مدرسة عثمان باشا المالكيَّة
مختارات

مدرسة عثمان باشا المالكيَّة

تركي محمد النصر*

مدرسة عثمان باشا المالكيَّة
مدرسة عثمان باشا المالكيَّة

طرابلس الغرب هي عاصمة ليبيا، وأكثر مدنها سكانًا، تقع في شمال غرب البلاد على البحر الأبيض المتوسط في سهل ساحلي منبسط مقابل الرأس الجنوبي لجزيرة صقلية، تكثر فيها البساتين، لاسيما بساتين البرتقال والليمون وحقول الزيتون، وتشتهر بعمارتها الحديثة، وشوارعها الفسيحة وجنائنها الرائعة. 


فتح المسلمون طرابلس الغرب في آخر خلافة عمر بن الخطاب  “رضي الله عنه”  سنة 23هـ، الموافق 644م ودخلت تحت الحكم الإسلامي ثم تعاقبت على حكمها عدَّة ممالك كالنورمانية، والصقلية والإسبانية، وفرسان القديس يوحنا، وبقيت كذلك حتى استعادها العثمانيون منهم سنة 1551م.
تعتبر طرابلس الغرب التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة مركزًا تجاريًّا وصناعيًّا مهمًّا وتشهد فيه الصناعة تطورًا ملحوظًا على صعيد صناعة تكرير النفط، ومن أبرز معالمها مرفأها التجاري، وقلعتها الأثرية أو ما يعرف بالسراي الحمراء، ومدينة الأندلس التي تعدُّ من أهم المشروعات السياحية في ضواحي طرابلس الغرب، وبرج الساعة الكبير، ومسجد أحمد باشا الذي أقيم على أنقاض المسجد القديم الذي بناه عمرو بن العاص عندما فتح المدينة، ومدرسة عثمان باشا الساقزلي.

ولفظة طرابلس روميَّة إغريقيَّة، وهي تعني المدن الثلاث، وقد تحدث عنها أصحاب السير، فقالوا إنها في آخر أرض برقة، بناها أشباروس قيصر، وكان لها سور صخري جليل البنيان وبها أسواق حافلة، وكان فيها مسجد في العهد الإسلامي يعرف بمسجد الشعاب، وكان حولها بربر وأنباط، فتحها عمرو بن العاص سنة 23هـ بعد حصار استمر شهرين فانتزعها من يد الرومان.
وينسب إلى طرابلس الغرب عدد كبير من أهل العلم والصَّلاح، ومن أبرزهم العلامة الشيخ علي بن زياد العبسي الطرابلسي، ولد بطرابلس، وسمع من الإمام مالك الموطأ وأخذ عنه أقواله, ثم جلس للتدريس في القيروان، حيث كثر تلاميذه واشتهر أمره، وكاد أن يمتحن بالقضاء ولكنه امتنع وسافر علي إثر ذلك إلى تونس، واجتمع عليه الناس، وكان ملاذهم بل كانت الأسئلة تأتيه من القيروان، واشتهر من تلاميذه ثلة منهم سحنون بن سعيد التنوخي، والبهلول بن راشد، وأسد بن الفرات.
وابن زيادـ رحمه الله ـ هو أول من أدخل الموطأ إلي إفريقيا، وهو أول من فسَّر للمغاربة قول مالك، ولم يكونوا يعرفونه، وهو معلم سحنون الفقة، توفي- رحمه الله- سنة 183هـ.

تأسيس المدرسة وسبب تسميتها

أسست المدرسة سنة 1064هـ الموافق 1654م، وتقع بزنقة درغوت باشا، بحي باب البحر في المدينة القديمة، بالعاصمة الليبية طرابلس، وسميت باسم مؤسسها عثمان باشا الساقزلي، وهو والي طرابلس الغرب آنذاك أثناء فترة الخلافة العثمانية، حيث كانت ليبيا منضوية تحتها.
ويعتبر تأسيس هذه المدرسة في العهد العثماني الأول تجديدًا واستمرارًا لتدريس العلوم الإسلامية في طرابلس بعد تدمير الإسبان وفرسان القديس يوحنا لكل المرافق الحيوية للمدينة، بما في ذلك المدارس الشرعية العتيقة مثل المدرسة المستنصرية التي أسسها ابن أبي الدنيا، والتي كانت بدورها استمرارًا لتدريس العلوم الإسلامية منذ أدخل علي بن زياد الطرابلسي تلميذ الإمام مالك كتاب الموطأ إلى المغرب الإسلامي.

