شخصيات

المُستشـار سمير الشّـارف… فارس الدّستـوريّة فِي زمن الفوضويّة

شكري السنكي

المحامي سمير الشارف
المحامي سمير الشارف

فما الحـرَّ إلاّ الّـذِي مـات حـرَّاً – ولم يرضَ بالعيشِ إلاّ أمينا
ومَا العز إلاّ لمَنْ كان يفدي ذمامـاً – ويفني عليه الثميــنـــا
ومَا الخزي والعار إلاّ لشخص – إِلى وطن العز أضحى مهينا
ونحن فروع زكت مِن أصــــــول – فنحيي مآثرنا مــــا حيينــــا
لتـاريـخ عنصـرنا فِي الـورى – حديث على صفحات السنينا

شيخ الشّعراء أحمَد الشّـارف

المُقدِّمَة

بداية أودّ القول إنّني التقيت بسمير الشّارف فِي بّنْغـازي بعْد ثورة السّابـع عشر مِن فبراير 2011م، ولم يسبق أن التقيته قبل الثورة، وقد عرفته قبل ذلك مِن خلال المقالات الّتي كان ينشرها فِي موقع: (ليبَيا المُسْتقبل)، وتعليقاته الرَّائعـة على مقالاتي الّتي كان يتحفني بها، وبعضها كان إضـافـة أكثر مِن كونه تعليقاً. وقبل الثـورة أيْضاً، انضم سمير أو محمّد أمين العيساوي كمَا عرفناه وقتئذ إِلى المجموعـة الّتي كنت واحداً منها، والساعيّة إِلى تأسيس كيان يـدافع عَن دستور دولـة الاستقلال ويـدعـو إِلى العودة إِلى الشّـرعيّـة الدّستـوريّـة وفق آخر مَا انتهت إليه فِي 31 أغسطس / آب 1969م. انضم سميـر إِلى مجموعتنا تلك وتحاور معنا حينئذ فِي إحدى غرف التواصل الاجتماعي الخاصّة فِي السكايب (Skype)، وكان حضـوره مميزاً وإضـافة لنا جميعاً، وقد دفعت مساهماته الإيجابيّـة إِلى تتويج تلك اللقاءات الحواريّـة بالإعلان عَن تأسيس (الجمعية الِلّيبيّة للدّفاع عَن دستور دولة الاستقلال) فِي العام 2010م.

رحل سميـر ومر على رحيـله عام، وقـد دعاني الأستاذ فتحي مختار بِن عيسى، الصّحفي ورئيس التَّحـرير السّابق لصحيفة (عروس البحـر) لحضور احتفاليّة الذّكرى السنويّة الأولى للمُستشار سمير أحمَـد الشّـارف، بصفتـه المنظم لها، والمقرر أن تقام مساء يـوم الخميس الموافق 25 أغسطس / آب 2016م بمقر نادي الجاليّة الِلّيبيّة فِي القاهرة الكائـن بشـارع طهـران فِي حـيّ الـدّقي (1). حضرت الاحتفاليّة، وقد طلـب الأستاذ فتحي بِن عيسى مني بعْد وصولي إِلى المكان إلقاء كلمة بالمناسبة، وكان بصحبتـه الأستاذة حنين بوشوشـة الباحثة والحُقُـوقيّة الّتي تولّت إدارة الاحتفاليّـة وتقـديم الضيـوف. ورغم أنّني لم أكن مستعداً لإلقاء الكلمـة ولكنّـي قَبِلت لأن الأخ لا يـكون أخـاً ولا الصديق صديقاً إلاّ حينما يذكر أخاه فِي ثلاث: فِي محنته، وَفِي غيابه، وبعْـد وفاته.

