تسارعت وتيرة التطور الفني للمجتمعات العربية والغربية نحو الرقي بمفهوم الفن التشكيلي عبر الأكاديميات والكليات المتخصصة، وقد ساهم هذا الاهتمام في النهوض بمستوى الفن والطلاب أصحاب المواهب والمهتمين بمجال الفنون المختلفة ولكن السؤال هنا. ماذا أضافت أقسام الفنون التشكيلية بالمعاهد والأكاديميات الليبية للفن التشكيلي وهل استطاعت صقل المواهب وتخريج دفعات قادرة أكاديميا وفنيا على العطاء؟ نطرح السؤال على بعض الفنانين والأكاديميين والدارسين في مجال الفن التشكيلي.
الموهبة أولاً
يقول الفنان التشكيلي والأكاديمي بجامعة طرابلس معتوق ابوراوي “أود أن أشير لدور الموهبة المهم في تفوق الفنان التشكيلي، وأنصح الطالب دائما بان يكون متجددا وقادرا على التفوق والإبداع حتى على أستاذته بالمثابرة والعمل والتدريب المستمر، وأن لا يعتمد على المؤسسة التعليمية كلياً فيتأطر داخلها. لابد من خلق فرصة فنيه له، فبازدهار التقنية وسهولة الاتصال بين جميع الثقافات سوف تعم المعرفة البصرية ويستطيع الفنانون الجدد التفوق بدون الرجوع للمدارس التعليمية. هذا وقد تأكد لي في الفترة الأخيرة كأستاذ لعدد من الفنانين الجدد، حيث يقومون بالمشاركة عبر الانترنت بعرض لوحاتهم التي أنجزوها وبيعها في الفضاءات الافتراضية لعدد من الشركات، أو الحصول على جوائز باشتراكهم في مسابقات دعائية. هذا يقودنا لفصل فترة التدريس في العقود المنصرمة وأهمية المعلم لصقل مواهب الطلبة بينها وبين جيل العولمة والإمكانيات الحديثة المدهشة في التعلم”.
وتضيف الأكاديمية حميدة صقر قائلة، إن الأكاديميات استطاعت تخريج دفعات متمكنة بتعليمهم تقنيات الفن، ولكن ما ينقص الاحترافية في الأكاديميات هو استخراج المتعلم برؤيته الفنية الخاصة والتي تعتمد على الدمج الفني والثقافي بين الأكاديميات، والعمل على تطوير امكانيات الطلاب ليصبحوا فنانين نستطيع القول عنهم متمكنين من أدواتهم وأفكارهم التي قد تخلق فضاء عالميا جديدا للفنان التشكيلي الليبي، ذلك عن طريق توفير رحلات فنية تلامس معارض الفن المعاصر الحديث. فالزيارات والرحلات وحضور المعارض والندوات الفنية هي التي من شأنها أن تضيف لطلاب الفنون الكثير، ولكن دور الأكاديميات والكليات يعتمد أيضا على قدرة وموهبة الطالب الملتقط لمفاتيح الموهبة والذي بإمكاننا أن نطلق عليه مصطلح فنان حتى وهو يدرس.
