تصوير: سالم أبوديب – عبدالقادر الكانوني.
الساعة الخامسة من مساء الثلاثاء الماضي كان موعد النشاط الشهري للجمعية الليبية للآداب والفنون “أصدقاء دار حسن الفقيه حسن سابقا” , والذي تمثل هذه المرة في إقامة امسية شعرية للشعراء الشباب تحت عنوان ” أصوات شعرية شابة ” .
الأمسية التي حضرها لفيف من عشاق الشعر انطلقت مع كلمة الأستاذ مفتاح قناو أحد أعضاء الجمعية شكر في مستهلها كل من قدم يد العون وساعد في إقامة هذه الانشطة التي تدل على أن الوطن بعافية وأنه هنالك فعلا ما يستحق أن نضحي من أجله ونحيا بتفاؤل , ويأتي على رأس الجهات الداعمة جهاز إدارة المدن التاريخية الذي تحتضن إحدى فضاءاته الثقافية أنشطة المجموعة , ثم دعا الحاضرين إلى تلاوة سورة الفاتحة على أرواح من غادرنا من المثقفين المبدعين في الآونة الأخيرة وهم الفنان يوسف معتوق والكاتب أدريس المسماري والشاعر المرهف صالح عباس .
أستلمت دفة الأمسية بعد ذلك الأستاذة الصحفية فتحية الجديدي والتي بدورها مهدت للأمسية بكلمة مختصرة أشادت فيها بتجربة الشعراء الشباب وحثت على الأحتفاء بتجاربهم والتعريف بهم والأخذ بيدهم وتقديم يد العون لهم من خلال الأهتمام بأنتاجهم وإصدار مخطوطاتهم الشعرية في هيئة دواوين وتبني مشاريعهم الواعدة.
ثم عبرت إلى داخل الأمسية مباشرة باستعراضها للسيرة الذاتية المختصرة للشاعر أحمد الشارف التي تشير إلى أنه من مواليد سنة 1991 ومتحصل على بكالوريوس علوم سياسية ونشر في العديد من المواقع الإلكترونية مثل صحيفة الحدث ومنشور نت وفي صحيفة فبراير وشارك ضمن مجموعة من الشعراء في أمسية في معرض طرابلس الدولي للكتاب سنة 2013 كما تمت دعوته للمشاركة في أمسية ” قرأت لك ” التي نظمتها مؤسسة أريتي الثقافية سنة 2014 م
تقدم الشاعر آثر ذلك لإلقاء شيئاً من شعره واقترح علينا عدد ثلاث قصائد عنون الأولى بـ” حوار ” ويقول في بعضاً من جهاتها :-
هل تذكرين الورد يملأُ جسمك
هل تذكرين الياسمين ؟
مُؤَرّخةٌ جنائنك عليّ كلما أمسيتُها قلِقا
كلما أُجبرتُ طوعاً أن أستقيل عن الحياة مؤقتاً
لا تتركي خيطا رفيعا واحدا يلتفّ حولكِ
كلما عطفت عليكِ
رياح أقدار العِباد المُترفين
هنّئنا الزمان والمكان كلما ابتدع اصطيادنا
هنّئنا طقوس الأسى وركضنا وراءه نلهث عاجزين
كيف فهمناكَ ولم نفهمكَ في ذات آنكِ ؟
ويستمر الضجر
ويستمر سؤاليَ المُلحّ دوما بعد الضجر
هل تذكرين الورد يملأ جسمك
هل تذكرين الياسمين ؟ !
أما النص الثاني فاتخذ له أسم ” زمن الحق الغادر ” وفيه ينشد قائلاً :-
أشدد بيدك على سيف الحق الغادر
لا تسمح بخصر الشرعية
أن يرقص حولك
الحق الغادر
لا تجزع من صفة الحق هنا
الضوء جلي وواضح
الأمر فقط يكمن
من أين أتت فوهة الضوء الساطع .
ليختتم بنص ” الحالمون ” الذي غرد من خلاله قائلا :-
كنت أقول بأني أحلم
وأن الحالمون يزورون رؤياي
يصطفون تباعا
كل حسب وقت نومه
كل حسب ما يدركه واقع حلمه
فارتبك الطابور , , وراح
يلملم ذاته !!
لم أدري السببا
ظللت أحيي تبعا
من قالت عيناي
إني ابصرتك
أغرقني التعقيد هناك عند البدء
فأطلت الصوت مداه وصحت
أرحب .