أخِيْراً، قررت أن أكتب عَن سميـر الشّارف بشكل أشمل وأوسع وأدّق عمّا جـاء فِي كلمتي المرتجلة خلال احتفاليّـة التكريم، محاولاً إعطاء الرجل حقه بعْد مشوار مضنٍ واجه خلاله الكثير مِن المصاعب والمتاعب والإشكالات، وتسليط الضّـوء على عطاءاتها المميزة فِي مقاومة الاستبداد قبل الثورة بقلمه وفكره، ومناداته بعـودة الشّرعيّـة الدّستوريّـة الّتي ارتبط اسمـه بها، أو كمَـا قال الأستاذ نـور الدّيـن خليفـة النمـر:..”.. أن تكتب فِي تذكار سمير، هُو أن تكتب فِي الدّستور مثل مَا كتب جدّه الشاعر أحمَد الشارف، منادياً برجاء حارق: أعيدوا لنا الدستور.. يشّفي غلّة وكنّا على شفا.. وبنا نار الأسى تتوّقد”.

رحل سمير الشّارف عَن دنيانا ولكنه باقٍ بكتاباته ومواقفه الوطنيّة، فالّذِي ترك خلفه عِلْـماً يُنتفعُ بِهِ ومواقف وطنيّـة مشهـودة وذكرى طيبـة بين النَّاس لا يمـوت، وقد صـدق الإمام الشافعي الفقيه الشاعر حيـن قال: قد ماتَ قـومٌ ومَا مَاتَتْ مـكـارِمُهم *** وعَاشَ قومٌ وهُم فِي النَّاس ِأمْواتُ… رحمــك الله يـا سميـر رحمــة واسعــة.. ونم قرير العين فإرثك العظيم سيـظلّ نبـراسـاً للأجيال وبصماتك نوراً تضيء لهـم الطريـق.

سميـر الشّـارف.. ميلاده وسِيْـرَة حيَاتِه (2)

سمير أحمَد الشّارف، مُثقـف وأديـب وفقيه دستوري لّيبيّ معـروف، وابن عائلة مرموقة، وحفيـد الشّيخ أحمَد الشّارف (1864م – 1959م) الفقيه ومعلّم اللغة العربيّة والشاعر الملقب بـ(شيخ الشعراء الِلّيبيّين)، والقاضي ورئيس المحكمة الشّرعيّة العليا، المتوفي بطرابلـس سنة 1959م. وهُو سليل بيت علم، وبيت أدب وشعر وقضاء، وقد ارتبطت عائلته بعـلاقات طيبة مباركة مع السّادة السّنوُسيّين، وتكنّ الحبّ والوفاء للمَلِك إدْريْس السّنوٌسي – طيب الله ثراه.

ولد سمير الشّـارف بطرابلس فِي 20 فبرايـر / شبّاط 1956م، ودرس بمدارس طرابلس وحصل على الشهادة الثّانويّة مِن مدرسة زاويّة الدهمـاني. وبعْد حصوله على الشهادة الثّانويّة سافر إِلى المملكة المغربية، ودرس القـانـون، وتحصل فِي العام 1979م على ليسانس حُقُوق مِن جامعة الحسن الثّاني بالدار البيضاء، وعمل، عقب تخرجه، مستشاراً قانونياً بشركة ليبَيا للتأمين خلال الفترة مِن 1979م إِلى 1984م ثمّ مستشاراً قانونياً بديوان المحاسبة.

وعلى ذكـر هذه المحطّة فِي حياتـه، فقد تجاوزت علاقته بالقانون، المجال الوظيفي لتصل إِلى تفكيـك النَّـص القانـونـي وفهـم كافـة أبعـاده بل إِلى مَـا هُـو أبعـد مِن ذلك، أو كمَا قال الأستاذ عزالدّين عبْدالكريم:..”.. سميــر مِن القلائل الّذِين ارتبطوا بمجالات تخصصهم ليس مِن الباب الوظيفي التخصصي العادي فحسب، بل انصهر فِي علوم مجاله القانوني حتَّى أصبح مستشاراً، بل أراه يكاد يكون مِن فقهاء القانون، فهُـو قد تجاوز مسألة الإلمام المفصل إِلى الإبداع بإتقان مبهر فِي تفكيك خبايا النَّص القانوني ودراسة أبعاده.. فكان منارة إشعاع معرفي عبر آرائه وأفكاره وتحليلاته..”.