مشكلة الكم
ويرى الفنان رمضان أبو راس أن الإشكالية تكمن في دراسة الفن بدون موهبة، دراسة علمية غير منعكسة على مستوى الأداء الفني مما جعل الفنون مادة يدرسها الجميع دون الوصول إلى مخرجات جيدة، فالجيل السابق عن فترة افتتاح قسم الفنون بجامعة طرابلس كان الأفضل من حيث الرؤية الفنية والمعرفة اللونية .هذه النوعية من المعاهد قد خرجت عديد الدفعات والتي دخلت سوق العمل سواء في القطاع العام أو الخاص وبرز منهم العديد من الفنانين المتميزين في الفنون التشكيلية بكل تصنيفاته، وهذا ينطبق كذلك على أقسام الفنون بالجامعات في كل المدن الليبية. لكن السبق دائما يبقى لقسم الفنون بجامعة طرابلس في بداية تكوينه، ثم إنشاء كلية الفنون والإعلام بطرابلس. فكانت الدفعات الأولى منهم تضم عديد الخريجين المتميزين في كل التخصصات والذين كانوا يمتلكون الموهبة الفنية فتكون بذلك جيل جديد من الخريجين والمبدعين الذين يتصدر أغلبهم المشهد التشكيلي الليبي ويشاركون في العديد من المعارض في الداخل والخارج وأتيح لأغلبهم سبل الدراسة بالخارج وعادوا للوطن وللجامعة كأساتذة وأكاديميين تخرج على أيديهم العديد من الطلبة. ثم تأتي فترة لاحقة قد توصلنا أو تمتد إلى هنا سنجد فيها الميل إلى كثرة أعداد الخريجين ومحدودية النوع والتنوع فيها لأن أغلب من تمكن من الدراسة والحصول على الماجستير كان خريجا من المستوى العادي البعيد عن الممارسة الفنية. فهم لم يمتلكوا الموهبة الفنية عند دخولهم لكليات وأقسام الفنون وكان أغلبهم من العناصر النسائية التي ترى إن دراسة الفنون والالتحاق بها قد تكون أقل تكاليف من دراسة الطب أو الهندسة ويتهيأ لهن بأنها أسهل وبالتالي كن يجيدن القراءة والكتابة والمذاكرة أكثر مقارنة بزملائهم الطلاب الذين زاد عزوفهم عن دخول أقسام وكليات الفنون في فترة من الفترات نتيجة لغياب الحصول على الوظيفة وافتقار سوق العمل لهم. ومن هنا أشير إلى نقطتين هامتين تشكلان حجر عثرة إمام مخرجات أقسام الفنون، أولهما أن هذه الأقسام تستقبل طلبة بل الأغلب طالبات عاديات وبدون إجراء امتحان أو اختبار مفاضلة لتحديد الموهبة، ثم تأتي رغبة الطالب وبالتالي في غياب هذا الفحص المهم سنبقى نراوح للأبد بتخريج كم وليس النوع، والنقطة الأخرى هي ضعف أدائية من يدرسون الجانب العملي في تقنيات الرسم والتصوير في أغلب هذه الأقسام أو الكليات.
الوعي بالثقافة البصرية
وتعتبر الأكاديمية رويدا الشركسي أن الفن أحد أكثر المجالات قدرة على التغيير وتحقيق الرقي الاجتماعي، وليبيا شهدت انفتاحا كبيرا على تخصص الفنون التشكيلية وتواجدت الكليات المتخصصة في معظم الجامعات، وهذه نقاط إيجابية تدل على وعي المجتمع بأهمية الفن. وفي اعتقادي إن هذا الوعي جاء نتيجة لمخرجات كليات الفنون واندماجها بسوق العمل وإقامتها عديد الفعاليات الفنية والمعارض التشكيلية حيث لا يكاد يمر موسم ثقافي بدون معرض تشكيلي، لكن المهم هو جعل هذه اللغة البصرية جزءا من حياة الناس، وعدم اقتصار الفن في ليبيا على فئة نخبوية وإتاحة الفرصة لكل الشباب والمواهب والخريجين من الكليات المتخصصة حتى يمكنهم المساهمة في إدارة عجلة الفنون التشكيلية والسعي إلى عدم توقفها. حتى وإن كانت هذه المساهمات خجولة في البداية إلا أنها مع الوقت سوف تكتسب المزيد من الدعم والاهتمام. فما نحتاجه هو تغيير ثقافات الناس وتقبل الفنون التشكيلية كتخصص معترف به.
