ومن واقع تجربتي الميدانية ورغم دأب بعض الروايات على استحضار مناخات السرد الا ان مالمسته عند معايشتي التوثقية لهن تركهن مثلا -وربما غير قصد- للازمتي الاستهلال والختام، وتحرج بعضهن بل وعزوفهن عنهما والدخول في القص مباشرة، رغم ما كانت تحظى به من مكانة كراوية تلتزم طقس الروي – فيما مضى -عندما يتقصدها الأهالي طلبا لخراريفها التي تعمر ذاكرتها فتُقبل عليهم مُحتفية ومالكة لادواتها المُشبعة بجماليات المُتعة والإفادة.
ولنا ان نشير الي حاجة الباحث والدارس للحكاية الشعبية الليبية، الي عدد وافر أو نماذج كافية للتدليل على الخصوصية المحلية لبيئة وملفوظ الحكاية (ومنها الاستهلال والختام)، وتبيان الفروق بين البيئات والمناطق الجغرافية التي انبثقت ونبعت منها الحكاية الليبية .اذا انه من الطبيعي ان تنسج أحداث الحكاية من خلال أبطالها وشخوصها المتعددة مُتخدة من الحيز المكاني والبيئى مرجعا ًوعلامة لها، حتى ان بعض الحكايات الشعبية ومن خلال التجربة كثيرا ما تُدلل على مكان حدث مُعين مُستندة الى ما يعرفهُ السامعون وما آلفوه داخل محيطهم من أمكنة ويكون ذلك تقصداً لتصير عوالم الحكاية ابنة البيئة ومتوافقة ومتصلة بالظروف الحياتية التي يبصرونها ويتعايشون معها، وما يُعلل ذلك فرادة الحياة المجتمعية في كل مجتمع بشرى، وخصوصيتها فحكاية اي مجتمع أو أي بيئة هي قبل كل شي نتاج البيئة، ونمط العلاقات الاجتماعية، ومخزون بعض من صور وشخصيات تاريخها، ومن الظلم والأجحاف الحكم أو التحيز للجماعة مُنتجة الحكايات الشعبية وإطلاق استنتاجات عامة لتشمل حيزاً مكانياً آخر(ما جرى من أراء رأت أن بداية الحكاية في الغرب الليبي ياحزاركم تُفضي الى إلزام أن تتشابه البدايات معها رغم جغرافيا القارة الليبية!)،ما لم يتم جمع ورصد ودراسة نتاجهُ الحكائى،والكشف عن مضامينه حتى وان تشابهت الحكايات في طرح أفكارها الرئيسية إذا ما تعلقت بقيم مجتمعية سادت كصراع الأخوة، والغيرة النسوية، وظلم زوجة الأب، والزوجة المسحورة، والصديق الخائن، فأن كل من عوالمها ومكوناتها فيما سيرد من حكايات يتباين فيما يتم طرحهُ من المخيلة الجمعية من معضلات اجتماعية فتيمة البطل المسخ في حكاية (جميل: تصغير الجمل) الشخصية الذكورية المُسيطرة المُستبدة مُمثلة نموذجي السلطة الأبوية ونمط فقيه الجامع ليست المسخ (الدويك: تصغير الديك) الذكر الحامي المُدافع عن اخواته في مواجهة الغول من تفشل مُؤامراته مع الشقيقة الصغرى الدويك وأن كانت عوراء (عادة ما يتم الدفاع عن اميرة جميلة وتحقيق امنياتها)، وكذلك حضور المرأة وفعاليتها فحتى وان ظهرت كنموذجها الواقعي المُؤدبة المُطيعة المانحة المُتفانية دوما وصورة منسوخة لما ترغبه الجماعة فيها الا ان ذلك لا يمنع من الأقرار ان الحكايات الشعبية في (براك نموذجا **) تطلعت الي المرأة التي تكسر طوق مجتمعها الذي يحاصرها بعاداته وتقاليده الصارمة فتتمرد على ظُلمه واجحافه بحقها في الحياة ككائن يملك كينونته وقراره في (حكاية حليمه بنت النجار) من حملت الحكاية اسمها وان كانت خادمة وهذا خرق لتفاوت طبقي يفرق بين العبد والسيد، حليمة من ترتحل مع سيدتها، من غامرت بصندُوقها الذي صممته وهندسته متجاوزة لسلطة الأب حين تزوج نفسها وتختار شكل حياتها وتُفلح دون وصاية من أحد، فيما تتفوق بطلة الحكاية (سبع ولاد وسبع بنات) وتنتصر لكرامة ابيها (ابو البنات) في مُواجهة العم (ابو الأولاد) مُرتحلة بتجارتها تجوب البُلدان وتُصارع الغولة لتتزوج من ابنها نابذة ابن عمها الذي لم يرتق لشجاعتها وفروسيتها، وقد بزتهُ ذكاء ودراية ومسؤلية، وفي حكاية (رُمان صرانداكة) التي تُقدمُ بطلتها على خيانة زوجها (تناص مع الف ليلة وليلة) وفي بيته متعمدة تغيبهُ بل والتخلص منه سفرا بحجة مرضها العضال الذي يتطلب دواء شافيا من بلاد الغولة (رُمان صرانداكة)، وتلمح الحكاية لسامعيها الي مبرر فعلتها المحظورة دينيا واجتماعيا بزواجها الجبري بأبن عمها، وفي ذلك طرح لمعضلة اجتماعيا وهي ظاهرة الزواج القرابي دون النظر لخيارات الطرفين.