وَبعْد أربـع سنوات مِن عـودته مِن الدار البيضاء، تزوج مِن سيدة ذات شأن مِن عائلة مرموقة، وصاحبة ثقافة عاليّة، وتشتغل فِي المحاماة، وكان ذلك فِي 20 سبتمبر / أيّلول 1984م. والسيدة التي تزوج منها هي: مريـم محَمّد الليـد الّتي ترقت إِلى قاضيّة بعْد أن كانت محاميّة ناجحة جدَّاً لتكون أوَّل قاضيّة فِي طرابلس، ووصلت فِي درجتها الوظيفيّة إِلى رئيسة محكمـة. وقد توفيت فِي 18 أغسطس / آب 2008م بعْد صراع مع مرض السرطان، وقد أثر رحيلها المبكر فِي سمير كثيراً ولم يستطع نسيانها حتّى وافته المنية. رزقه الله بثلاث بنات وولدين هما: أحمَـد ومحَمّـد، والأوَّل قد تخرج هذا العام وتحصـل على درجة البكالوريوس فِي العلوم السّياسيّة مِن جامعـة طرابلس، وهُو مِن الشباب المعروفيـن فِي الوسط الثقافي فِي طرابلس، وله مشاركاته فِي أمسيات المدينـة الشعريّة.

كان سميـر يقرأ الكتـاب القانوني والسّياسي والاجتماعي والأدبـي، ويحـب الشعر ويعشـق كلاسيكيات الموسيقى الغربيّـة وكلاسيكيات الموسيقى العربيّة ويحب الاستماع إِلى الأغاني الشرقيّة لمحَمّد عبْدالوهاب وكوكب الشّرق أم كلثوم والعندليب الأسمر عبْدالحليم حافظ، كمَا أحـبّ رومانسية موسيقى الرحابنة وصـوت فيـروز العذب الّذِي طالما عزف على أوتار الحبّ فِي بلـد عانى كثيراً مِن الطائفية وويـلات النزاعـات المُسلحـة. واستطراداً لهذا السّياق، أحـبّ سميـر الشّارف فِي شبـابـه التراث المغربي الأصيل، والّذِي جسدتـه فرقة (ناس الغيـوان) أشهر فرقة فِي تاريخ الموسيقى الشعبيّة بالمغرب وقتما كان يدرس فِي الدار البيضاء، ويـذكر أن بدايّـة فرقـة ناس الغيـوان كانت مِن الدار البيضاء وَمِن الحيّ المحمدي، الفرقـة الّتي يصـفها فنانو المغرب بأنها الفرقة الأسطوريّة الّتي تشكل أغانيها المرجعيّة الأساس لكلِّ الفرق الّتي خرجت بعدها. وفِي جانب آخر، أخبـرني ابنـه الرَّائـع أحمَـد بأن والده كان يعشـق شعـر بـدر شاكـر السـياب (1926م – 24 ديسمبر / كانون الأوَّل 1964م) أحد مؤسسي الشعر الحـرَّ فِي الأدب العربي وواحد مِن بين أشهر شعـراء العـرب فِي القـرن العشـرين، ومِن حبّـه الشديد له حينما رزقه الله بمولودة سمّـاها: (أنداء) جمع ندى، والواردة فِي قصيدة (لقاء ولقاء) إحـدى روائـع السيـاب.

