يقوم موقع بلد الطيوب، بالتنسيق مع لجنة المسابقة، بنشر المشاركات الفائزة في جائزة القارئ للكتابة الإبداعية في دورتها الأولى.
الترتيب الأول: قصة (الواحة)، للقاصة: آية وشيش حسن.
عبست الصحراء في وجه الليل، التفّتْ كافة الحيوانات البرية على صغارها وخيم الهدوء، رقصت رياح القبلي رقصتها المعتادة، ورحل السراب ليستقبل نهاراً جديدا.
أيقنتا أن النجاة كانت كأعجوبة؛ يحدث أن ينجو المرء من الموت، لكن لا مفر ولا نجاة من الحزن!.
أمسكت “آنا” يد “ماتيلدا” وربتت على كتفها قائلة: “لا يكاد المرء يصدق كيف للحياة أن تنقلب رأساً على عقب في ليلة وضحاها!”.
كانت آنا قد غلبها الوجع فضمت جربوعها الصغير وانهالت بكاء بينما لا تزال آثار الصدمة تحيط بماتيلدا إحاطة تامة، الأمر الذي مكنها أن تربط جأشها حتى تنجوا!.
قالت آنا والدمع ينهال على خديها:
“هل يمكن أن نعيش وسط كل هذا الشتات، إذا صمدنا اليوم من ذا الذي سيضمن لنا الحياة للغد، ثم أننا نملك صغاراً يا ماتيلدا! ألا ترين أجسادنا هزيلة ووجوهنا متعبة، لا حليب يملأ أثداؤنا، لا شيء يشبهنا سوى الفقد والكثير من الألم”.
لم تشأ ماتيلدا أن تبكى، أخفت كل ذاك التيه وحفرت في الصمت لعل صمتاً آخر يخرج عليها فتغرق فيه، فللصمت أوجه عديدة كالاكتفاء والرضا، السعادة أحياناً واليأس وبعض الحسرة. وحده الصمت في حياتنا حياة بمعالم وملامح أخرى، انعدام الكلام الذي يستوعب كل الكلمات.
كانا وحدهما يهيمان في الدفء فلم يطلهما ضجيج ماتيلدا ولا نحيب “آنا”، يمتصان حلمات فارغة لكنها رطبة، يسكتهما الحب كلما اقتربا من أثداء أمهاتهما. أحضان الأمهات ميناء السلام الذي ترسو فيه كل سفن القلق الذي يحملنا لبحر الخوف وشواطئ الغربة، وبهذا الحدث قد أكملا أسبوعهما الثالث عقب ولادتهما.
الأيام الأوائل من عمر الروح لا تدرك حقيقة العالم ولا تنتبه لما حولها من مخاطر، لم تعي بعد ماذا تعني أدوات الاستفهام الثلاث: متى وكيف وأين. تميز كليهما بوجه ذي علامات فريدة. فَـفران ابن ماتيلدا يملك أذنان كبيرتان مكنتاه من أن يحمل ملامح الغباء، لكن براين ابن آنا كانت لديه عينين عميقتين تبدوان كما لو أنهما عينا بومة شاردة في حالة ترقب لفريسة.
انقضت الليالي العجاف ما بين ماتيلدا التي تخطط للحصول على طعام في صحراء تعج بها المخاطر، وآنا التي تهتم بصغيرين وتعلمهما قوانين الحياة التي اختار القدر أن يكونا أبطالها!.
ما أبشع القدر الذي يرسم مالا نريده ويلون أحلامنا بما لا نحب ويغير مساراتنا إلى طرق لا نهواها. للقدر حكمة غريبة حكمة لطالما جعلتنا أمامه كحبة رمل.
كانت ماتيلدا تقفز بين الكثبان تلتقط حشرة من هنا، بقايا عنصل من هناك، القليل من فضلات البشر محبي التخييم في الصحاري حتى التقت في إحدى مغامراتها “بقربي”!.
صاحت ماتيلدا بما امتلكت من علو صوت: قربيل قربيل!.