وصفها

الداخل إلى مدرسة عثمان باشا من بابها الرئيس سيقابله صحن المدرسة، وهو ساحة مربَّعة الشكل تفتح عليها أبواب أربع عشرة حجرة، كل منها تزدان بعمودين من الرخام الزاهي اللون، ويعلوهما قوس نصف دائري، كما يحيط بالساحة رواق منتظم محمول على أعمدة رخامية متعددة المصادر تعلوها تيجان بديعة، وتعلو المدرسة قبتان عثمانيتان مميزتا الشَّكل، وتفتح الساحة على منطقة منفصلة بها مرافق المدرسة وميضأة تحمل نقوشًا عثمانية بديعة، كما تفتح الساحة من الناحية المقابلة على مقبرة قديمة حُوِّلَت إلى حديقة زهور.

أهميتها

تظهر أهمية مدرسة عثمان باشا من خلال محافظتهاـ حتى وقت قريبـ على التعليم الديني وفق نظام الحلقات في مختلف العلوم الإسلامية بشكل منتظم، كما أن المدرسين الذين تعاقبوا على التدريس فيها كانوا من أهم علماء ليبيا الذين تخرجوا على الرعيل الأول، مما أضفى عليها طابع العراقة، وعلى الرغم من صغر المدرسة إلا أنها استطاعت أن تحافظ على الموروث العلمي والثقافي الإسلامي لطرابلس، وأن تنقله عبر الأجيال على الطريقة المغاربية الطرابلسية بكل ما يعنيه ذلك من أصالة تاريخ المدينة وعلو قدر علمائها.

مخطط مدرسة عثمان باشا المالكيَّة
مخطط مدرسة عثمان باشا المالكيَّة

منهجها

يتلخَّصُ منهج المدرسة في تدريس علوم الشريعة الإسلامية، العقيدة والفقه والحديث واللغة العربية، وآداب البحث والمناظرة، والآداب الإسلامية العامة، ويجمع منهج المدرسة بين علمَي الرواية والدراية بتدريس الحديث النبوي والفقه المالكي الأصيل.
ولا يزال تدريس هذه العلوم يعتمد على طريقة التلقين وتحمل العلم الشرعي بالسند المتصل، الأمر الذي ميَّز هذه المدرسة العريقة عن غيرها من الدينية الأخرى.

أسانيدها وأبرز أعلامها

ومما زاد في أهميَّة هذه المدرسة وعراقتها العلميَّة والتاريخيَّة أنَّها تجمع أسانيد الأمَّة الإسلاميَّة قاطبة، أسانيد شاميَّة، ومصريَّة، وتونسيَّة، ومغربيَّة، وشنقيطيَّة، ويمنيَّة، وحجازيَّة، وهنديَّة، وتركيَّة، حيث اعتنى علماء طرابلس بالرواية منذ القِدم، وأقرب هذه الأسانيد- مثلًا- الأسانيد التي اجتمعت من خلال العلامة مجدد المدرسة في العصر الحديث الشيخ محمد كامل بن مصطفى (ت 1314هـ) مفتي طرابلس الغرب والذي قام بتدريس العلوم الشرعية مطلع القرن العشرين بمرويَّاته عن أكابر علماء الأمة في عصره ومنهم الشيخ أحمد عبدالرحيم الطهطاوي، والشيخ محمد عليش، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ حسن العدوي، والشيخ محمد المهدي بن سودة، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ عبدالهادي الإبياري، والشيخ عبدالقادر الريماوي المقدسي الحنفي، والشيخ إبراهيم بن محمد السياني التونسي التوزري، والشيخ مختار شويخ، والشيخ محمد الطاهر الغدامسي، والشيخ أبوالقاسم العيساوي.