وَمَا يُضاف أيْضاً، أنـه كان على صـلة بالمسـرح، وقد انضم سميـر إِلى الفرقة المسرحيّة المسمّاة (فـرقة المسرح الحرَّ) عَـن طريـق صـهره الفنّـان الرَّاحـل عبـدالرزاق الشهاوي، وهي أوَّل فرقـة تتأسس مِن الأكاديميين والمتخصصين وخريجي معهد جمال الدّين الميلادي للتمثيل بطرابلـس. تأسست فـرقة المسرح الحرَّ العـام 1970م فِي طرابلـس باقتراح مِن الفنّـان سَالم بوخشيم وبالتعاون مع المخرج المصري أبوضيف علام، وكان مِن ضمن مؤسسيها فنّانون وأكاديميون وأدباء ومحامون، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصـر: الفنّـان سالم بوخشيم، والفنّـان عبـدالرزاق الشهاوي، والفنّان علي الخمسي، والمخرج سُليْمـان المبـروك، والدّكتور الصيّـد أبوذيب أستاذ مادة التاريخ بالجامعة.. وآخريــن. تميزت الفرقـة بالنشاط الثقافي إِلى جانـب العروض الفنيّة، وكانت تقـوم بعقد أمسيّـة ثقافيّـة مساء كل خميس، وقـد قدَّمت أجمل أعمـال وليم شكسبير المسرحيّـة. ورُبّما أَسْتَطْرِد هُنـا لأقـول إن الكاتب والأديب علي مُصْطفى المصراتي كان يُعـد الأب الروحي لهذا الملتقى، وإِلى جانبـه الفنّـان الدّكتور كامل عيد (1931م – 2008م) الأستاذ بمعهد التمثيل بطرابلس وأحد أهمّ الشخصيّات المصريّـة الّتي ساهمـت فِي إثراء مسيرة المسرح المصري بصفةِ خاصّة والمسرح العربي بصفةِ عامّة.

أَعُوْد بعْد هَذا الاسْتِطْرَاد مجـدَّداً إِلى سميـر، فقد كان حاضراً بقـوَّة فِي ملتقى الخميس، وكانت مساهماتـه مع الفـرقـة فِي الجانب الثقافي مشهودة، وقـد وقف عنـدهـا الفنّـان الهادي البكّوش فِي كلمته فِي الذّكرى السنوية الأولى لوفاتـه الّتي أقيمت فِي القاهرة مساء أمس الخميس الموافق 25 أغسطس / آب 2016م. لقـد كان سميـر الشّـارف أحـد المنضمين للملتقى الثقافي الأسبوعي المنعقد كلِّ مسـاء خميس، ومتعاوناً مع المجمـوعة العاملة فِي قسـم الموسيقى التصويرية، بالإضـافة إِلى تعـاونـه مع المجـموعـة الخاصّة بالإكسسوارات والأزياء المسرحيّة، خصوصاً فِي الأعمـال التاريخيّـة أو ذات الطابـع العالمـي كروايات ويليم شكسبير.

أخِيْراً، لم يقبل سميـر الشّـارف بانقلاب سبتمبـر ولم يثق يوماً فِي القذّافـي ونظـامـه الانقـلابي، وكان يتحرَّك ويتواصـل ويبحـث ويعـمل لأجـل إيجـاد أنجـع الوسائل والطـرق لمقاومتـه. كان على صـلة بالمُعـارضـين بالخارِجِ، ومـع بنـاء كيان سياسي يدعـو مغتصب السّلطة إِلى التنحي عَن كافة سلطاته وصلاحيّاته الثوريّة والسّياسيّة والعسكريّة والأمنيّة، ويهـدف إِلى العودة بالبلاد إِلى الحيَـاة الدّستوريّة المتمثلة فِي دستور دولة الاستقلال. لأنه كان يرى الشّرعيّـة أساساً فِي الحكم، وأن هُناك شرعيتين لابُدَّ لأيَّ نظـام سياسي أن يستمد وجوده منهما، ولا غنى لإحداهما عَن الأخرى، وقـد عبَّـر عَن رأيـه هـذا فِي زمـن القذّافي فِي مقالة نشرها فِي (ليبَيا المُسْتقبل) فقال:..”.. الشّرعية السّياسيّة باختصار ودون الدّخول فِي تعقيدات مدلولها الفقهي والسّياسي تجيب عادة عن سؤال مطروح افتراضاً على النظام السّياسي ألا وهُو: (مَا هُو مبرر وجودك؟)، فِي حين أن الشّرعيّـة الدّستوريّـة تجيب عن سؤال آخر ألا وهُو: (مَا هُو السند القانوني لوجودك؟)، فالشّرعيّة السّياسيّة تتعلق بماهية الوجود للنَّظام السّياسي، والشّرعيّة الدّستوريّة تتعلق بماهية السند القانوني.

