاعر الثقة بالنفس وشاعر الحماس والعنتريّة إلى إنسان شاكٍ كثير الشكوى، إلاّ أنّه لم يَنسَ أنّه إنسان عاشق، والعشق لا يرضى مواقفَ الذلّ والشكوى إلاّ ممن يُحبّ ولاءً من صدّ الحبيب، لذلك نجده في القسم الثاني مِن هذا الديوان يتحوّل إلى شاعر غزل، فيكتب الغزليّات الرقيقة حيث تلفت الانتباه قصائده التالية، التي تدور حول موضوع الغزل الشفّاف، فإذا شكا الحبيب من أنّ عطر شاعرنا ظلّ مُقيمًا على صدر المحبوب، فذلك لأنّه يهوى التقرب من المحبوب، ويهوى احتضانه وتقبيل صدره فيفضح أمره، عندها يتحوّل حبّه إلى جنون، وهو درجة أبعد من الحبّ والعشق، فالمحبوب هو بؤبؤ العين ونبض القلب وشاغل الفكر بقوله ص 33: “وأنتَ الذي كنت بؤبؤ عيني/ وللقلب نبضًا وللفكر رائدا/ وهبتك عقلي وروحي وحبّي/ فكانوا عليك سلامًا وبردا/ وكنت لقلبك دفئًا وأنسًا/ وللرّوح مِسكا وخمرًا وسهدا”.
ومع كلّ هذا التماهي والتضحية من أجل المحبوب يُتابع شاعرنا غزليّاته، ولكنّه يفقد في بعضها الجَرْس الموسيقيّ، فتبدو بعض هذه القصائد متحيّرة لا جَرْس فيها، وتبدو نثرًا شعريًّا لا كالشعر الذي عهدناه لديه في معظم قصائده، حتى في قصائد المناسبات، فيقول في قصيدة أُؤنّب قلبي ص 37: “أُؤنّب في الهوى قلبي/ فيُبدي ندامته/ ولكن لا يموت/ أُجرّعه الدواء/ لكي يعافى/ ويشفى/ في جوانبه الندوب/ وأُحصّنه المناعة والتصدّي/ ليطرد كلّ زائرة/ تلوب/ وأحسب أنّي حصّنت قلبي/ فلا تغشاه شائبة تشوب/ وأقفل بابه/ برتاج عقلي/ وأتركه/ بحرقته يذوب/ وتعصف/ من نواحي الغيب ريح/ فتفتحه/ وصاحبنا يؤوب”.
إنّها قصيدة النثر ولو أنّ الشاعر حاول أن يُقفّيها كي تبدو شعرًا موزونًا مُقفّى، ولكن عندما يتسلّل الموت إلى عالم الشاعر ليغتال الأصدقاء والزملاء المُعلّمين، ويَذبح الحبّ ويُلاشي الأحلام الجائعة، سيصرخ شاعرنا صرخة الألم على فقد مَن يُحبّ، مُنفعِلاً بهذا الفراق الذي لا يرحم والذي يذهب بالأحبّة إلى المجهول، فهو يُؤمنُ أنّ الإخوة الزملاء الذين نُحبّهم هم أسرع الناس إلى الرحيل، فيصرخ متسائلاً: “لماذا يُغيّب الموتُ الأحبّة قبل الأوان بأوان؟”
الشاعر عناد عندما يرثي الشيخ فريد حسن صالح، يتفجّع أسًى ولوعة على فراقه فيقول ص 84: “تذوب القلوب أسًى والتياعا/ ويهمس دمع العيون وداعا/ وفي كلّ عين سؤال تبدّى/ أَصَرْحُ الثقافة حقّا تداعى”.
هكذا تبدو تجربة الانسحاق التامّ والتلاشي في ضراوةِ وإيقاع الموت اللاّإنسانيّ، حيث يقف الشاعر أمام العدم المطلق الذي يُحطّم أحلامه، فتتحوّل إلى انعكاس لفقدان مأساويّ يعيش في ضمير الشاعر، هكذا تُعانق اليأس والثورة الصامتة مع الغزل، والحبّ الرائع مع البكاء على مَن مات ولن يعود، فجاءت قصائد القسم الأخير من هذا الديوان انسحاقًا وتوجّعًا وانهزامًا مأساويًّا جادًّا مِن جهة، وتفجُّرًا ليس فيه ثورة إنسانيّة من جهة أخرى، فامتزج الحُبّ بالنقمة بالعذاب في هذا الديوان، كما لم يمتزج في ديوانيْه السابقيْن: “ربّما في الرحلة القادمة” و”نقوش على وجه الضباب”، فيعزف سيمفونيّة الحزن الإنساني المُرتعِش في حشايا الروح والقلب معًا، فتحيّة خالصة نُزجيها لك أيها الصديق عناد، وإلى اللقاء في الديوان القادم.