كما جمعت المدرسة بين أسانيد المناطق الليبية المحيطة بطرابلس مثل أسانيد الشيخ محمد الأمين العالم من شط الهنشير، وأسانيد الشيخ علي الغرياني من تاجوراء، وأسانيد الشيخ أحمد أبوطبل من بني وليد، وأسانيد الشيخ محمد ظافر المدني من مصراتة التي تتصل بأسانيد الشيخ أحمد زروق.
وقد تسلسل العلم الشرعي المعنعن في المدرسة من خلال تلاميذ الشيخ محمد كامل بن مصطفى من أمثال العلماء إبراهيم مصطفى باكير مفتي طرابلس، وأحمد البكباك، وأحمد الشارف، وأحمد شقرون، وأحمد بن عبدالسلام، وأحمد بن عبد العال وغيرهم.

ولا تزال المدرسة تفخر بتدريس شتى العلوم الإسلامية التخصصية من خلال نخبة من أجلِّ أعلامها، و نذكر منهم:
1- العلامة الفقيه الشيخ عبدالسلام البزنطي الذي تخرج في العلوم الشرعية على أيدي علماء كبار من أساتذة جامعة محمد بن علي السنوسي بالبيضاء، وكلية أحمد باشا بطرابلس، ويواصل الشيخ البزنطي مسيرة تدريس الفقه المالكي التي بدأها الإمام علي بن زياد الطرابلسي تلميذ الإمام مالك وذلك بتدريسه الكتب المعتمدة على المذهب المالكي مثل كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني بشروحها وحواشيها الأزهرية.

2- شيخ القراءات العلامة الأمين محمد قنيوة الذي يتصل سنده بأعلى الأسانيد العثمانية في القراءات والتجويد، وهو حجَّة على مستوى العالم الإسلامي في مجال القراءات والتجويد، ترأس لجان الإشراف على عدة مسابقات قرآنية دولية، وله تسجيلات إذاعية محلية ودولية، ومساهمات مهمة في إخراج مصحف الجماهيرية على رواية قالون عن نافع، وتخرج على يديه عديد من أفضل قرَّاء البلاد الليبية.

3- اللغوي الدكتور محمد منصف القماطي الذي درس علوم العربية والعلوم الشرعيَّة دراسة جامعيَّة وعلى علماء طرابلس، وحصل على شهادة الدكتوراه في اللغويات، ويُدَرِّس- بالإضافة إلى تدريسه بمدرسة عثمان باشا- في جامعة الفاتح بطرابلس.

مجسم مدرسة عثمان باشا المالكيَّة
مجسم مدرسة عثمان باشا المالكيَّة

مكتبتها

أَوقَفَ عثمان باشا الساقزليـ رحمه اللهـ كتبًا كثيرة وقيِّمة على مدرسته منذ تأسيسها، وحافظ الليبيون على هذه النَّفائس، ومنها كثير من المخطوطات النَّادرة، وعندما أسَّست وزارة الأوقاف الليبية مكتبتها العامة في طرابلس عام 1316هـ قامت بنقل أغلب هذه الكتب إليها، كما تم تجديد مكتبة المدرسة وتزويدها بمراجع ومصادر مهمة في العلوم الإسلامية، وخاصة كتب الفقه المالكي وأصوله.

دورها في التَّاريخ العلمي لطرابلس

كانت المدرسة تقوم بدور دار الإفتاء في طرابلس، أو ما يُعرف في العهد العثماني بمَقَر المفتي، ويعتبر الشَّيخ محمد كامل بن مصطفى الذي كان مفتيًا لطرابلس الغرب من أهم علماء المدرسة في العصر الحديث، إذ تخرج على يديه في هذه المدرسة أهم علماء ليبيا ممن سبق ذكرهم.

ومن أبرز الأعراف الدينية في طرابلس ما يُعرف بالحزب القرآني الذي أسسه العلامة الشيخ محمد المصراتي في المدرسة، ويُقرأ الحزب كل يوم عقب صلاة المغرب، ويعتبر من النشاطات المميزة ذات الطابع العريق للمدرسة التي لم تنقطع منذ أكثر من نصف قرن.
 ___________________________________
* إمام وخطيب في وزارة الأوقاف الكويتية

مقالات ذات علاقة

الأسطول الدنماركي النرويجي يهاجم طرابلس عام 1797

المشرف العام

إلى طرابلس – 1

عبدالقادر الفيتوري

العرَّاب المقبور بين القتل والفجور

المشرف العام

اترك تعليق