إنَّ هاتين الشرعيتين الّلتِين ينبغي أن يستمد كلِّ نظام سياسي وجوده منهما لا مِن غيرهما يختزلهما ذلك القسم الدّستوري المقدس الّـذِي يؤديه كلِّ مَلِك أو أمير أو رئيس جمهوريّة باختلاف صفاتهم فِي أن يحترموا الدّستور المنبثق عَـن إرادة شعوبهم، محترمين تلك الإرادة فِي أداء سلطاتهم الدّستوريّة بما يخدم مصالح شعوبهم فِي التنعم بالأمن وحق المواطنة والمحافظة على كرامتهم واستقلال دولتهم وتنميّة مقدراتها وإمكانياتها، وبما يحقق لهم التقدم والرَّقي الحضاري بين مصاف المجتمع الدّوليّ..”. وكان يرى أيْضاً أن تعويض مَا فات على الِلّيبيّين فِي العهد الانقلابي واستئناف مسيـرة النهضة بعْد سقوط نظـام سبتمبـر ليس بالأمر الهيـن ولكنه ممكن بالعـودة إِلى دستور 1951م خصـوصاً أن الدستور ما زال قائمـاً، وقـد عبـَّر عَن ذلك فِي مقالة كتبها تحـت: عنوان (الدستور) ونشرها فِي (ليبَيا المُسْتقبل) فقال:..”.. إنَّ إلغاء دستور 1951م ورد فِي المادة (33) مِن الإعلان الدستوري الصّـادر فِي 11 سبتمبـر / أيّلول 1969م، حيث نصّـت على أنـه (يلغى النَّظام الدّستوري الصّـادر فِي 7 أكتوبر / تشرين الأوَّل 1951م وتعديلاته ومَا يترتب على ذلك مِن آثار). ولقـد جاء في ديباجة الإعلان أنه صدر باسم الإرادة الشّعبيّـة !! الّتي عبـرت عنها القـوَّات المُسلحـة فِي 1 سبتمبـر / أيّلـول 1969م. فالأداة الّتي أصدرت الإعلان وألغت بموجبه الدّستـور هي مجلس الانقلاب، فهل هي أداة شرعيّـة!!؟ هل تملك ذلك؟. عجبـاً لمَنْ يردد مقولة الإلغاء دون أن يدري أنه بتسليمه بها يعني اعترافاً بشرعيّـة أداة الإلغاء، أيَّ بمجلس قيادة الثّورة.. فعن أيَّ إلغاء يتحدث البعض!!؟.

حتَّى هجران الدّساتير وحجبها عَـن الواقع بقوَّة السّلاح لا يُعـد إلغاء لها.. فيا سادتي لأجل ذلك نقول إن دستور 1951م حـيّ باقٍ وهُـو فارض نفسه بحضوره لم يسقط ولم يلغ فلا تكفنوه وتقبروه وهُـو حـيَ.. مِن حقـكم أن تتمسكوا به، وأن تصرخوا فِي وجه كلِّ مَنْ يريد العبث به أو تبخيسه مِن غير الأمّـة الّـتي صنعته، لأنه شهادة ميلاد دولتنا ووثيقتها الأساس.. ومِن حقكم أن تسعوا لتطويره بما تمليه تطلعاتكم الحضارية.. الآن وغداً أيْضـاً.. ومَا بعْـد غد. فلا يخدعنكم مَنْ أصيبوا بخداع الحواس!!..”.