ويقول العريف محمّد علي سعيد عن د. منير توما: إنّه صاحب الكلمة الأنيقة والراقية شاعر اللغتيْن العربيّة والإنجليزيّة، نالَ جائزة عالميّة تقديرًا لشعره في الإنجليزي، كما أنّه حصل على جائزة الإبداع في الأدب العربيّ المَحَلّيّ، فأصدر عدّة دواوين شعريّة، ويكتب النقد الأقرب إلى الحداثة إن صحّ التعبير، وصدر له كتابان في النقد، وعندما يتحدّث يسترسل وتتناسل مواضيعه، ولكنّها في إطار الحقل الدلاليّ الواحد، وكأنّه يقرأ لك من عشرات الكتب، إنّه مكتبة تسير على قدمَيْن. وإذا كان اهتمام أكثر النقّاد ينصبُّ بإضاءة النصّ وتفسيره والكشف عن مضامينه وتشابك علاقاته ببعضه البعض، فإنّ الناقد د. منير توما يغوص في دهاليز النصّ وعتماته، ومن خلالها يصل إلى أغوار الشاعر نفسه، ويقف على الأسباب الكامنة وراء أسلوب النصّ ومضامينه، وبالتالي يقف الناقد على تحليل سلوك الشاعر، غيره من النقّاد أجابوا عن السؤال ماذا قال الشاعر وماذا أراد، ولكن د. منير يجيب عن السؤال: لماذا قال وماذا أراد الشاعر من نصّه؟ وما هي دوافعه التي أدّت الى ذلك؟ إنّه نقد حداثي يغترف كثيرًا من مدارس علم النفس كفرويد وأريكسون وآنا وموسلو ويونج وغيرهم، ناهيك عن اطّلاعه الواسع على النظريّات النقديّة الحديثة، ويساعده في ذلك كثيرًا إتقانه للغة الإنجليزيّة.
وفي مداخلة د. منير توما بعنوان النبرة الشعرية الدافئة عند الشاعر عناد جابر:
” عواصف الحنين”مجموعة شعريّة، تقع في 120 صفحة من الحجم المتوسّط، وتشتمل المجموعة على 38 قصيدة متعدّدة المواضيع والأشكال، بالإضافة إلى بعض الدراسات النقديّة والقراءات الاستعراضيّة التي تناولت إصدارات الشاعر السابقة، ويُهدي الشاعر ديوانه إلى “زمان غير هذا الزمان” وإلى “وجوه عصيّة على النسيان”” قدّم للديوان الدكتور منير توما مشيرًا إلى الجوانب الجماليّة والرومانسيّة في القصائد، وإلى التأرجح بين مشاعر مختلطة من اليأس والحزن والفرح والحُبّ والتطلّع إلى التجدّد والانطلاق، وهذا هو الإصدار الثالث للشاعر بعد ديوانيْه السابقيْن: “ربّما في الرحلة القادمة” 1995، و”نقوش على وجه الضباب”-2000
نحن أمام شاعر شفّاف، كلّما توغّلنا في رياض قصائده الغناء، هذه القصائد القصيرة في مجموعته، وكان الشاعر الأستاذ عناد جابر قد أهداني مجموعتيْه الشعريّتيْن اللّتيْن كان قد أصدرهما قبل أكثر من عقد من الزمن، حيث ارتأيت أن أكتب مداخلة موجزة عن هاتيْن المجموعتيْن، فإنّ قصائد هاتيْن المجموعتيْن، والتي تحمل الأولى منهما عنوان “ربّما في الرحلة القادمة”، والثانية “نقوش على وجه الضباب”، تدلاّن على موهبة شعريّة دفّاقة يتمتّع شاعرنا بها، وذلك من خلال اهتمامه بالإتيان بصور فنّيّة واضحة المعالم، صريحة المعاني بعيدة عن الغموض، ممّا يُتيح لقاعدة واسعة من القرّاء أن يستمتعوا بهذا الشعر السلس ذي الألفاظ الجزلة، والمعاني الشفّافة بروحها وإيحاءاتها الفكريّة والفنّيّة.
