الخراطيم مقّلصة والصنابير ظامئة والحيتان فاغرة أفواهها.. وغابات الصبّار تستنزف الطاقات بالرغم من أجسادنا النازة بعرق الانكماش ولسع السياط العالق بنا كذرات رمال متصمّغة إلا أن الشفاه والأهداب تتحدى النواجذ الزعاف.. صمت مخجل يخيّم على أجوائنا..أهي الرغبة عن اللا جواب أم هروبا من صدى الأجوبة الوقحة ؟!، ذاكرتي تسوح كبقعة زيت طافية.. تردم شاطئ أساي المتورم بذريراتها الذارفة، البحر يلفظها هناك حيث اشتممتُ بذاكرة الماضي رائحة طازجة، ليس بخور والدتي قسامي ولا سخاب جدّتي الفزّانية ولا زهر جدي الفيتوري ولا جاوي سيدي عبد السلام ولا صابون السوسي الذي تستعمله جدّاتنا في غسل ملابسهن النظيفة أصلاً، ولا المروّن الذي تبلل به أمي شعرها، الرائحة ليست لقفة عمتي التي تأتينا بها من البر محملة بخيرات الله، ولا رائحة عطر “البروت” الممتزجة بدخان الروثمان التي تفوح دائماً من حضور أبي، ولم تكن الرائحة للسجائر المعمّرة بالكيف التي يدخنها المراهقون تحت نافذة بيتي المستأجر بالصابري، ليست للمفرقعات والقومّات التي يشعلها التائهون تعبيراً عن احتفالهم بعيد المولد النبوي، الرائحة ليست لبحر الصابري ولا لعجاج سيدي المهدي، ليست كرائحة المعقّمات، إنها رائحة شياط الفجيعة المنبعثة من الجثث متفسخة الهوية والحلم، حللتها ذاكرتي عبر وشائم الوجع النازف وصرخات الفجائع المدبوغة علي جبل من الضحايا بمذابح سجون العالم التي أشتمت ذاكرتي الماضية قذارة فعل يلازم هول ماحدث لكنه يعجز عن التطاير والطيران مع المتشظيات السابحة في ملكوتات طاهرة متجددة كموج البحر الحي، خلف كل حياة حيوات حتي وإن لم تكن جديدة فحتماً ليست كالتي عشناها.
كان لدى أمي صندوق أثرى متوسط الحجم بالجرس ترصعه نقوش نادرة داخله مرآة.. يحمل ذكرى عمر.. رافقها فى ترحالها من الشرق الى الغرب وكانت دائما تقول:
“هالصنيديق عندى كيف واحد من اعويلتى “خذاته زوجة بوي وعطاته لاختها لعبوا عليه صغارها وين ما تكسر حمت بيه التنور.. شفتها يادكتور بعيني هذي.. وماقدرت انقول كلمة حياة مينتي عاشت في القهر وماتت مقهورة.. بالله يادكتور..أخطر الأمراض التي لا تؤدي بحياة المرأة بقدر ما تقتلها هي الضرة..”الضر مر ” وبالذّات لما تجى بالخونة.. نذكر عطتنى المرحومة أمي ورقة مطبوعة طلعتها من جيب معطف أبي العسكرى، مازلت وقتها فرحانة بتعلمي للقراءة.. أي ورقة اتجى قدامى نقراها حتى في الشارع.. لافتات المناسبات الوطنية، لافتات الدكاكين، لوحات الإعلانات، خذتنى الدوّة على فرحتى بسهولة القراية، نكمللكم على الورقة الي فى جيب باتى.. تفطنت أمي لمبالغة أبى في اهتمامه بهذه الورقة وقالت لي عندما سألته عنها ارتبك وتغير لون وجهه.. أدخلتنى غرفة نومها مخترقة قانون نظامها الذي لا يسمح لغير الزوجين بدخولها..امتنعت كعادتي عن الدخول لكنها سحبتنى من يدى.. فدائما تقول غرفة النوم لها حرمتها المقدسة وخصوصيتها.. ومدت يدها فى جيب معطف أبي المعلق في أذن المشجب وأخرجتها قائلة بحزم أقرى المكتوب فى الورقة سلم بنيتي وما تكذبيش راه نعطيها لهويدا تقراها والا سالمين بنيات جاراتى.. كنت لا أفهم فى الحياة شيئا قرأت المطبوع فى الورقة دون فهم للمعنى كببغاء يردد ما يسمعه دون إدراك دارت أمي مرتين حول نفسها صافعة صدرها:
-“باهى..الله ايسامحك يامصطفى.. مزوّر موافقتى وبعد هالّى تحملته كله نطلع مريضة وما نقدرش على راحتك وعاجزة شرعيا عن واجباتي الزوجية واللى فى بطنى كيف جاء “. قالتها بنت صويدق.. زيدى رقعيله يا مضحكة الفّراشات برداواتك وعلقى صورته وهو يكذب عليك عندى مأمورية يا نيّة موتيتيله شنطة الدبش.. حقه فتحي حكومة فى سوق الجريد يشرى فى قفاطين صبايا وفيلو بيتزوج عليك يا طايحة السعد..الكلام هذا في زواجه من الدرسية اللي جابها من البيضاء واللائي راودنها له عماته وأشتركنا في جريمة التستر سليفاتها..بنيات عمها واقف.. أذكر يادكتور كم أرتعدت فرائسها عندما أبلغوها عن حادث سير تعرض له أبي وهو عائد من البيضاء وكيف هوت به السيارة من طريق وعر مرتفع ليسقط من سيارته علي كوز رملي ساعده علي النجاة فأنكسرت عظمة الترقوة وشج رأسه أثر تهشم زجاج السيارة الأمامي فوق رأسه مما أستدعي عملية جراحية لنزع الزجاج المنغرس بجمجمته وكانت حالته خطيرة وأذكر أن عمي عوض أبن عم والدي هو الذي أخبرها ليلا وحاول التهدئة من روعها.. أذكر كيف أزالت ربطات حنتها بسرعة جنونية فورما فتح أخي خالد الباب وسمعت صوت عمي عوض وسط الحوش ينادي:
– قسامي.. قسامي.. السلام عليكم ياعرب الحوش !
نقلونا إلي بيت خالي نصر بالزرريعية لنجد جدتي الفزانية صابرة علي ماعطاها ربي وجامطة !
حاولت التخفيف عن ابنتها لكن عمتي سالمة لم تجحد خبر زواج أبي عن أمي.. في حين أن جدتي تهمز وتلمز ولكن دون جدوي
– خليها تعلم كلنا علمنا وهي غافلة
فأخذت أمي الطيبة تشد خصلات شعرها المضمخة بالقرنفل تولول:
” طويرة في عشها طش من يطشها “.
ودارت الأيام وطش ربي كل من كانت له يد في هدم عشها الذي كانت تحسبه أمنا وسلاما بدء من تفاحة التي ذهبت لتعيّد علي أهلها بمدينة إجدابيا فلا تدري إلا وسيارة تنزل كل مستحقاتها حتي غرفة نومها أمام بيت أهلها وأعلن عمي تطليقها وأدي ذلك لخلافات مستعصية أستشري داءها وكاد يفتك بجسد العائلة ” الي يديره الحي يلقاه ” ” حتي العمي في عكوزه اللي يقود فيه” ومنيش مكملتلك يادكتور شن صار في عقابهن ” المرض والموت وخراب البيوت مافشي شماتة ” لكن أمي طيبة وربي عطاها علي قيس نيتها.. حتي بعد ماصح من الكسر وطلع من المستشفي أحضر عروسه الهجّالة الّدّرسية التي سبق لها وأن تزوجت بإثنين من قبله.. حضرن بصحبة أبي وعروسه سلفاتها اللائي أفتعلن صدمتهن بسماع الخبر ومثلن دور المواسيات علي أمي في حين أن صور ” العقد والزفاف ” أظهرت خلاف ذلك ” وفتحية زوجة عمي ظهرت في إحدي صور الفرح تتقلد قلادة أمي ” الليرة الكبيرة المفتولة حوافها بحبل مشبك كبيرة الحجم عيار واحد وعشرين التي مازلت أحتفظ بها شاهد طزاجة علي زيف البشرية وخداعها.. فلم أفكر في بيعها ولا حتي رهنها رغم ما واجهناه من عوز وفاقة.. المهم أستقبلتهن أمي وقدمت للعروس هدية وطبخت العشاء وبعد أن أطمئنوا أعمامي علي أستتباب الأمن أخذوا زوجاتهم وذهبوا.