وبعْد قيـام ثورة السّابـع عشر مِن فبرايـر، كان مُهموماً ومنشغلاً بمسألة العودة إِلى الشّرعيّـة الدّستوريّـة المتمثـلة فِي دستور 1951م بتعديلاتـه اللاحقـة وكيفية تحقيـق العـودة فِي ظلّ الظروف والمتغيرات الحـادثـة. وقد نبّـه ودقّ الأجراس وحاور واجتهـد وقدم الآليّـة المناسبـة لتحقيق الانتقال السلس لهذه العودة فِي مبادرة أطلـق عليها اسم (المبادرة الوطنيّة لعودة الشّرعية الدّستوريّة).

سميـر الشّـارف… مواقفـه ومبـادراتـه وإسهاماته الوطنيّة المضيئة

كان سميـر الشّـارف رجلاً شهماً شجاعاً، ومُناضـلاً مقداماً لا يأبه الموت فِي سبيل الله والوطن وقتما كان معمّر القذّافي فِي عـز جبروته وطغيانه، ويقبض على معارضيـه ويعدمهم دون شفقة أو رحمـة. ووقتمـا كان مُستشاراً قانونيّاً بديوان المحاسبة فِي طرابلس، كان على تـواصـل مـع الأمير محَمّد الحسن الرَّضا السّنوُسي، وصلـة بالمُعارضين الِلّيبيّين بالخـارج، وينشر فِي مقـالاته المعبرة عَن توجهه السّياسي المُعارض لنظام سبتمبر المنطلق مِن مبدأ الشّرعيّة الدّستوريّة والدعوة للعودة إِلى دستور دولة الاستقلال، فِي أهمّ مواقـع المُعارضـة الِلّيبيّة فِي الخـارج. نشـر مقالاته فِي موقع: (ليبَيا المُسْتقبل) أولاً ثم فِي موقع: (المؤتمـر) التابع لـ(المؤتمر الوطنيّ للمُعارضـة الِلّيبيّة)، تحت اسم مستعار هُو: (محمّد أمين العيساوي)، وكانت كتاباتـه تثيـر النقاش حولها ومحـل اهتمـام المُعارضين فِي الخـارج.

وفِي جانـب ثانٍ، انضم سميـر إِلى (الجمعية الِلّيبيّة للدّفاع عَن دستور دولة الاستقلال)، وكـان أحـد مؤسسيها، وقـد تأسست الجمعيّـة فِي المهجر وسُجلت رسميّاً في الولايّات المتّحـدة الأمريكيّة فِي العام 2010م. وبلا شكّ أن هذا الموقف الوطنيّ الشجاع يُسجل ويحسب له، ويُـعد مخاطرة كبيرة، وهُو موقف قليل الحدوث ورُبّما يكون نادراً فِي ذلك الزمـن الخطيـر الصعـب.

وَفِي السّياق ذاته، أخبرني الأمير محَمّد الحسن الرَّضـا أنه كان يلتقى بسمير الشّارف إبّان حكم القذّافي فِي ألمانيـا وبعض البلدان الأخرى، وأنه أخـذ معه إِلى ليبَيا بعض منشورات المُعارضـة ونسخ من كتيب (الدستور) وقام بتوزيعها على بعض أَقْرِبَائـه والنَّاس الّذِيـن كان يثق بـهم.