يتّضح من قصائد المجموعتيْن أنّ الشاعر عناد جابر هو نموذج للشّاعر الذاتيّ والشاعر الغَيريّ في آن واحد، مع أنّ عواطفه العامّة تغلب أحيانا عواطفه الخاصّة، ومع ذلك فلا نزال نطّلع على جوانب من هذه العواطف الخاصّة عنده، على نحو ما نرى في شعره الذي يُصوّر فيه مشاعره نحو أمّه ومحبوبته، فله في أمّه قصيدة بعنوان “أمّاه” من (المجموعة الأولى: ص 34، 41) حيث يقول:
“يا نداء/ في دمي يجري صداه../ يا عبيرًا/ عطر الدنيا شذاه/ أنت نبراس بدربي/ كم هداني بسناه!/ يا ملاذي في شقائي/ وهنائي في الحياة/ إنّ سؤالي ورجائي/ ودعائي في الصلاة/ أن تلاقي كلّ خير/ وتعيشي في رفاه/ وتدومي في فؤادي/ كوكبًا تزهو ضياه”.
والشاعر الذي ينبض قلبه بمثل هذه المعاني والخواطر، يمكن أن يُقال عنه أنّ عواطفه سائلة وهي عواطف رقيقة رقة شديدة، وهنا نرى أنّ ركني الخيال والموسيقى الواضحة في شعر عناد جابر في هذه القصيدة، يسندهما ركن ثالث هو ركن العاطفة، كما يتجلّى في قصيدة “بعيدة” من المجموعة الأولى ص 16- 17:
“حبيبتي الوحيدة؛/ أنت قريبة.. وألف بعيدة/ أنت على شفتي أغرودة/ أنت أنا.. وأنا أنت/ جسدان لروح شرّيدة/ أنت معي/ في داخل قلبي موجودة/ أبحث عنك.. وحين أجدك/ أتأكّد أنّك مفقودة!/ وتظلّين بعيدة!!”
لقد قلنا إنّ عناد جابر بالإضافة إلى كونه شاعرا ذاتيًّا هو شاعر غَيْريّ، فهو يحلم بالعالم من حوله وأحداثه وحقائقه، ولا يحلم بنفسه فقط، ولا يتّجه إلى وصف ما يجري في سراديبها المجهولة، لأنّه يرى نفسه أن لا يكون شاعرًا نفسانيًّا، مع أنّه لا يُخرجُ شعره من عوالم النفس الممتازة أو الخاصّة، ولا يُجرّده من رسالة له في الحياة، إنّه يندفع في غيريّته تلك، ويؤمن بمثاليّة خُلقيّة يعنى بالدعوة لها في شعره، كما يؤمن بضرب من النقد الاجتماعيّ يُذيعه في قصائده، ففي قصيدة “المجد لكم” من المجموعة الأولى: ص 86- 87 يقول:
“المجد لكم!/ يا كلّ المصلوبين/ على أعواد الصبر/ يا كلّ الملدوغين/ بناب القهر/ المجد لكم!/ يا كلّ المنسيّين/ على أرصفة العصر/ يا كلّ المسحوقين/ المشتاقين لنور الفجر/ المجد لكم”.
وفي قصيدة “دعي البكاء” من المجموعة الأولى يُخاطب الأنثى حاثًّا إيّاها على الصمود والتحدّي كي تنال حقوقها ص 52- 53: “لا ترضخي لتسلّط، لا تقبلي/ بتحكّم المتجبّر المأفون/ درب الكفاح طويلة وعسيرة/ إيّاك أن تستسلمي وتهوني”.
وإذا قلنا إنّ عناد جابر شاعر غيريّ أيضًا، فليس معنى ذلك أنّنا نُجرّده من عواطفه أو من شخصيّته، وإلاّ كنّا كمن يُجرّدون الموسيقيّين من عواطفهم وشخصيّاتهم أثناء تأليفهم لقطعهم الموسيقيّة، وهذا يعني أنّنا لا نخرج شاعرنا من عوالم الشعر الحالمة، كما نلمس في المقطع التالي من قصيدة “حالة ضعف” من المجموعة الأولى ص 70: “امام سحر عينيك/ أفقد كلّ شجاعتي/ أسقط عن صهوة الجواد/ رافعًا رايتي البيضاء”.