لم تصدق عيناها لوهلة لِمَ تعتقد أن الحياة التي جردتهم كل شيء وأخرجت أنيابها لهم، ستبتسم ولو قليلاً لتهديها صديق زوجها في نهار صحراوي تبدو فيه الشمس عمودية بتوهج النار.
الحياة بطبيعتها تمتلك عنصر المفاجأة بإمكانها أن تباغتك بما لم تحط به خبراً وأن تخيب آمالك بكل ما أحطت به خبرة أيضاً.
انطلقت مسرعة في اتجاه قربيل، واتجه هو بدوره مسرعاً ناحيتها، التصقا جسديهما بعناق طويل يليق بحجم المعاناة.
ردد قربيل يشوق:
– آه يا ماتيلدا.. ظننتكم موتي، كتبت أسماءكم في قائمة المفقودين.. من معك منا؟ هل كرستوان بخير؟ ماذا عن أولادك؟ ماذا عن آنا؟ هل هي معك؟ آه يا ماتيلدا عيناك البنية ووجهك وشارباك، إنها أنت, أنت.. إنها أنت حقاً!.
وقفت ماتيلدا بعد ترحيب، أخذ يرتق روحها شيئاً فشيئاً، لقد أسقتنا تلك الليالي الدامية الحنظل يا قربي حينما غارت أسراب الطيور الجارحة على مواطننا، هربنا بعائلاتنا إلى جحور النخيل، لكن عبثاً كأن الحزن لم يشبع. هاجمتنا قطعان الذئاب وافترسوا انكويت زوج آنا وكرستوان زوجي وابني دولنت، ومن حسن الحظ استطعت أن أنجو بابني فران، وآنا كذلك نجت مع ابنها براين، وركضنا حتى منتصف الوادي، وعرجنا عقبها لهضاب الكثبان، مكثنا هناك في جحور الصخور الأثرية.
أخذ الحزن يعصر قلب قربيل ويردد: “يا للهول، المصائب حين تجتمع على رأس جربوع”.. ثم أردف: “لا يمكن أن تمكثوا للأبد في جحور الصخور، سيشتد الحر وتخرج الأفاعي، كما أنه لا ماء وفير في هذه المنطقة سيحييكم، لابد أن تأتوا معي، لقد عقدنا مجلس تحكيم ولجان طوارئ وأطلقنا حملات تعقّب للأفراد والقبيلة، ونعمل على توفير جحور للمنكوبين. لقد وجدنا واحة تبعد عن هنا مقدار 1000 قدم بشرية، يمكنني حمل الصغار ومساعدتكن للعودة. لا أعتقد أنك ستعترضين يا ماتيلدا، لن تعارضي على كل حال.
غطت الغبطة وجه ماتيلدا، وأخذت تقفز هي وقربيل حتى جحور الصخور الأثرية لتخبر آنا عن جمال الصدف. لم تصدق آنا أن قربيل واقف أمامها. أطبقت يديها على جسد قربيل وأخذت تدور به منتشية بفرح عارم، حتى أغرق قربيل وجهها بالقبل فتوردت خجلاً أمام ماتيلدا!.
كان قربيل من جرابيع القبيلة الشجعان، له رصانة وجلد وهيبة، لكنه مجهول النسب. وقع في حب آنا في مرحلة الشباب، ونشأت بينهما علاقة باءت بالفشل، ما أن علم بذلك والدها غرموفاف – والسيد غرموفاف هذا من رجال الحاكم، فهو يده اليمني ومستشار القبيلة الأول، يحظى بمنزلة اجتماعية مهابة- لم يحلو له مطلقاً زواج ابنته آنا الوحيدة من جربوع يدرب أبناء القبيلة وجندها، يمتلك منزلة أقل وينتمي للعامة ومجهول النسب ومنسوب لدار الأيتام، فسارع بتدبير خطة لإبعاد آنا عنه، فاستأجر جربوعة من نادي الترفيه العالي وضمها للجنة التنظيمية القائمة على مهرجان الحكاية السنوي وأوصاها بأن تروي للحاكم خرموزاف مديحاً يليق بابنته حينما يختارها لخلوته، وأن تحثه على اختيار زوجة من حاشية الحاكم، وأردف وهو يمد لها كيس البذور إذا حدث ونجحتِ فيما أوصيتك به سأعطيك ثلث ما تتحصل عليه ابنتي من بندق وجوز يأتيها كمهر.