ورُبّما أستطرد هُنا لأؤكد أنّني كنـت معجباً جـدَّاً بمقالات الأستاذ سمير الشّارف، وكان هُو أيْضاً يتابـع ويعلق على مقـالاتي المنشـورة فِي موقـع: (ليبَيا المُسْتقبل). وقـد تعرفت على سميـر فِي الاجتماعات التأسيسيّة للجمعيّة الِلّيبيّة للدّفاع عَن دستور دولة الاستقلال، والّتي كان يدعو لها الأستاذ رشيـد مُصْطفى السـلاك، وكنـا نعقدها فِي إحدى غرف التواصل الاجتماعي الخاصّة فِي السكايب (Skype)، وكان سميـر أحـد مؤسسيها كمَا سلف الذكر. والتقيتُ بـه بعْد ثورة السّابع عشر مِن فبراير في مدينة بّنْغـازي ثمّ طرابلس، وكنت متواصلاً معه منذئذ حتَّى فترة مرضه وعلاجه بإحدى المصحات فِي تونـس، وقد فارق الحيَاة وانتقل إِلى رحمة ربـه يوم الاثنين فِي ساعات الصباح الأولى، الموافق 23 اغسطس / آب 2015م. وبعْد قيـام ثورة السّابـع عشر مِن فبرايـر، تقـدم المُستشار سمير الشّارف بمبادرة وطنيّـة فِي منتصف العام 2012م، فِي عهد الحكومة الانتقاليّة الّتي ترأسها الدّكتور عبدالرحيـم الكيب، والّتي تقضي بالدعوة للعودة إِلى الشّرعيّة الدّستوريّة المتمثلة فِي دستور 1951م بتعديـلاته اللاحقة، ووصفها بــ(مشروع إنقاذ وطنيّ). وتقـدم بمبادرة أخرى مترجمة فِي ست خطوات عمليّة تكفل الانتقال السلس إِلى الدولة الدّستوريّة الآمنة، أطلـق عليها اسم (المبادرة الوطنيّة لعودة الشّرعية الدّستوريّة)، والّتي تمّ الإعلان عنها يوم 11 أغسطس / آب 2013م وكانت مذيلة بتوقيع واحد وستين شخصيّة وطنيّـة معروفـة، وقدمها إِلى السّيِّد طارق متري مبعوث الأمم المتَّحـدة فِي طرابلس وقتئذ، وإِلى المؤتمر الوطنيّ العام، والحكومـة المؤقتـة الّتي كان يترأسها السّيِّد علي زيـدان.

صاغ سميـر الشّـارف خارطة طريق عمليّـة تكفل الانتقال السلس إِلى الشّرعيّة الدّستوريّة وفق آخر مَا انتهت إليه فِي 31 أغسطس / آب 1969م والّتي تبـدأ بالمناداة بالأمير محَمّد الحسن ليتولى سلطات المَلِك إِلى أن تقرر الأمّة الِلّيبيّة فِي استفتاء عامّ نظام الحكم الّذِي تختاره بحريّة وشفافيّة. وتنتهي باستقرار الأمّـة الِلّيبيّة على ما تختـار، فإذا مَا تمّ اختيار الملكيّة نظاماً، مارس المَلِك سلطاته الدّستوريّة بعْد إجراء التعديلات اللازمة على الدستور، أمّا إذا اختارت الأمّـة غير ذلك تضع الجهات الشّرعيّة المختصة الترتيبات اللازمة للانتقال السلس إِلى النظام الجديد.

وَمَـا يُضـاف أيْضاً، مشاركاته فِي حـراك العودة إِلى دستور دولة الاستقلال، فقد كان – وعلى سبيل المثال لا الحصـر– مِن بين الحاضـريـن لملتقى الحشد مِن أجل العودة للشّـرعيّـة الدّستوريّـة المنعقد فِي طرابلـس فِي 15 أبريـل / نيسان 2014م، وألقى كلمةُ أو مُحَاضَرَة قيّمة رد فيـها على القراءات المغلـوطـة لدّستـور دولة الاستقلال، والّتي قال إنها تأتـي –وللأسـف الشـديد– مِن بعض النخـب الّتي تـدعي الاختصاص فِي هذا الشأن على حسـب قوله.