إنّ الألفاظ هي المادّة التي يصوغ الشاعر تجربته الشعريّة من خلالها، ويُعبّر بها عنها، وهي في هذا بمثابة الألوان بالنسبة للرسّام، وهي مثل النغمة بالنسبة للموسيقيّ، من خلالها يُصوّر لحنه ويُعبّر عمّا يُحسّ به، وهكذا الألفاظ في التجربة الشعريّة يستخدمها شاعرنا، لينقل بها أفكاره ويُعبّر عمّا يُحسّ به، وهذه الألفاظ يُوظّفها شاعرنا من خلال إحساسه وموهبته وحسّه اللغويّ، فالكلمة في قصيدة “طوفان” من المجموعة الأولى لا تستمدّ إيحاءها من نفسها، وإنّما تستمدّه من السياق الذي تستخدم فيه، حيث استطاع الشاعر هناك أن يعطيَ الكلمة إيحاءات جديدة تثير السامع، من خلال وضع الكلمات في جمل تعطيها إيحاءات لم تكن لها ص 66: “حبّك طوفان جبّار/ يجتاح الروح/ يكتسح ذُراها/ والأغوار/ لا يُبقي جبلا/ ترسو فوقه/ سفينة نوح..”.
وبانتقالنا إلى مجموعة شاعرنا الثانية “نقوش على وجه الضباب”، نجد أنّه قد سلك طريقًا جديدة، وإن لم تختلف كثيرًا عن مسلكه في المجموعة الأولى، من حيث اهتمامه بمتانة العبارة وسلامة الاسلوب، وروعة الأداء والصياغة، وفيها الروح الجديدة، والحياة الجديدة، والحضارة الجديدة. وأوّل ما يطالعنا به الشاعر عناد جابر في مجموعته الشعريّة الثانية هذه هو وجدانه، ذلك الوجدان الذي يغمره جوّ من اللطف والرصانة، وينساب انسياب الماء الصافي في مجرى الهدوء والتوازن، بعيدًا عن كلّ نشوز، وخاليًا من كلّ صرخة مدوّية أو صخب مزعج، وهو نفس الشاعر المخلوقة من صفاء ورقّة، وهو الألم الذي ينصهر في بوتقته الجسم، إلى غير ذلك ممّا عانقته نفس الشاعر وانفتحت له حناياه، وخير تجسيد لذلك ما ورد في قصيدة “الضباب” بقسمها الرابع (السؤال) حيث يقول الشاعر هناك ص 32: “خرجنا/ من ضباب الوهم/ واشتعل السؤال/ على شفانا:/ كيف دُرنا/ حول نار الزيف/ فاحترقت منانا؟/ كيف شيّدنا القصور/ على رمال من هوانا؟”
وفي قصيدة “ترتيلة للوطن” ص 36، نجد شعرًا يجري فيه قلم الشاعر على تقاسيم خواطره ومواقع حسّه ونبضات وجدانه، وتجري فيه الألفاظ سخيّة رخيّة، سهلة ليس فيها حرف ناشز ولا نغم غريب، ولا مقطع نافر، ويستهلّ شاعرنا قصيدته هذه بالقول:
“وطني!/ صبرت على الدسائس والمحن/ وبقيت حسن كرامة/ وبقيت ركن شهامة/ وبقيت مرفوع الجبين أيا وطن!/ وطني!/ سلمت من الشوائب والعفن/ وبقيت حضن طهارة/ وبقيت غصن نضارة/ وبقيت زهرًا ليس يذبل يا وطن”!
ولا بدّ لنا هنا أن نشير إلى أنّ التجربة الشعريّة تتمثل في الوجدان والفكر مجتمعين، فإذا كان الوجدان هو الذي يعطي التجربة روحها ويبعث فيها الحياة، فإنّ الفكر هو الذي يُحدّد ملامح التجربة ويعطيها الدقّة، ويساعد الشاعر على تجسيد مشاعره وترجمتها في شكل أفكار محدّدة مرتّبة مترابطة، ولا يقبل في التجربة الشعريّة أن تخلو من فكرة لها قيمة يقدّمها الشاعر إلى قرّائه وسامعيه، ومثال ذلك ما جاء على لسان شاعرنا في قصيدة “نداء العلم” ص 62 حيث يناشد طلابه وجميع الطلاب قائلا: “هو العلم كنز عديم النفاذ ونور يضيء طريق الحياه/ فسيروا بدرب العلوم تنالوا نجاحا لذيذا يفوح شذاه/ طريق الجهالة لا تسلكوها فمن سار فيها لعمري تاه.
وفي هذه الأبيات صدى لقول ابن عبد ربّه القائل بهذه المعاني: العلم يُحيي قلوب الميّتين كما/ تحيا البلاد إذا ما مسّها المطر/ والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه/ كما يُجلي سواد الظلمة القمر.
كذلك قول الأصفهانيّ:/ العلم يرفع بيتًا لا عماد له/ والجهل يهدم بيت العزّ والشرف.