نجحت الجربوعة عجفاس التي استأجرها غرموفاف في تحقيق مبتغاه، خاصة وأنها من ذلك النوع اللعوب الذي يحظى بمكر ودهاء الإناث. إن الإناث بطبيعتهن يحظين بقدر وفير من المكر والدهاء. وسار الحاكم خرموزاف يعقد العزم على تزويج ابنه انكوين من ابنة غيرموفاف “آنا”.
كان كرستوان جربوع مثير للجدل، خاصة أنه يمتلك طباع التواضع على غرار أخيه كريستوان الذي كان ميّالا للتفاخر بنسبه العريق ودمائه الملكية النبيلة، وحينما تزوج انكوين من آنا، شعر كرستوان أخيه بالحب ناحية صديقتها ابنته الباش حكم دار كاتب العدل لدى الجحر الملكي “بربوجير داندون” لذلك سارع الأخير بطلب الزواج من ماتيلدا بربوجير داندون في يوم ظلت قبيلة الجرابيع الكبيرة بقرية الجحور الملتوية تتحدث عن أضخم زفاف ملكي حدث في قريتهم مذ أًسّست على أيدي أجدادهم بعد نكبتهم السبتمبرية التي خاض أجدادهم فيها حربا تطلبت أن يجروا تحالفاً مع قطيع مهاري الوادي، لبسط النفوذ على منطقة الجرابيع، وتحصينها ضد عدوهم اللدود أسراب الطيور الجارحة. بطبيعة الحياة لا يكمن للمرء أن يحيا بمفرده إذا لم يتحصّن بالجموع، إنه قانون التوازن العجيب, فلا لوم على قوي وجد فيك ضعفا، ولا لوم على لئيم رآك كريما.
عادة ما يسحق الطيبون والضعفاء إذ ما اتحدوا. إن الجموع تحمي الجموع، وأن القوة هي الكفة الوحيدة إذا اجتمع معها الذكاء، التي إذا مالت تصلح لصنع حياة كالحياة.
قفزت كل من ماتيلدا وآنا مع قبريل وأبنائهن حتى وصلوا لضفاف واحة الكفرة، هناك كانت بقايا قبيلة الجرابيع تتجمع، كل أولائك الذين نجوا من هجوم هو الأكثر شراسة في تاريخهم، والذي حدث عندما حلل شيخ قطيع مهاري الوادي أكل لحم الجربوع، فخرقوا وثيقة التحالف حينما اشتدت عليهم الليالي العجاف فلم يعد هنالك صبّار في واديهم يقيهم الجوع، فاختاروا أن يأكلوا أصدقائهم!. يحدث أن تأكلك أصدقائك أحيانا! الأمر الذي جعل أسراب الطيور الجارحة تنتهز الفرصة وتضرب ضربتها، فتشرّد أفراد القبيلة وأبناءها ومات معظمها وهاجم الباقون قطيع الذئاب.
لا شيء يشبه الحياة حينما تود أن تسخر منك فتجعل من وجعك ألف وجع، وآهاتك سيل هادر من الآهات، وهكذا أمست قرية الجحور الملتوية, خاوية على عروشها ولم ينجو منها إلا 2000 جربوع فقط!.
سارعت أنا وماتيلدا لتفقد قريباتهن، وصديقاتهن وعوائلهن، لكن يا للحسرة، فقدوا العائلة المالكة: الملك والمستشار وكاتب العدل!، ولم يظل من جيشهم ولا حكماء قريتهم وشيوخها أحد، إلا قلائل، وظلت كل منهما تحاول التكيف مع وضعها الجديد، وكيف لجربوعات الدلال أن يؤكلن كباقي العامة ويشربن ويخرجن وحدهن لسد رمق الجوع، تلك اللواتي ظللن طوال العمر يرمقن الحياة بعلو النسب!.