من أين لأمي أن تسلك سلوكا مشينا أو أن تتصرف تصرفا غير لائق.. لوكنت مكانها لطردتهن شر طردة وسلمته أولاده وكل ما من الممكن أن يربطني به وطالبت بورقة طلاقي فورا.. لكن والدتي رضعت من جدتي الفزّانية حليب الصبر والحكمة كوالد تها التي ذاقت الأمرين من جدي فهو لم يدخل إلي غرفتها مدة ثلاثة أشهر بعد أن بني بها في الليلة الأولي مرغما.. وذلك لسمار لونها فوالدته ” الحاجة مباركة ” هي من أختارتها له والجميع رحلوا وتركوها معمرة بعقل ناضج وصحة جيدة ويد من حديد وتزوج عليها سبعة وكانت تحتويه كلما طلق وتبارك له في كل زواج جديد لأنها واثقة بأنها هي النخلة السمراء الراسخة بجذور الخير والرحمة في أعماق الحياة !.
القهر اللى شالاته امى ماتشيلاش الجبال وعلى ماشربت من مر لاهى روت ولا البير بخل بشرابه..وأذا قلت لها دعى من تحت التراب بينهم بين بارئهم جنّ جنونها.. تشد شعرى وتلويه على يدها قائلة ” أنعنك لحيقـت العفريتة أمك يا وجه الشر ” ودائما توغرغمازاتى أشعر أنها ستثقب شدقى وفي شهوات ساديتها تكوي مؤخرتى بالملعقة المتجمرة فأبكى وأصرخ من آلام لا تحتمل لكن أخجل أنْ أطلع أبى أوعمتى أوأى كان على الأمر، أجد صعوبة في البقاءجالسة على مقعد الدراسة، لابد أن أتزحزح عنه قليلا ليخف ألم الكي، ترمقني المعلمة بنظرة مفادها.. ألزمي الهدوء وبلاش حركة.. أعالج الكي بطماطم الحكيّة أياما حتى يبرأ.
علاقاتى بوالدى أعتز بها.. حواراته معى دائما هادئة وهادفة.. شفافة ومقنعة.. غير خجولة.. فهو دائم التحاور والمشورة معي.. ولا أخجل في مناقشه المواضيع بالغة الحساسية معه خاصة بعد وفاة أمي حيث صار أقرب إلى قلبي أكثر.. أطلب ما أحتاجه دون خجل.. عندما أكتب له في ورقة النواقص كلمة ( قطن ) كان يحتج بأن اللفظ غير محدد
– قطن شنو يابنتي !
أجيبه في خجل قطن نساء.. فيرفع رأسي:
– عليك أن تعلمى أني أبوك الأنثى وأمك الذكر فلا تخجلى فى المطالبة بحقوقك.. كل مرّة يحضر صندوق قطن نساء من الحانوت العسكرى.. لكنه سرعان ما ينفد لأنى لا أحتفظ به لنفسى.. أقوم بتوزيعه على بنات الجيران وبنات العائلة وأتبرع بمجموعة أكياس لمكتب الأخصائية الاجتماعية بمدرستي فهذا يعطيني شعورا بالسعادة لا يضاهيه شعور.. وعندما أعلمه أنه نفد.. يرفع يده اليمني بهدوئه المعهود الذي لم أرثه عنه ولم تستطع السنون أن تجعلني أكتسب حلمه واتزانه المغري الذي آمله لأولادي اليوم !
– يا بنتى الصندوق حلّه كمل..أربعة وعشرين كيس.. مش شوية !