وهكذا يكون الأستاذ الشاعر عناد جابر قد قدّم لنا مجموعتيْن شعريّتيْن حافلتيْن بالعاطفة الرقيقة، والفكرة الرصينة من خلال شاعريّة ذاتيّة وغَيريّة معًا، حيث لمسنا بشعره ذلك البثّ الشجيّ من روحه، وتلك السهولة في التعبير عن عاطفته وأفكاره، على صدق وصفاء وحلاوة في الأداء تعطينا كلّها صورة عن شخصيّته الطيّبة ومشاعره الإنسانيّة النبيلة، كشاعر حسّاس يحلو له التغريد في أجواء الحرّيّة والمحبّة والإخاء، فلشاعرنا الكريم خالص التحيّات وأطيب التمنّيات بدوام التوفيق وبالمزيد من الإبداع والعطاء.
ويعود العريف ليقول: الموسيقا حياة القلب وغذاء الروح، وإذا أردت أن تحكم على مستوى شعب فاستمع إلى موسيقاه، فالموسيقا تستطيع أن تُليّن الصخور وتُروّض الوحوش، بألوان تعبيرها الصافية جدًّا، التي تُعبّر عن مشاعر النفس البشريّة وانفعالاتها، وتقع على أسماعنا غذاء روحانيًّا، ينفعل مُرهفو الحسّ منها ويتفاعلون معها ثمّ يستجيبون لإيحاءاتها، فيقعون تحت تأثيرها السحريّ وكأنّهم في حالة من التنويم المغناطيسيّ، وتروي لنا كتب تراثنا العربيّ قصة ما حدث مع العالم الموسوعيّ الموسيقار أبو نصر الفارابي، في مجلس سيف الدولة أمير بني حمدان في حلّ، فحين دخله قال الأمير اجلسْ، فأجاب الفارابي: حيث أنا أم حيث أنت؟ فزاحم وجلس حيث الأمير، ودارت المسائل في المجلس وفشل الجميع إلاّ الفارابي، وعاب على كلّ العازفين، وأخرج عيدانه ولعب بها وعزف بها فضحك الجميع، ثمّ فكّها وركّبها من جديد وعزف عليها فبكى الجميع، ثمّ فكّها وعزف عليها فنام الجميع، فتركهم وخرج. إنّها الموسيقى تسحر كما التنويم المغناطيسيّ بالموسيقى، والعازف مع أل التعريف في هذه الأمسية الدافئة الألوان والعميقة الصدى، حيث يلتقي السحر بين إبداع الكلمة والموسيقي، فتتراسل وتتناسل الحواسّ من بصر القراءة وإصغاء السمع، ونشعر بالإحساس ويصبح لها طعم ورائحة وأكثر، فليس هناك ما يعادل تأثير الموسيقى على الإحساس، فهي ربّة التهذيب والذوق والأخلاق والجمال، والقادر على توفير هذا اللقاء المتداخل بفوضى مرتّبة ومنظّمة بوعي اللاوعي، ومتجانسة بين الوعي واللاوعي إنّه طبيب النفس البشريّة ومهندسها، الموسيقار المعروف والمشهود له الأخ عماد دلال. عزف الفنان عماد دلال على العود وغنى أغنية من ألحانه ومن كلمات الشاعر عناد جابر، فأشجى الحضور بحضوره الفنّي.
ويعود محمد علي سعيد ليقول عن نادرة شحادة: بفضل ما نعيشه من ثورة تكنولوجيّة كلّ نصف سنة، وهذا التقدّم في وسائل الاتصال، أصبح العالم ليس قرية ولا غرفة بل صندوقًا صغيرا، تجلس إلى طاولتك متفسبكًا أو مؤيملاً، وتتواصل مع من تريد وفي كلّ مكان وفي أيّ زمان.
قال المتنبي: أعز مكان في الدنا سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب. واليوم نقول: أعز مكان في الدّنا بيت/ وخير جليس في الزمان نتُّ، وشاعرنا مدير مدرسة واإنسان عصريّ يواكب للمستجدّات، فيستثمر إيجابيّاتها ولا يسمح لنفسه بأن يندرج في إطار الأمّيّة الثالثة الحاسوبيّة، فنشر المادّة في المواقع النتّيّة، وقرأها الكثيرون في العالم ومنهم الشاعر والناقد العراقيّ جلال جافّ، فخصّ التكريم بقراءة في الديوان، فباسمكم جميعًا نشكر هذا الشاعر العراقيّ، ونتمنّى أن يرفرف علَم السلام في ربوع شرقنا الغالي، وعندها سنرحب به بين أهله في كفر ياسيف.