كانت ماتيلدا -حينما تصيب آنا الكآبة- متحسرة على ليالي العمر المهدورة، تضحكها ماتيلدا قائلة: إن الأيام التي نحياها الآن لن تكون أصعب من ذاك الشعور الذي مررنا به ونحن تائهتين في صحراء شاسعة. اعتقدنا فيها بكل ما أتينا من بؤس ويأس أننا انتهينا. افرحي قليلا يا آنا، لقد تبقى لنا أبناء، ولدينا ما يجعلنا نكافح. الأبناء يا آنا شيء من الأمل في هذه الحياة، أنظري لوجهيهما، لشاربيهما، ألا ترين؟. بات البلوغ قريبا وسنحظى بمن يحمي كهولتنا يا آنا.
كانت آنا تضحك كلما قررت ماتيلدا أن تداعبها بشيء من الأمل. يحدث أحيانا -وبشكل متكرر- أن نضحك في حضن الاكتئاب!.
كانت الكفرة واحة جميلة في جنوب ليبيا، سكانها طيبو الطباع، تمتاز بوفرة الماء وجمال الطبيعة، ولها تاريخ يعتز به الليبيون أصحاب النفوذ في تلك الرقعة الأرضية. يكثر فيها النخيل، وتنعم بالأمن، لذلك قررت جموع الجرابيع الناجية أن تخيم هناك على أطراف الواحة. كبر كل من براين وفران، وآن لهما أن يعتمدا على نفسيهما، فحرصت كل من آنا وماتيلدا على تعليمهما فنون الصيد ومواجهة طيور الصحراء الجارحة، وبذلك استعانتا لتدريبهما بقربيل. خلال ساعات التدريب اكتشف قربيل مميزات كثيرة لديهما. فبراين مثلا كان ماهرا في الاقتناص ورسم الخطط للوصول للثمار والإيقاع بالحشرات بسهولة. لكن أذنا فران مكنتاه من الاستماع بوضوح لأي صوت بعيد، وكان بذلك يتنبأ بحدوث أي هجوم من الحيوانات الأخرى قبل حدوثه، الأمر الذي شجع قربيل على أن يعرض اسميهما في ملتقى شجعان القبيلة، الذي انعقد بعد الهجوم الأخير، ليعيد من خلاله بناء قرية الجحور الملتوية على ضفاف الواحة، ولملمة أسر الجرابيع المفقودة والميتة عقب نكبتهم تلك.
في موعد انعقاد الملتقي الرابع أقبل قربيل على براين وفران وألح عليهما لكي يصطحبهما معه. بمجرد أن انخراطا في مهام الملتقى, حتى ذاع صيتهما في أرجاء القبيلة، وكان الجميع يتحدث عن حذق براين وحكمته وطيب قلبه. ونباهة فران وقوة جسمه وبأسه. وذات يوم طلب مجلس شيوخ القبيلة ضرورة أيجاد عدد كبير من الطعام، كي يتم تخزينه لصالح جحور رعاية الأيتام والعجزة، خلال أيام العجاج السنوية، وصار الجميع في الملتقى يفكر ويخطط لكي يجد مصدر أكل كبير يتمثل في نباتات مختلفة الأصناف والأنواع وحشرات يمكن اصطيادها بسهولة وتخزينها، ولم يجد الجميع أفضل من حديقة السيد سالم آغا، حيث أنه كان رجلا تارقي الأصل، طيب القلب، يمتلك بشرة سمراء تركت الشمس آثارها عليها، وعينان جميلتان مكتظة بالرمش الطويل كما الخيزران، يتلفظ تارة بكلمات عربية وتارة بأمازيغية, كان السيد سالم رجلا محبا للنبات، حيث خصص في رواق بيته حديقة أجاد زراعة القوطة والبقدونس والملفوف فيها، وكانت ممتلئة بأشجار النخيل العالية، والخيرات من الفاكهة والخضروات الكثيرة. ورغم شدة ارتفاع الحرارة بالواحة إلا أن السيد سالم تمكن من جعل حديقته مكانا ملفتا للانتباه، الأمر الذي جعل قبيلة الجرابيع ترى في الحديقة جنة ونعيم لهم، وحينما قام أفراد الملتقى بطرح فكرة الهجوم على بيت السيد سالم ليلا، لقت الفكرة رواجا كبيرة وإعجابا من كافة المنتدبين