– وزعته على بنات الشارع وبنات العيلة
– ماشاء الله عليك كريمة والله.. الكرم والعناد راضعينه فى الحليب ياسي.. من يوم وغادى يجيبولك بالكيس بيش تعرفى قيمة الحاجة..
ثقته بى لاحدود لها.. لم يهملنى بعد غياب والدتي الأبدى ولم يسمح لإخوتي بالتطاول علىّ.. لم يقيدنى فى زيارة صديقتى الوحيدة سامية.. التى أصبحت محامية متألقة وأنا فى شوق كبير اليها.. أبى يحبها كثيرا ودائما يعاملها على أنها أخت لى.. ويناديها.. بنتى.. ويخبر الحاج سليم والدها جبت بنت وحدة وربى أهداني الثانية !!.
– صديقتك ابنة الزليتنى خلوقة وأهلها ناس محترمين أبوها وإخوتها كلهم قدموا لى التعازى الحارة وكانوا حاضرين طيلة أيام العزاء والبنت لم تتركك لمدة أربعين يوما وهى معك كل مساء وساعدتنى فى عدم القلق عليك.. متى أردتى الذهاب اليها فلن أمنعك ” ألبسى بس وما عليك فى الباقى ” لايقيدنى فى أرتداء اللباس الذى أرغب خاصة على شاطىء البحر.. فهو يؤمن أن الأخلاق معاملة وسلوك..( واللى ما ينهاه عقله ماينهوه الناس )، وكان كلما اصطحبنى إلى السوق لشراء ملابس جديدة لا يماكس وإن سألت البائع عن ثمن بدلة أو زي أعجبنى يبتلع ريقة ويزم شفتيه حتى يرف شاربه
– ( مش شغلك أنت وازي اللى يعجبك خوذيه وأنا ندفع )
كنت أحملق في الملابس الداخلية ولا أستطيع أن أقترب منها حياءا وخجلا.. لكنه يقلب ماوضعته على البنك فلا يجدها بين ما اخترت فيحملني من يدي الى الأرفف التى تعرض الحمالات والتبابين والجوارب الرقيقة.. يطلق يدى
– على حسابك أختارى.. وكان ماعجبكش شيء المحلات واجدة وأنا فاضيلك ياأمولة..
ولكنى خجلت كثيرا ورفضت في المرة الأولي فأنتقى لي أنواعا كثيرة وصار يحضر لى كل هذه الأشياء من الحانوت العسكرى دزازين.. حتى أنى لم أستطع أن أغير بعض العادات التى ألتصقت بطبعى فأنا مازلت أكره السؤال عن التسعيرة وأبغض المماكسة وإن كانت الحياة قد علمتنى أنّ السؤال ضروري لئلا يحرج الشخص أو يتعرض لإستغلال.. أقنع بالحد الأدنى من اللباس لكني نهمة فى اللباس الداخلي.. فلم يحرمني أبى من ملابس النوم وكان يحثنى على الأستحمام قبل النوم ولبسها وعدم الخروج بملابس النوم من الغرفة.. كان الله فى عونه أخذ عهدا على نفسه أن يكون الأبوين معا.. لم يرفض لى طلبا.. وكان واضحا معي رحب الصدر وغفر لي كل زلاتي فعلا هو أب حان وعطوف بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان جليلة..