وبخلاف بعض زملائه اللاحقين لم يعول الشاعر أحمد الشارف كثيرا على القافية والموسيقى ونحت قصائده نحو الشكل النثري وكأنه أراد القول , رغم أن أسمي يحاكي أسم الشاعر الليبي المشهور أحمد الشارف إلا أن شعري لا يشبه شعره.
أما الشاعر , المكي المستجير المولود في مكة المكرمة كما تقول سيرته الذاتية العام 19888 ومنها استقى أسمه وربما قريحته الشعرية أو ملكة قرض الشعر كما لو انه مر على سوق عكاظ هناك أثناء انعقاده , المكي الطالب بكلية الطب البشري بجامعة طرابلس نشر في العديد من المواقع الإلكترونية مثل ليبيا المستقبل و هذا صوتك وفي مجلة الأسوة الحسنة الورقية وبعض الصحف الأخرى وشارك في العديد من الملتقيات الأدبية والفكرية وكتب المقالة والقصة القصيرة إلى جانب الشعر , رغم أنهُ لا ينفك يتنصل من هذه الصفة – أي الشاعر _ كما لو أنها تهمة , المكي تلا على أسماعنا قصيدة عمودية طويلة ووحيدة بقافية اللام عنونها ب ” ما خُلِقَ الحب ليُكتب ” ومن خلالها افترض حواراً متخيلاً بينه وبين شاهد قبره أفتتحها بقوله .
شاهدت شاهد قبري وهو يشتعل \ يا شاهدي ما عدت أحتمل .
واختتم أبياتها المتلاحقة بالقول :-
ما أنفس العيش في الدنيا مع امرأة \ ترنوا إليك بحب كله مُقلُ .
وبين هذا وذاك صالَ وجال وشرَّقَ وغرَّبَ بنا فوق مطية الشعر واقترح علينا سفراً لا يخلو من الصور الجميلة والموسيقى الرائقة والوقع الأليف الناعم .
ثالث الشعراء مهند شريفة وهو من مواليد سنة 1988 ومتحصل على دبلوم حاسب آلي ونشر في العديد من المواقع مثل منشور نت وألترا صوت وصحف فبراير وفسانيا وغيرها من المنابر , وبصوته الهادئ وبحضوره الواثق ألقى ما في جعبته من قصائد نثرية عذبة افتتحها بقصيدة ” على من تعول ” التي يقول فيها :-
إني أعول عليها أن هوى
قلبي من منحدر البلاد
وترنح عن الخفق
….
من تلك التي أرقتنا بها مذ كنت طفلا يتشبت بثدي الأيام ؟
يسألني أعمى الطريق وهو يبصر عتمة قلبي .
…
أراها ولا تراني
أو ربما تركل ظلي
حينما يتأهب لاستهداف بطش ساقيها !!
ليلحقها بقصيدة ” نقصٌ ما ” وهذا بعضا مما جاء فيها :-
في اللوحةِ الرابضةِ
على جدار المعرض البارِدْ
رسمت العائدةُ مِنَ المنفى أخيرًا
كلّ شيءٍ تقريبًا !
صوت النار وهو يَركض خلف قصائد الوطن مُلحًّا في استعادتها والوطن
ألعابُ فتاةٍ تنكسر ببساطةٍ
سُور الحانةِ المُتبقي رغم استنكار السواد الأحمق !
جُنديٌّ يُلوِّح بطلبِ استقالتهِ للقائد الأعلى والقائد عنهُ سكرانُ !
أُمٌّ شغلها المرض عن توديع طفلها الكبير
كل شيء تقريبا .
ثم ليصل إلى قصيدة ” زيارة مؤجلة ” وعبرها أستمعنا إلى .
الغمضة في أعقابك موت
أيا حجر الطريق دلني على عنوانها
فإن مت أضمن أول زيارة إلى قبري .