هناك، أولهم فران، إلا أن قربيل رفض ذلك بشدة، وأخبر المجلس أنه لن يتنازل عن مبادئه ومعتقداته، كون السيد سالم قد سمح لقربيل أن يقيم جحره بعائلته داخل بيته، ولم يتعرض لقربيل بسوء طيلة بقائه بمنزل السيد سالم، إلا أنه أشاد أيضا بحسن معاملته له وتأمين الطعام لعائلته ولبعض العائلات التي تقطن في الجحور المجاورة له، كونه يناصر حقوق الحيوان ويعترف بها في حال لم تسبب للبشر أذىً، كان براين يوافق مبدأ معلمه قربيل ويشد على يده ويحاول قدر الإمكان أن يقنع أفراد الملتقى بضرورة الاستغناء عن فكرتهم، ليحققوا بذلك مبدأ الفضيلة، لكن فران فضل البقاء على عقيدة الملتقى، وأن أيتاماً من الجرابيع الصغار الضعاف والمرضى العجائز منهم أشد حاجة للطعام، خلال أيام العجاج القادم، الأمر الذي أدى إلى غضب عظيم اتجاه كل من قربيل وبراين اللذان وقفا ضده بكل ما امتلكا من حكمة وفضائل.
أصبحت العلاقة بين براين وقربيل متينة، وبات يشعر بشعور الأب اتجاه براين، الأمر الذي ذّكره بأيام الصبا وعشقه الملازم لآنا، خصوصا عقب وفاة زوجة بيتي، بعد أن أنجبت له ابنته سينوري، وهي جربوعة اشتهرت بجمالها، حيث كانت تمتلك ذيلا طويلا يغطيه الوبر الناعم والمميزة بتموج اللونين الأبيض والأسود وعينان لوزيتان حادتا النظر وشاربان منتفخان مثيران. لفت جمالها براين منذ الأيام الأولى التي بدأ فيها بالتردد على جحر قربيل، وصار التردد دائما عقب شعوره بالحب اتجاه سينوري التي بادلته هي بدورها الحب، خاصة صارت مغرمة به أكثر عندما بات اسمه لامعا بين أفراد جيله، وصفاته الطيبة جعلته محبوبا من قبل الجميع. لكن فران الغاضب لم يهدأ بتاتا، وظل يخطط للهجوم على حدائق سكان الكفرة، خصيصا منزل السيد سالم أغا لذي ظل غايته وهدفه الأسمى، وصار يغزو بأفراد من جرابيع ملتقى الشجعان الحدائق والمزارع، أو يسرق الخضروات والفاكهة، وسرعان ما بات انزعاج سكان الواحة واضحا من تكاثر الجرابيع، وصار الجميع يتذمر من انتشارها هنا وهناك، فسارع الحرس البلدي لتنظيم حملات نظافة واسعة المدى للحد من تواجدها، وصار يوزع على السكان مبيدات القوارض المميتة للتخلص من الجرابيع, فيما ضرب براين موعدا غراميا تحت النخل ليتقي بسينوري. ذات مساء أخبرته قائلة:
براين لقد بات حبنا وما تبقى من القبيلة في خطر جراء ما يقوم به فران من جنون، لا يمكنهم مهاجمة السكان بهذه الطريقة، لقد صار وجودنا في منزل السيد سالم مثيرا للقلق. أنا خائفة جدا.
رد براين بعد أن مطّ شفتيه وعبس..
لقد حاولت يا سينوري أن أجتث التهور من جمجمة فران، أنا ووالدك. إن ما يفعله فران سيجعلنا منبوذين في هذه الواحة وسنضطر للعيش في الصحراء الشاسعة، وبذلك سنصبح معرّضين لكافة أنواع الحيوانات الشرسة، ونحن ضعاف إلى الآن، لم نشكل تحالفا أو نجمع قوة ونصنع قرية مجددا، إن هجماتهم الكثير والمتكررة على ممتلكات البشر ستجعل الحروب بيننا وبينهم قائمة ومستعرة، لقد حاولت لكنني فشلت. فران لا يمكن أن يكون حكيما مطلقا ومن لا يملك الحكمة سيعجز عن تفادي المشكلات, الحمقى ياسنيوري دائما وأبدا لا يجيدون التخطيط بقدر ما يجيدون الاندفاع.