نادرة شحادة سكرتيرة إبداع لا تبخل بجهد من أجل إنجاح كلّ فعاليّات إبداع، وأذكر أنّها عاتبتني مرّة لأنّني لا أغطي أخبار إبداع في المجلة، فطلبت منها أن تبعث لي تقريرًا عن كلّ نشاطات إبداع لعام 2011، وفي اليوم التالي مباشرة بعثت المادّة وقمت بنشرها في محور بانوراما، أذكر هذا من باب الأمانة العلميّة وللمعرفة العامّة، كما وأنّها تكتب وتنشر الشعر من حين لآخر، وأرى فيها موهبة مُبشّرة، فأدعوها لتقرأ كلمة الأخ العراقيّ جلال جاف قراءات في ديوان”عواصف الحنين” للشاعر عناد جابر:
“عواصف الحنين/ صرختي/ تطيرها عواصف الحنين/ حنيني إلى الاحتراق/ بلهيب نجومك/ التي تحلم/ أن تكون شهبا/ تتساقط كالثلوج/ وتغمرني/ برقيّات عشق/ يُناجيني/ من وراء المحال/10
الصرخة إشارة نصّيّة قويّة لمحاولة إسماع صوت الشاعر من خلال تحدّي العواصف، بما تحمله من قوّة رادعة لصوته، إذ يصنع من “صرخته ” طيورًا تصارع رياحًا أثاَرتها تجلّيات الحنين، الذي يقيسه الشاعر بعمر الزمن، والوقت الذي لا يرحم المُحبّين ولا يُمهلهم زمنًا للقاء، فالحنين حالة شعوريّة تُحرّكها العواطف الإنسانيّة، تظهر جليّة عندما ابتعد الشاعر عن حبيبته أو وطنه، ولعلّ الشاعر اتّصل بمشاعر شعراء المهجر في تصويرهم للحظات حميميّة اشتغلوا فيها بالاستذكار.
إنّ لفظة الحنين تقترن بالحبيبة أو الوطن أكثر، لكونه مأوًى يجمع كافّة ما ألفه الإنسان من ذكريات وأحبّة، ومَن تربّى وترعرع بجوارهم من ذوي قرابة وأصدقاء، ومناظر طبيعيّة تحيط به لها أثر في نفسه، ولكون الحبيبة هي الوطن الروحيّ للشاعر، وبجولة آسرة نلمس من خلال كلمات النصّ أنّ الحنين احتلّ موقعًا مرموقا برزت فيه آلام الشاعر الإنسان الغريب في هذه الحياة، فقد يكون مسافرًا إلى غير رجعة، وقد “تكون الحبيبة وقد يكون التلاقي مستحيلا”، حتى يعبر به للوصول لغرضه المقصود من إنشاء القصيدة، وتمتاز أشعار الحنين بالصدق والعذوبة ورقّة معانيها ودقّة ألفاظها وسلاسة أسلوبها، ويرجع ذلك لقوّة العاطفة التي تُحرّك القريحة حينها، ممّا لا يدع مجالاً للتكلّف والصنعة.
الشاعر يهوى قرب الحبيبة بما يُخلّفه من احتراق، كأنّ النجوم لهب يتقد “شهابا” باللقاء المتوهّج كالشهاب، وهو نقطة حادّة تتجمّع عندها نجوم الحبيبة كأنّها مجرّة، ولعلّ الشهاب في صفحة السماء على شكل ضوء خافت اللمعان خلال الليل، أو قد يكون له مظهر كرة ملتهبة تجرُّ وراءها ذيلاً، يمكن رؤيته على مسافة مئات الكيلومترات من سطح الأرض، وبعض الشهب قد تكون شديدة اللمعان، حتى أنّها قد تُرى في ضوء النهار على الرغم من أشعّة الشمس الساطعة في السماء، وكأنّ الشاعر يُقلق مخيلة القارئ من خلال تكثيف عمليّة احتراق الشهاب، وهو في الأصل نجم، لكن لهيب النجوم لا يكفيه احتراقا، بل يخلق دلالة لترسيخ صورة الاشتعال والارتطام بالأرض، وبزوغ “فجر الحبيبة” التي تتوارى في سماء بعيدة، يكاد الشاعر يخفيها لأنها لا توصف ولا تقارن بامرأة أخرى.
بذلك يرسم وجه الأرض الحبيبة التي يناجيها العاشق الوحيد تحت سماء أخرى وفوق أرض اخرى. برودة الثلوج تنير ظلمة الشاعر العميقة الممزوجة بالوحدة، التي تسكب نيران الحنين، وليُحوّل إشارات النصّ إلى صورة جمالية تريح القارئ من دوامة النجوم الملتهبة.