أخِيْراً، لا شكّ أن للرجل مسيرة حافلة بالنَّضـال والعطاء والمشاركات المهمّـة، وأنه ظلّ طيلة سنوات نضـاله الطويلـة شامخاً كالطود لا يشغله شاغل عَن هدف صوَّب نحوه البصر والبصيرة ألا وهُـو الانطلاق مِن إرث الآباء المُؤسسين الّذِين قدموا أرواحهم ودماءهم مِن أجـل تحريـر الوطن وبناء دولـة ليبَيا الحديثـة.. والعودة إِلى شرعيّـة دستور 1951م بتعديـلاته اللاحقة، الدّستـور الّذِي كان شهادة ميـلاد الدولة وتأسيساً وتدشيناً لها. وقـد رحل سميـر وهُـو يطوي فِي أعماقه الكثير مِن خيبات الأمل لما آلت إليه الأمور بعْد الثـورة والّتي مَا كان لها أن تحدث بعْد الانتصـار لولا إطالة عمر المرحلـة الانتقاليّة، وقصـر نظر أعضـاء المجلس الوطنيّ الانتقالي وخارطة طريقهم المترجمة فِي (الإعلان الدّستوري المؤقت) الصّادر فِي الثالث من شهر أغسطس/ آب 2011م، والّتي وضعوها دون مشاورة أحـد وبمعزل عَن استشارة النَّـاس وأخذ رأيـهم وموافقتهم. رحـل سميــر تاركاً خلفه أو وراءه، سِيْرَة عظيمة ستكون نبراساً يهتدي به المنادون بالعودة إِلى الشّرعيّـة الدّستوريّـة فِي مواجهة كلِّ مَـا هُـو غير شرعي.. وكتابات ومحاضرات قيّمة ستخلد اسمه أبد الدهـر (3). وترك لأهله صيتاً طيِّباً عطِراً، وتاريخاً مجيداً يُعد مفخرة لهم، إنّـه الشرف الباقي فِي صفحات التاريخ ناصعة البياض.

وَفَاتِه

غادر سميـر الشّـارف فِي شهر يونيـه / حزيران 2015م طرابلس إِلى تـونـس بعْـد تدهور حالته الصحيّـة نتيجة إصابته بمرض السرطان، وانتقل إِلى رحمة الله فِي ساعات الصباح الأولى يوم الاثنين الموافق 23 اغسطس / آب 2015م فِي إحدى المصحات التونسيّـة. وشيّع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير فِي جنازة مهيبة، ودُفن فِي طرابلـس مسقط رأسه.

رحـل سميـر الشّـارف الخبير بالقانون الدستوري وأحد أهـمّ المطالبين بالعودة للشّرعيّة الدّستوريّة فِي ليبَيا، وأشهر الشخصيّات الوطنيّـة الّتي رفضت خارطة طريق المجلس الوطنيّ الانتقالي وإعلانه الدستوري وكل ما ترتب عَن هذا الإعلان مِن قوانين وإجراءات. سميـر الشّـارف الّذِي سـبق لـه أن وجه سؤالاً إِلى كلِّ الِلّيبيّين، فقال:.”.. ما زلنا نعيش حالة العقل المعتقل، فكل منا يرى أنه يمتلك الحقيقة المُطلقة الّتي تؤهله للوصايّة على الآخرين، متى نخرج عّـن نطاق الذّات المغلقة إِلى مَـا هُـو أكبر مِن الذّات إَلى الوطن فنفكر مِن خلال عقله بتفكيره؟..”.

فقدت طرابلـس بوفاتـه قلباً سكنت بداخله.. ووجهاً مِن وجوهها المميزة.. وإنْساناً محباً للخير، ويغمره الحبّ، ويملئ قلبـه الصفاء والعطـاء والـوّد. وفقـدت ليبَيا مُناضـلاً أحبّ الوطـن بصـدق، وابناً باراً مِن ابنائها الأوفيـاء المخلصيـن، ومواطناً اعتز بليبيته وتاريخ أجداده الأولين، وعلى رأسهم المَلِك إدْريْـس السّنوُسي صانع الاستقلال والأب المُؤسس لدولة ليبَيـا الحديثـة.

رحم الله سميـر الشّـارف رحمة واسعة، وسلام وتحِيّة إِلى رُوْحَه في عليَاء ملكُوْتِهَا.

______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

حدث في مثل هذا اليوم: رحيل محي الدين فكيني

محمد عقيلة العمامي

المجاهد عيسي الو كواك

المشرف العام

مختار الغنّاي في ذمة الله

شكري السنكي

اترك تعليق