حينها خيم الجو الكئيب بعد تنهيدة قوية خرجت من صدر سنيوري، سارع براين بسرقة قبلة من وجنتيها ليزيل من عليها القلق الرهيب. أصابها الخجل لوهلة لكن الحزن أثقل كاهلها فأخبرته أنها استرقت السمع لابنة السيد سالم آغا سرين أثناء محاولتها سرقة بعض الجبن من غرفة التخزين، بأن والدها قد جهز كافة أنواع المبيدات لمكافحة القوارض هذا العام، وهو مقبل على استخدامها في أسرع وقت!.
انتاب براين الفزع لبرهة، وأخبرها بضرورة الذهاب الآن لنقل الخبر لملتقى الشجعان ومجلس الشيوخ وعليها أن تصل بدورها لبيتها لتحذير أهلها بأنه قد وجب مغادرة جحرهم فورا!.
أخذ براين يقفز سريعا حتى وصل مقر الملتقى فوجدهم على أهبة الاستعداد، متخذين كافة الاحتياط للهجوم على حديقة السيد آغا فالتفت إلى فران وهزه بيده قائلا: (ستوقع بالقبيلة جمعاء في بئر جهنم، هل جننت، إن المدينة بأكملها باتت تستخدم مبيدات القوارض وسينتهي أمرنا، أرجوك قد يبدو في الجبن حكمة أحيانا، سنحاول تفادي العجاج بما نحصل من هجمات متقطعة على مدى فترات متفاوتة، لا يمكن أن تضع كافة جنودك وهم قلة في هجوم واحد قوي، ستخسر يا فران وتعود أدراجك تجر أذيال الهزيمة وستسوء أحوالنا بقدر ما هي سيئة.
لكن فران لم يسمع وأدعى بأن براين خائن ومتعاون مع البشر ضدهم وأنه وهو وسيد قربيل متهمان بخرق مواثيق الوفاء للملتقى، ومن هنا قام بأمر الجنود المتواجدين بتعليق براين حتى الصباح على جذع الشجرة إلى حين إتمام المعركة, حينما برزت قدرات برين في الهجوم عينه رئيس الملتقى لقيادة وتكوين جيش الجرابيع، حماة الديار، وبهذا الأمر أصبح فران صاحب نفوذ, تقدم جيش من شجعان الملتقي بقيادة فران للهجوم على حديقة السيد آغا الذي كان قد قام بتحصين كافة نبتاته ورش أرضية البيت بمبيدات القوارض، الأمر الذي أدى إلى تسمم كافة أفراد الجرابيع وموتهم بمجرد اندلاع الهجوم!.
في حين كانت المعركة قائمة اجتهد براين في قضم حبال القيد بأسنانه القوية حتى فك الرباط وتحرر، وأقبل يهرب بحذر خلال انشغال الجميع بالمعركة، الأمر الذي غيّبه عن أعين الحراس واتجه مسرعا كالبرق لحديقة سالم آغا لينقد أبناء جنسه، لكنه تأخر في الوصول، فقد تفاجأ بأن أولاد السيد سالم قد باتوا يحملون المبيدات وينزلون بسوائل الموت على رؤوس الجرابيع، في حين شهد موقفا بطوليا أي أن السيد قربيل قد قام بحماية فران من إحدى الرشات القوية، حيث قام بتخبئته تحته، وأخذ في استنشاق المبيد بدلا عنه، الأمر الذي أدي إلى نجاة فران من النكبة تلك. عمل براين في إسعاف الجرابيع المصابة ونقلها إلى ميدان الملتقى ليتم تطبيبهم هناك وأخذ يقفز ذهابا وإيابا وكان يجر خلفه فران الذي يعاني فقداناً تاماً للوعي.