“تغيبين خلف الوقت/ فتصبح الثواني/ مدى/ تقطع أوصال صبري/ والدقائق/” ص13
الغياب مقياس يتحول الشعر فيه إلى معرفة تلتمس سر الوجود المنفتح على نداء الروح المرتحلة من برّ إلى برّ، وتشظّيات المعنى عبر طقس الاغتراب، كلغة منفتحة على الشعور الكونيّ، وذوبان الذات في حضرة الحبيبة، ويمكن استكشاف انزياحات الأشياء والموجودات الماثلة أمام حضرة الوقت المخضّب بالوجود وجهًا لوجه، مع عمق البحار داخل سياق الكينونة ونسقها، ولا يمكن أن نستقرئ شعريّة النصّ دون الشعور بتدرّج الوقت من ثوانٍ ودقائق، حيث يصف الشاعر “عناد جابر” في صور خاطفة الدقائق والساعات في “حضرة الغياب” كمقياس أكبر، وهو مقياس القرون التي تُقاس بها عمر الأمم وعمر الأرض وليس عمر البشر، كأنّ الشاعر يؤكّد على سرّ خلوده وشغفه وتطلّعه للقاء الحبيبة، برغم ما سبّب للشاعر من ألم وعذاب.
انتظار لقاء الحبيبة تشاكُلٌ زمنيّ وتقسيمٌ زمنيّ يدل على تقسيمات الاغتراب، حيث أنّ الوحشة والاغتراب الروحيّ هما السائدان في آخر مقاطع القصيدة، وبذلك يتسع المدى وتتقطّع أوصال الشاعر بالصبر، ويصير الاغتراب مكانيًّا، إذ ينأى الشاعر بنصّه إلى بحار لا شاطئ لها، حتى لا يتوقف عن التجديف صوب عوالم بعيدة يقيم فيها علامات ترحاله المستمر: “بحارٌ/ تشاطرني مرقدي/ وتصبح الساعات/ قرونا/ من وحشة… و اغتراب”!
ولأنّ “الإنسان جمعيّ يستطيع أن ينقل ويشكّل اللاشعور أو الحياة الروحيّة للنوع البشري”، مثلما يقول “يونج”، فإنّ أدب الرحيل والفراق ليس قاصرًا على بلد بأسره، بل هو أدب عالميّ عرفته الأمم وانطلقت منه فكره الرحيل إلى آفاق عريضة، ففى الرحيل والاغتراب تتجلّى غصّة الوداع ووفاء المنتظر، وهَمّ الشاعر على الرغم من صعوبة المسالك ووعورة الدروب، وفي الرحيل تتفتّح جراح “الحنين” ويكون هناك رحيلٌ آخر إلى أعماق النفس، لاستجلاء سرّها ومعالجة سقام الحب، وتصدير للإحساس النابع من شعوره بالنفي والتشرّد فى سبيل الكلمات.
زُمَراً/ وحولك كالفراش/ يحومون ويلهثون/ العاشقون المغرَمون/ يتسابقون لغزو قلبك/ في ميادين الجنون/ لكنّي ياحلوتي/ مُتصوّف فيك/ وحُبٌّ مثل حُبّي/ لم يكن أبدًا/ وحتمًا لن يكون/ص 23 تصوّف.
إنّ المحبّة أعلى مقامات التصوّف، ومن خلال كلمات النصّ البسيطة صوّر الشاعر “الحبيبة” أو”الحلوة”، ذلك النور الذي يطوف حوله “الفراش” مُستلهِمًا تركيبة الفراش الطبيعيّة من ألوان زاهية وجميلة، مُشبّهًا بها “العاشقون المغرمون” الذين يتسابقون “لغزو” قلب المرأة التي يُحبّ، لكن حبّه المتصوّف يتنزّه على البريق الكاذب للفراش، إذ بمجرّد اقترابه من النور يحترق، وكأنّ المرأة هنا حدّدت ملامحها بنورانيّة وروحانيّة على عكس ما حاول مواراته في نصّيْه الأوّليْن، فمقدار حبّه وشغفه بها لا يضاهيه حُبّ رجل آخر، و”لن يكون” حتمًا متقاطِعًا مع إشارات نصوصه الأربع، راسِمًا خطًّا نورانيًّا في سماء الحبيبة، التي تتوارى “خلف الوقت” ولا يُقاس حُبّها بزمن غير زمن الكتابة، ولحظة الإبداع التي تكون مُولّدة الصور المُكثّفة والخاصّة بالشاعر في تقليص مجال البوح، حتى يملك القارئ كلّ مفاتيح القراءة والاستكشاف.