ثم قصيدة “عطفا على التاريخ” و”حديث” واتسمت القصائد في العموم بالتكثيف والقًصر في بناءاتها ولم تخلو من جرأة واضحة في الطرح عكست قناعات قائلها فيما تركت وإلى حدٍ ما باب التأويل مفتوحا على أكثر من معنى أو بعدد المتلقين بالأحرى , لأن القصيدة لدى مهند ورغم أنه حديث العهد بالشعر إلا أنها لا تستكين للتقريري والمباشر المتاح وتُفضل ان تُحلق بعيداً في فضاءاتها الخاصة وكأنها تردد , من شاء ان يحلق معي فمرحبا به ومن أراد أن يكتفي بالنظر إليَّ من الأسفل سيخسر المعنى ولن يظفر بغير الظاهر إذ هذا ما تضمره القصيدة عند مهند بعد الإطلالة الخاطفة عليها .
ومع الشاعرة هناء المريض وهي من مواليد مدينة طرابلس وشاركت في العديد من اللقاءات الشعرية من أبرزها مهرجان ” سوابيت الياسمين ” وهي إلى ذلك معدة برنامج ” شجر القصيد ” الذي يُبث عبر أثير إذاعة طرابلس المحلية .
مع الشاعرة انطلقنا في رحلة طويلة مع قصيدة ” لقِّن ” العمودية التي اختارت لها قافية اللام , ثم ألقت قصيدة ” أجنحة الملائكة ” التقليدية وفيها اشتغلت الشاعرة على أكثر من قافية ووزن وموسيقى , فمن قافية الفاء التي ابتدأت بها وأقفلت بها بعض الأبيات انتقلت إلى قافية الراء ثم وفي قفزة رشيقة وخاطفة انتبهنا إلى أن القافية تبدلت لتختم بعض الأبيات بحرف الرّوي الحاء ثم الميم حتى نهاية القصيدة , وكون الشاعرة مذيعة أو معدة برامج إذاعية ولديها خبرة عملية في التعامل مع مكبر الصوت والإلقاء والقراءة أسهم في أن يكون الإلقاء مُتقنا واحترافياً وساعدها كونها مذيعة أو قريبة من المجال الإذاعي في تمرير معانيها وموسيقاها الخافتة بسلاسة وبهدوء .
وفي هذا الفاصل أغتنمت الأستاذة فتحية الفرصة للتنويه بالنشاط القادم للجمعية الليبية للآداب والفنون والذي سيكون بأذن الله عبارة عن محاضرة تثقيفية بعنوان ” أدب الطفل في ليبيا . . النشأة والتطور ” تلقيها الدكتورة فريدة المصري الثلاثاء الأول من الشهر المقبل .
الشاعر اللاحق هو أكرم اليسير التي اختصرت مقدِمة الأمسية سيرته الذاتية في أنه من مواليد سنة 1984 ومتحصل على ليسانس قانون سنة 2007 ويعمل كمحامي وله اهتمامات مسرحية وتشكيلية إلى جانب اجتراحه للشعر ولديه مشاركات عدة في أمسيات ومهرجانات شعرية في السابق في طرابلس وببعض المدن الليبية الأخرى وينتظر صدور ديوانه الأول المعنون ب ” مقامات الهوى ” عن وزارة الثقافة .
أستهل الشاعر قراءاته بقصيدة ” لا تجنح ” وهي قصيدة كُتبت بمناسبة إلغاء أحد مؤتمرات المصالحة التي كان الشاعر سيحضرها على ما يبدو وغلبت عليها قافية الباء ومنها انتقل إلى قصيدة ” الطابور التي فرضها الواقع هي الأخرى كون حياة المواطن الليبي مرتبطة اليوم بالطوابير أكثر من أي شيء آخر , فلا يكاد المواطن يغادر طابور إلا ويجد نفسه منقاداً إلى غيره , ففي المصرف طابور وفي المخبز وفي مستودع توزيع الغاز وبمحطة الوقود طابور , وكما لو انه صف جنود يقول الشاعر في مفتتح هذه القصيدة :-
صفٌ واحد
وطنُ واحد
لا واحداً في الصف سوانا .
وهي القصيدة التي اتكأت على القافية أيضا , وهنا لا تخفى نبرة التساؤل والتأسي والتحسر , لما آلت إليه الأمور .
علام تلفظني الحياة علام
وإيلام أُساق يا حظي إيلام ؟
ولا بد أن للشاعر مبرراته التي قادته إلى التبرم بالحياة والشكوى وقد عاكست أحلامه الحياة وخذلهُ الحظ .