إلا ان الطريف بحق والذي يُخالف مادأبت عليه تؤكدهُ وترسخهُ ثقافة المجتمع تجاه الزوجة النموذج ما أكده الزوج في حكاية (ماراحن من عباير وحنا سكوت – بمعنى كم رأينا من اخطاء ونحن صامتون) في رفضه لزوجة لا تُعبر عن رغباتها ولا تشتكي مما تلاقيه، راضية صامتة فيُعلن انهُ مُطلقها فلا صبر له لمن لا تشاركه أفراحه وهمومه، وحين تأتي الزوجة الثانية مُعربدة مُثرثرة ومازالت لم تنزل عن هودجها، يُفاجأه صوت زوجته الاولى وهي تحثها على التلطف والاتزان… فينشرح صدر الزوج وتنفرج اساريره ويقرر رد العروس الي أهلها والابقاء على زوجته السابقة وقد سمع لها رأيا!..
كما طعمت الحكايات الشعبية المختارة أهدافها التربوية الاخلاقيه بأجواء من الفكاهة والمرح كحكايتي (طن وطنه) العجوزين البخيلين و(امعبيص) مُعادل نص انصيص الكائن الناقص الذي يتفوق على الأقوياء الكاملين، وحملت الحكاية نماذجها الحيوانية رمزا او تصريحا لما ينبغي ان يحتذيه السامعون من مثل وقيم أوان ينصرفوا عن ما هو مرفوض منبوذ، مثل حكاية (شبيشبان اللي طاح في القدر ما بان) حيث الدعوة الى التآلف والترابط الاجتماعي والابتعاد عن تكلف ما لايعنيهم، وفي حكاية (العنزه المعتنزه اللي قرونها حد اورانزا) في الذوذ عن الحياض والدفاع عن المكان الحاضن كما ان مخالفة الصغار لوصايا الام يؤدي الي التهلُكة.
ومما سبق تفصيله عن مضامين الحكايات الشعبية يطرح تساؤلات حول إلحاح الدارسين الباحثين على تداول مصطلح الحكاية الخرافية التي ترتبط في مدلولها اللغوي بالخرافة: الحديث المُستملح المكذوب، وخرف خرفا: فسد عقله من الكبر فهو خرف (لسان العرب) وهو ما لا يمكن ربطهُ لا بالراوية الشخصية المرجعية الاجتماعية الموثوق في درايتها وحكمتها، ولا حتى فيمن يوجه لهم الخطاب الحكائى وهم السامعون، اذ أن الراوية الشعبية هي العنصر الحي الوحيد والوسيط الموصل الأمين الحافظة والموثقة للموروث،إلا أنه يجذر الانتباه الى مصطلح الخراف – الذي من ضروري القياس عليه والاستقاء منه – في الاصطلاح الشعبي والذي يعني أن الذي يُخرف يحكى قصصا حدثت في الماضي مُشبعة بالعجيب والغريب، ولعل ذلك سر جاذبيتها وتعلق مُتلقيها بها.
_________________________________
(*) ياحجاركم يامجاركم عنوان مقدمة كتابي عن حكايات براك / الشاطي (جنوب ليبيا) تُنشر لأول مرة… .ياحجاركم يا مجاركم أيضاً مدخل للعبة شعبية تُؤدى غناءً بين مجموعة من اللاعبين، او بفرد يقابله فردا آخر ويخاطبه: ياحجارك يامجارك شن (ماذا) تعشى البارح حمارك؟ ويجيب الاخر (او الآخرون) على السؤال المعنى عن ماقدموه بالأمس لدابتهم، فأن ذكروا الخُبز،تصيرُ الإجابة: خبزوك الخبازين ولطخوا وجهك بالطين… وياحجارك يامجارك شن تعشى امبارح حمارك؟ وهكذا يتم استعمال المفردة (الإجابة) غناءً، وربما كانت هي افتتاح لبدء التسلية بخراف “السمي او التسامي”، أي الأحاجي والألغاز المعروفة.
(**) تقع براك شرق وادي الشاطئ جنوب ليبيا ضمن سلسلة من المدن المُمتدة، تبدأ شرقا بأشكدة وتنتهي غربا بأدري، ومدينة براك أكبرها مساحة وأكثرها كثافة سكانية قديما وحديثا، وكانت مركزا إداريا وتجاريا لإقليم فزان بصفتها محطة لتجارة القوافل ونموذجا للواحة المستقرة، ثم مدينة حضرية في الوقت نفسه.