وعندما رسبت في الثانوية العامة بعد الملحق التكميلي وإعادة سنة بعده والإنتساب وكل هذا لم يجعلني أتحصل علي الشهادة الثانوية، فقررت الإنسحاب من مقاعد الدراسة نهائيا، لكن ذلك أقلقه وراح يبذل جهوده لإيجاد مجال يلائمني فهو محب للعلم والمتعلمين لكنه آنذاك كان هناك ضغط علي معاهد المعلمات ولايوجد فرع يستقبل متقدمات للمعاهد المتوسطة أي مايعادل ثالثة معهد سوي قسمي الفيزياء والرياضيات وأنا لن أستوعب الرياضيات والهندسة ولو حشروا دماغي داخل مثلث فيتاغورس العمر كله وبعد بحث وجهود مضنية تمكن من تسجيلي بمعهد المعلمات قسم لغة عربية.. أذكر أني تضايقت وبكيت.. صرخت ولطمت.. كيف لي أن أصبح
معلمة وأنا لا أطيق مهنة التدريس خلافا لأختي حنان التي كانت تلطخ دائما باب غرفتها غبرة الطباشير وكانت إذا ماهربوا عنها إخوتنا الصغار لشدة عنفها في استعمال العصي فتستبدلهم بكراسي تحاكيهم تعلمهم وتصرخ فيهم.. تشرح.. تسأل وتجيب وتفتش عن الواجب وأذا ما تخلف أحد عن أدائه بخيالها فأنها تعاقبه، تركل الكرسي الذي تراه تلميذا وتضربه بالعصا حتى تكاد تكسره ثم تطرده خارج الغرفة ولن يدخل إلا بعد أن يجلب ولي أمره معه وولي امره هو كرسي أكبر منه ادفع به أنا حتى باب غرفتها ويتعهد لها بواسطة لساني أن يكتب ابنه المرة القادمة الواجب ويحفظ كل جدول الضرب.
رأسي يكاد ينفجر والطبيب العراقي يطالبني بمواصلة الحكي كي يصرف لي وصفة الدواء النفسي:
– باهي تذكري الذي صار بذيتش الليلة عقب ماجت عروس أبوتش الله يسلمه حاولي تذكرين..أرتاحي واحكي وأنت مغمضة عيونش..أن زين.. يله وإلا تعبتي أستريحي نشمل بالجلسة الجاية..
طرحت لهم أمي فراش سريرها بغرفة الجلوس وغطته بشرشف أبيض وكسته بلحاف مزركش ووضعت لهما وسادتين نظيفتين وغطاء قطني ناعم.. بخرت الغرفة وخرجت وأبي لا يدري أين يضع فرحته.. لكن ” العروس الدرسية ” تصرفت بلطافة مع والدتي مكسورة الخاطر ضحكت لها غامزة بطرف عينها الخضراء تلاعب خصلة شعرها الأشقر بجرأة نساءالشرق المعهودة.
– خلينا نتناصروا عليه الليلة.
نمت ولم أفطن إلا للعروس توقظني بكفيها المخضبتين بالحناء وقد جهزت سفرة الإفطار بالصالة وايقظت إخوتي الصغار وساعدتهم علي غسل وجوههم ومسحها مرددة
– من يوم وغادي كلنا نفطروا علي سفرة وحدة.
–
بصراحة كنّا ندّاعكوا علي التقعميزة في حضنها ونتعاركوا علي تلبية طلباتها البسيطة.. عمرها ما ظلمتنا وديمة تلتمس لشقاوتنا الأعذار التي تعرف بحذاقتها كيف تبرررها أمام أمي وأبي.. ومازاد من حبي لهذه المرأة التي أحتوت شقاوتنا كما لو كانت أم ثانية أحترامها الفائق وتقديرها لوالدتي ومراعاتها لشعورها في أدق التفاصيل مازلت ألاعب صغاري بلّعبة التي لاعبتنا بها صغارا أنا وأخوتي وهي أن تنبطح أرضا وكل مرة تحمل أثنين علي أن يضع كل واحد رجليه علي ظهرها فيكونان متقابلين ونمسك أيدينا ببعضنا في حين تقف ونردد قائلين ” جمل عاشوراء ” أمشي بينا ” جمل عاشوراء ماتبرك ” وتزحف بنا ونحن نقهقه محاولين المحافظة علي التوازان كي لا نسقط فمن يسقط يخرج من اللعبة والفائز يصعد مجددا مع مشارك آخر.. تدور بنا في وسط الحوش مترنّمة ” قمح.. شعير ” وأمي كثيرا ما أنزلتنا عن ظهرها مرددة ياوليّة نزليهم بالك عندك حاجة في بطنك راني بريّة من ذنبك قصدها ” أنك حبلى “
– والله كانه ملصق بالوشق ماعنده عليش قاعد ياقسومة وكانه مقسوم مابيجي أعز من آمولة وخلودة “
صالحة مازارتش هلها نين خذت أمي وجدتي الفزّانية معاها.. مش كيف الهالكة اللي خطبتها أمي ومشت لأهلها أول زورة حتى قول ماقالت.. وماطقت شيء نين طالبت بحوش بروحها لكن صالحة الدّرسية حتي باب دارها ماتسكرش فيه علينا كان طلعت.. وأذكر عندما رفضت والدتي الذهاب معها للشرق لقضاء إجازة عند أهلها ورفضت أمي بحجة أنّ الأولاد سيربكونها ويسببون لأهلها الإزعاج تألمنا وبكينا كثيرا فأخذت زوجة أبي الطيبة ملابسنا ونظمتها في الحقيبة قائلة:
– والله مانمشي ولا تجيني نية نعدي من حذاكم والعويلة يتباكوا
– ياصلوحة امشي غيري جو وفضّي خاطرك بين مينتك وخواتك..عارفتهم والله مايهنّوك بالذات أسامة.. خليهم يزيطوا عند خوالهم وهلك هم هلي..