“الآنَ جزُرُ/ والبحرُ/ يرقدُ في سرير الصمت/ لا سوقُ الرمالِ لموجهِ/ يُجدي/ ولا عطش الصخور/ يهمس للشطِّ/ ويذهب نحو الأمس/ غاص الكلام/ وكلّ حرف/ بات غيّ الأعماق/ بركانا يثور/ هناك مدٌّ/ للذاكرة سرٌّ آخر/ لا هو يحيى/ ولا هو يموت/ يعود/ مع الموج الآتي/ وبريقك يحضر/ وضحكاتك تتجلّى/ فيمطر جُزرًا فيّ/ وأسكنكَ.. بحرا”. في الغياب/ 35-26
تتكرّر موضوعة الغياب في نصّ الشاعر “في الغياب”/ص35، في حين يُجدّد الشاعر الدلالات ويُلبس نصّه ثوب الحداثة بتجلّيات الغياب والاغتراب، في رسم لملامح الحبيبة بين البريق والضحكات، ويثور بركان الوجد لدى الشاعر، ليحاول الحفاظ على سرّ لا يبوح به في نصّه، وبذلك ينحو نحو “المحافظة” لأنّه يساوي الحبيبة بالأرض المقدسة، مانحًا القارئ سلسلة مترابطة بين نصوصه التي تصوّر الاغتراب والفقد والاشتياق. حاول الشاعر الإشارة بداية في افتتاحيّة القصيدة إلى الجزر، مُشبّهًا حياته بين مدّ وجزْر ومحاولة النسيان والتذكر، فبناء الشعريّة واللغة ببساطة الإيقاع لتتسارع في نهاية القصيدة، كأنّ الشاعر يقول للحبيبة: “فيمطر جُزرًا فيّ/ وأسكنكَ.. بحرا/ في الغياب”، حتى يكون المخاطب الوطن والسكن والحبيبة بسعة البحر، فتكون إشارة البحر دلالة على النقاء والصفاء الروحيّ رغم الغياب والاغتراب.
“لم يكن بيننا وبين التقائنا/ سوى خفقة من زمن/ وحبّةٍ من مسافة/ هي البعد/ ما بين الواقع والخيال/ أو ربّما.. ربّما/ هي الفرق/ ما بيننا” 19.
من خلال النصّ على كثافة كلماته ودقّة صياغتها، لم يترك الشاعر منفذًا للقارئ سوى إثارة واستحضار مخليته، في إدراك الزمن الذي يتكلم عنه الشاعر “خفقة من زمن”، هل قصد بها خفقات القلب؟ وهل يُقاس خفقان القلب بمقياس الزمن الشعري؟
إنّ الزمن لحظة إبداعيّة تشبّث بها الشاعر حتى يُبقي على نفس النسق الروحيّ، بداية من النصوص الأولى، فحاول تجسيد الفعل المتميّز بالمسافة والبعد، كأنّه في عالم بعيد عن عالمه الواقعيّ، إذ ألغى مقياس الزمن وحاول البحث عن منطقة بين “الواقع والخيال” التي تفرّق بينه وبين الحبيبة، والفرق الروحيّ او الجسديّ لا يُجسّده الشاعر، بل يترك للقارئ كلّ المفاتيح لفتح نصّه وتضمينه زمنًا كامنًا في لحظة الحُبّ.
أمّا التحدّث عن الفرق المكانيّ وليس الروحيّ، حين يتطلّع الشاعر إلى لحظة الخفقان بين “المسافة والبعد والواقع والخيال”، حيث نلاحظ أنّ الشاعر يتكلّم عن الشكوى الناجمة عن الحُبّ وما يصاحب هذا الشعور من ألم ومرارة، غير أنّه من مكمّلات الوجود الإنسانيّ بطبيعة الحال ذلك، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يحيا خارج الزمان، لهذا فهو عرضة لتجلّيات الزمان الذي يطاله من خلال الحبّ والحزن والفقد، وسائر ما تختصّ به حياته في هذا الوجود، كأنّما لجوء الشاعر إلى الخيال يريحه من ألم الواقع وإرهاصاته، في لحظة زمنيّة إبداعيّة يُسلّم حرفه إلى اللاّوعي، حتى يفيض على لحظة اللقاء وإن كانت خياليّة.
في نهاية الاحتفال ألقى الشاعر عناد قصيدة وكلمة شكر لكلّ الحضور، وتمّ تكريمه بالورود، والذرع التكريميّ قدّمه عبد الخالق أسدي، وأهداه الفنان إيليّا بعيني لوحة من لوحاته الفنّيّة.