التقليدية والتلقين
ويرى الفنان محمد قجوم أن أقسام الفنون التشكيلية بالمعاهد والأكاديميات الليبية لم تقم بالدور الحقيقي المنوط بها في صقل المواهب الناشئة وذلك لعدة أسباب منها، عدم كفاءة بعض الأستاذة أو المحاضرين وعدم مواكبتهم إلى ما توصل إليه الفن التشكيلي وتطوره بالشكل المطلوب، كذلك قد نجد فنانين أصحاب خبرة وقدرات وإمكانيات فنية رفيعة لكنهم يفتقرون إلى طريقة توصيل المعلومة إلى الطالب لذا وجب إقامة دورات تأهيلية على سبل وطرق التدريس قبل البدء في تدريس الطلبة. ولا ننسى هنا المناهج المعتمدة للتدريس، والتي يوجد بها قصور نسبي فهي في أغلبها مناهج قديمة وكلاسيكية غير مواكبة للمناهج الحديثة التي تدرس في بلدان العالم. فنجد الطالب يلجأ إلى الاجتهاد الذاتي أو البحث في الإنترنت لمواكبة كل ما هو جديد في مجال الفن التشكيلي. هذا لا ينفي وجود نخبة من أساتذة ومتخصصين أكفاء في مجال الفنون التشكيلية، وأقدم لهم كل الاحترام والتقدير. فرغم كل الظروف التي تمر بها بلادنا، فأنهم يعملون بكل صدق وإخلاص لصقل الطالب وإعطاءه كل ما يمتلكون من خبرة نظرية وعملية.
ويرى الفنان سالم التميمي أن أقسام الفنون التشكيلية والأكاديميات والمعاهد الفنية ما زالت تقليدية، سواء من حيث المنهج أو هيئة التدريس. فهناك من ليست له علاقة بالفنون التشكيلية ولا ما يقام من معارض ولا باللوحة، مجرد مناهج نظريه، بدليل كثير من الخريجين أكثر تقليدية، وليس هناك تجديد يذكر في أعمالهم وبعيد كل البعد عن العمل الفني المتطور. ليس شرطا كل من يتخرج من قسم الفنون التشكيلية أو المعاهد أن يصير فنانا كما ليس كل من يتخرج من الفلسفة فيلسوفا، ولكن هناك قلة وعددا لا يذكر من الذين يمتلكون لمسة إبداعية.
التعالي الأكاديمي والوعي بالمأساة
ونستعرض في الأخير رأي العديد من طلاب الفنون، فيقول عبد الكريم نوري الكواش طالب بقسم الفنون جامعة صبراتة: بالتأكيد استطاعت الجامعات صقل المواهب لكن للأسف لم تخرج الكثير من الدفعات القادرة على العطاء، لأنه لم يكن هناك تشجيعا كافيا كمعرض خاص للطالب إلا معرض عام يعود للجامعة، ومعظم الأساتذة غير قادرين على التواصل بشكل جيد مع الطالب ولا توجد سبل راحة تساعد الطالب على الإبداع كعدم توفير المستلزمات الخاصة بالعمل الفني. وتضيف سندس كشاد طالبة فنون في جامعة طرابلس، أن الأكاديميات ومعاهد الفن التشكيلي ساعدت في ارتقاء المجتمع، وهذه إضافة تحصد فيها ليبيا التراتيب الأولى في المسابقات والمعارض على مستوى العالم بمشاركة الفنانين الليبيين الذين نعتز بأسمائهم. وشخصيا كطالبة حالفني الحظ والشرف في ان يتم تدريسي تحت يد عدد من الفنانين الكبار الذين لهم دور كبير عبر الأجيال الجديدة. أما الطالبة مودة زقلم بجامعة صبراتة فتقول: عند دخولي أول مرة إلى قسم الفنون كنت أملك خبرة بسيطة ويوما بعد يوم من المحاضرات بدأت أتعرف على مدارس مختلفة من الفن التشكيلي، وهكذا بدأ التطور في عالم لا ينتهي من الاكتشافات، أساليب