كم كانت زوجة أبي صالحة حنون ودافئة فلم تنهرنا يوما ولم تكد لأمي المكائد وشعرنا بالحزن لفراقها وكم تمنيت أن يرجعها أبي بعد وفاة والدتي وطلاق الهالكة.. لكنها رحلت لعالم الآخرة بسلام.. الله يسامحها وغفر الله لنا ولها ومحى كل ذنوبها إن كانت ثمة ذنوب تحملها !.
مع هواء السيارة المسرعة التي يقودها أبي أخذت نفسا متشربا بعطره الذي لم يغيره يوما.. البروت عطره المفضل.. عاد بى للسبعينات.. اذكر كم كنت انتظر زجاجة البروت الخضراء متى يتم عطرها لأضمها الواحدة تلو الأخرى للعبي بأحجامها المتعددة وتعجبني الميدالية الفضّية المتدلية من عنق الزجاجة وتوصيني قريناتي على زجاجات مثلها.
– باهى لما تفضى وحده أخرى جيبيها لي انا صاحبتك وأنا انجيبلك أقلام ومحّايات.. باتى ايجيبلنا فيهن واجد من المكتبة.
دائما جدى ينادينى بالحرّة يقول:
ـ ” أنت صفرانية حرّة من الجهتين الأب والأم وعيّادية مقطرة مش مغشوشة “
ولهذا بيتنا بيت العيلة لأن أبى كبير إخوته وأمي حنون وحكيمة.. تحب جمع الشمل فهي ابنة شيخ القبيلة فجدنا سيدي مفتاح سواق الحجل.. تجتمع العائلة في بيتنا كل خميس وجمعة وطيلة المواسم وشهر رمضان وحوسة الأعراس في بيتنا والختان في بيتنا ومن يأتى من الشرق أو الغرب لتأدية عمل أو لمراجعة طبيب في المدينة فلن يجد بيتا مفتوحا أكثر من بيتنا.
أمى تحب الضيف وتمرض إذا قل توافد الضيوف، هي بمثابة الأم الكبيرة والصدر الكتوم الذى يستودعن فيه نساء العائلة كل أسرارهن وحتى شتائمهن ونقمتهن على أزواجهن وكل ما يسكب منهن في صدر أمي مدفون كما دفنت واندفن معها الحنان لغير رجعة ورثت عنها البشاشة وحسن استقبال الضيف عندما يأتينا ضيفا لا تكشر حتى وإن لا تملك ما تقدمه لضيف تبتسم وتقول:
ـ ” الضيف ايجى ورزقه ايجى امعاه المهم الواحد يطلق عبسته ويشد خبزته”
وتتفانى في خدمة الضيف من غسل للثياب وكيها وإعداد مائدة الطعام فكانوا يطلقون على بيتنا ” حوش قسامي من أول ماتخشله اتصب الزيت وتلحسه “.
_____________________________________
فصل من رواية جديدة للكاتبة بعنوان “قسامى”