في الصباح عندما اجتمعت كافة الجرابيع في الملتقى وسط عويل وبكاء الأرامل واليتامى، كان قد استعاد فران وعيه وبات في تحسن، وصار جاهزا للامتثال أمام مجلس شيوخ الملتقى لتبرير مواقفه جراء ما حدث. هنا كان الحسم.
حينما تقدم كرموشتاف -وهو رئيس الملتقى- متسائلا ماذا حدث , أخبرهم فران أن براين جاء إليه برسالة من سيد قربيل تخبرهم أنه أنظم إليهم وقد جهز لهم المكان وهيئ لهم الأجواء وأن عائلة السيد سالم قد باتت خارج منزلها، متهما براين بأنه جاسوس يعمل لصالح البشر وعليهم مقاضاته وطلب منهم إعدامه شنقا حتى الموت في وسط اندهاش عظيم اجتاح براين الذي بات لا يستطيع النطق، عدا قوله “لكن الجنود شهدوا ما دار بيننا البارحة”. رد فران قائلا إنه كاذب وأن كل الجنود لقوا مصرعهم البارحة ولا يوجد من يشهد على صحة ما حدث لنا سواي، وبذلك أخذ مجلس الشيوخ وباقي الجرابيع يطالبون بإعدامه وسرعان ما نصبوا له مشنقة وجرجروه وشنقوه حتى الموت وسط صخب من العويل الذي كانت تطلقه آنا قائلة:
ابن عمك يا فران، ابن عمك يا غبي، لحمك الباقي وسندك يا وغد.
كانت آنا تصرخ مستجدية ماتيلدا أن تقف بجانبها، كانت تطلق عويلا يملأ المكان، هي وسنيوري المسكينة، لكن شيئا من الصمت خيم على ماتيلدا التي أودعت كل ما بها من مشاعر في صمتها الأبدي، في لحظة ينهار فيها الود لصالح البقاء ومما لا شك فيه لم يفعل فران ذلك لشدة حقدة على براين إنما لحبه المفرط لسينوري التي قام بإخفائها يوم تتويجه في حفل الملتقى الخامس قائداً للجنود، فيما احتكم الملتقى على تنصيب براين الولي للحكم كونه ابن ولي العهد وسليل الملوك، الأمر الذي جعل الحقد يأكل قلب فران مرددا:
حبيبتي والعرش! براين! حبيبتي والعرش !
عقب الحادثة تقلد فران منصب الحكم وصار ذو شأن وتزوج سينوري غصبا بموجب مرسوم من السلطة (الملتقى والشيوخ)، ولكن سينوري أقبلت على الانتحار بعد ولادتها لجربوعها الأول كومبو تاركة إياه يناجي طيف حبيبته مطلقا صرخاته قائلا:
كنت الأكثر حكمة والأكثر. حظا كنت الأجمل والأكثر حبا. كانت تحبك أنت لكني كنت القوي, أخبرتني يوما أنه لا لوم على قوي رأى فيك ضعفا، وأخبرتني أيضا لا لوم على لئيم رأى فيك كرما، كنت أعتقد أنني القوي، واتضح أنني الأضعف، كنت أعتقد أنني الأكرم فوجدتني اللئيم.
كانت ماتيلدا قد أقبلت على فران في انهياره أمام جثة سنيوري في صمت مهيب أعطته بعضا من الماء ما لبث أن ارتمى ميتا بجانب سينيوري وجلست بجانبهما ماتيلدا تزفر تنهيدة عميقة قائلة: إن ابنة كاتب العدل تعلم كيف يتم العدل. لا خير في ملك يقتل دمه، ولا خير في حاكم يعذب الرعية، ولا خير في غبي يقود قطيع. أقبلت عقب موت فران بجانبها ترفع كومبو من فراشه وتردد: أسال الله أن يحشوك بطباع قبريل ويحميك بطيب سنيوري ولا يلحقك من دنس أبيك شيئا.
صارت ماتيلدا هي الحاكمة بموجب شرع الملتقى، كونها الوصية على ولي العهد، وصار عقبها الجرابيع يرتبون حياتهم وفقا لشروط الحياة بعد أن علمتهم أن الجموع وحدها إذا توحدت صار لها شأن.
بنغازي /ليبيا – 2016 م