ومعدات وخطوط ونقاط وحروف وخامات من الألوان وتصاميم متنوعة لا ينقطع البحث فيها، وكلما أبحث كلما يزداد تعمقي بالفن التشكيلي. ولأن الفن له دور في حياتي ومجتمعي، أبلغتني إحدى أستاذاتي بضرورة خوض غمار التجربة عمليا، وإقامة معرض فني خاص بي وقد نجحت وهذا يحسب لقسمي ولمن علمني ولمثابرتي ولهذا لا يجوز لنا اتهام المؤسسات بالقصور! وعلى النغمة نفسها تضيف خولة الخطري طالبة فنون في جامعة طرابلس: كل طالب دخل للكلية بإمكانيات بسيطة أصبح يقارن بأشهر الفنانين وكل فنان تشكيلي يجب أن يتعلم أساسيات الفن عن طريق التعليم الأكاديمي. فاللوحة لفنان لم يدرس الفن لن تكون مثل لوحة لخريج كلية الفنون، فأقسام تعليم الفنون التشكيلية استطاعت صقل المواهب من الدارسين وإضافة الكثير لهم علمياً وثقافياً. بينما ترى ملاك محمد عمر العلوص الطالبة بجامعة صبراتة أن الفن التشكيلي في الكليات والأقسام هو تدريس لتعليم قواعد أكاديمية تنفع للعمل المستقبلي حين يقدم الخريج نفسه للمشهد الفني كفنان واعد. هناك طلبة قاموا بتطوير أنفسهم خلال فترة الدراسة مدعومين بتوجيهات ونصائح الأساتذة، كذلك توفر الإمكانيات الحديثة تساعد على تطوير الموهبة بسرعة وقلتها للأسف تطمس الإبداع لدى الموهوبين ونحن محتاجين لدعم مادي لإقامة ورش عمل ومعارض فنية. ولهذا كان تعلم الفن بشكل علمي رافداً كبيرا لكل فنان موهوب ومبدع. ونختتم برأي الطالبة بقسم الفنون بجامعة طرابلس عفراء الأشهب، الذي يحمل الكثير من الوعي، فتقول: هناك مشكلة عامة تعاني منها المنظومة التعليمية في كل الأقسام والجامعات الليبية، وهي استمرارنا في التعليم بطريقة التلقين مع تجاهل رغبات الطالب الحقيقية واهتماماته الفعلية، وبالتالي لن يتطور إثر هذه الطريقة سوى من كانت له رغبة صادقة في التعلم، أما البقية الغالبة، فهم ضحية منظومات ضعيفة في الدولة، تساهم جميعها في إحباط الفرد من بيئة تعليمية غير مناسبة، إلى عدم توفر الأدوات المناسبة، وغلاء أسعارها بالرغم من أنها أقل من مستوى الصفر من ناحية الجودة، مع توقف المنحة الدراسية، هذا فضلا عن أن النظام التعليمي في الدول المتقدمة أصبح يعتبر سببا من أسباب قتل الإبداع لدى أفراد المجتمع. أما عن الكلية؛ فإن تخريج دفعات فنية، الطلبة الناجحون فيها فعليا وعمليا لا يتعدى عددهم أحيانا طالب أو طالبان، مع بعض الاستفادة التي خرجت بها بقية الدفعة، شخصيا لا أعتبره انجازا يذكر. نحتاج أن نعرف لماذا نتعلم قبل أن نتعلم، نحتاج دورات مجانية لصقل مهارات الحياة وطرق التعامل لدينا مع المشاكل اليومية عمليا، نحتاج لمن يوقظ الرغبة والشغف في قلوبنا، ولأساتذة يطورون من أنفسهم بدلا من إلقاء اللوم على الطالب وحده، فوجود وثبات المنهج التعليمي، والمعلومات نفسها من دون أي تطوير، وطريقة التعامل مع الطلبة لدى الأستاذ على مر سنين وأجيال نفسها، لهو أمر مرعب في زمن أصبح فيه كل شيء متوفرا بكبسة زر، بدلا من البحث والتنقيب عن أخبار سياسية لا دور له فيها.