وبنص ” طاغٍ أبي ” الذي يدل ظاهره على عكس باطنه أنهى الشاعر قراءاته وليطوي مذكرته التي قرأ منها وفي نفسه شهوة لان يقرأ المزيد لولا الوقت الذي يبدو أنه لا يهتم بشهية الشاعر , وهو المخلص للشعر مثل زميله في الأمسية الشاعر محمد عبدالله الذي سنتحدث عنه لاحقاً حد أنهم لا يترددون في تلبية نداء الشعر ولو كان بهم تعب ومشقة لأنهم فقط من أجل أن يقرأوا شعرهم على الجمهور في هذه الأمسية جاءوا من مدينة الخمس , فلهم التحية .
لنصل صحبة الشعر إلى المحطة الاخيرة التي استوقفنا فيها الشاعر الشاب محمد عبدالله وهو أحد مؤسسي صالون الخمس الثقافي والمشارك في عديد اللقاءات الشعرية مثل مهرجان فينوس وغيره ولديه ديوان شعر بعنوان ” رسائل ملونة ” وديوان آخر أسمه ” قيام جلوس “, وكونه شاعر يميل إلى كتابة القصيدة الومضة فقد اقترح علينا باقة شذرات وضع فيها كل ثقله الشعري وضمًّنها كل عدته ومن خلالها تناول العديد من المواضيع وطرح بعضا من المعاني , ومثلما اعتنت هذه الشذرات بجليل الموضوعات , لم تستثني سفاسفها أو بسيطها وهي كما تتوسل برغيف الخبز مثلا لتعزيز شعريتها لا تأنف من الأستعانة بالبعوض والزج بالذباب فيها كمفردات , فلنستمع إليه وهو يتلو علينا نصوصه , ودون فواصل صمت تقريبا حتى بدت وكأنها نص واحد طويل بمعاني متعاقبة , أو كعزف منفرد مكتظ بالنوتات الموسيقية والجُمل اللحنية .
سأصنع منكٍ غيمة كبيرة
وأُمطر على أنحائي .
**
في الطريق أخبرتها بأني لست فارس حلم بصدق
تبادلنا الأدوار
دخلت أحلامها
قتلت حصاني الأبيض
وعدنا مشيا على الأقدام .
**
سأتزوج رسامة بارعة
أكتب لها قصائد الحب
وترسم لي رغيف الخبز .
**
أنا وقلمي القزم
وثمانية وعشرون حرفا
عجزت عن وصف أمي .
***
أنا لستُ شاعراً
كما يقول البعض
كل ما في الأمر أن الصراخ في بيتنا ممنوع .
**
بيني وبين قبر أبي
شارعان
وبحيرة من دمع أمي .
***
في قلبي نخلتان
الأولى زرعتها أمي
والثانية العابرة رمت النواة ورحلت .
**
لأنني قليل الحيلة
يغافلني ظلي
ويذهب إلى الحديقة
برفقة ظل إحداهن .
أعقب هذه الومضات الخاطفة بقصائد متوسطة الطول عنون الأولى ب ” أم اللغات ” وهي قصيدة مقفاة , ثم قصيدة ” لا لشيء ” التي يقول مطلعها :-
نحن العابرون بلا هوية
أطفال الذكري العقيمة
لنصفق للشرفات الحزينة .
” سأفعل ما لا أفعل ” هي القصيدة الأخيرة أو مسك الختام التي أنهي بها الشاعر محمد عبدالله إلقاءه والأمسية ككل وفيها اغتنم المساحة ليفعل فيها ومن خلالها ما لم يفعله في الحقيقة والواقع من قبل وليتخذها كمطية لتمرير بعضا من نزقه وشغفه وأسئلته وحتى شيئاً من جنونه .
وعلى أمل اللقاء في المنشط القادم أنفض الجمع واختتمت الأمسية التي حظيت بحضور نوعي غفير وليس كذلك فحسب بل أظهر الجمهور الذي استقطبته الفعالية وسرقته من دفء البيوت تفاعلا مع ما أُلقيَ من شعر واعد , وبدا الشعراء على حداثة تجربتهم الشعرية الغضة واثقون تماما مما يفعلون بل ومفتخرون وعلى وعي تام بما هم مقبلون عليه من مسئوليات كونهم أخر تجليات الشعر الليبي وممثليه في اللحظة الراهنة ومن يعول عليهم في كتابة الواقع الليبي الحاضر بكل تعقيداته واختناقاته من وجهة نظر شعرية شبابية , إذ لا بد من أن يكون للشعر رؤية في كل ما يحدث الآن.