الكاتب الصادق النيهوم (تصوير: فتحي العريبي 1971)
المقالة

الصادقُ النيهوم في الأسر!

الكاتب الصادق النيهوم
الكاتب الصادق النيهوم

بالمناسبة
حَظي أشهرُ الكتاب الليبيين، خليفة التليسي و أحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني و،على الخصوص، الصادق النيهوم بعلاقةٍ مميزةٍ مع العقيد معمر القذافي، الذي عَقِبَ استيلائهِ على السُلطة بانقلابه العسكري سبتمبر 1969م عَقدَ لقاءً مُوسعاً بالمُثقفين الليبيين نُقلَ مُباشرةً عبر التلفزيون لعدةِ ساعات ولأيام وعُرف بـِ ” ندوةِ الفكر الثوري”، في ذاك اللقاء تحدث”الصادق النيهوم” الكاتب النجم عن علاقة القطيع بالملك، واصطدم بـ”الرائد عمر المحيشي” عضو مجلس قيادة الثورة المُشارك في إدارة الندوة، وقد تدخلَ”القذافي” وانحازَ إلى جانب”الكاتب النجم”، وعلى أثر ذلك توطدت العلاقة بينهما، بعدها بمدةٍ قصيرةٍ أمسى”الكاتبُ المُتمرد الصادق النيهوم” أمينَ لجنةِ الدعوةِ والفكر في الاتحاد الاشتراكي،التنظيم السياسي للعقيد القذافي لقيادة البلاد، لم يُرض ذلك الكاتب والفنان إلا لمدةٍ قصيرة ليخرُج من البلاد قاصدا قبلة المُثقفين والمُبدعين العرب”بيروت” دون أن يتركَ منصبه، في الفترة تلكم كتب خُطاطةً فكريةً نظرية كحل للمشكل السيوسياسي قُدمت في كُتيب تحت عنوان”نقاش” للاتحاد الاشتراكي ولم يتم تداولها بشكلٍ عام في حينها، تقريبا هذه الخُطاطة المرجعية التي اعتمدها القذافي لما أسماها بـ”النظرية العالمة الثالثة” مع إضافات للبُعد القومي عند الكاتب المصري”عصمت سيف الدولة”، وإضافات للبُعد الإسلامي من الكاتب السوداني”بابكر كرار”، وكل منهما كان على علاقة مميزة ومعروفة بالقذافي والدولة الليبية.

في لقائي مع القذافي بمعية الصادق النيهوم لاحظت أن الأول يُنصت للثاني، وأن ثمة إعجابا يُضمرهُ القذافي للنيهوم وعلاقة فيها حميمية بينة، وكأنما القذافي يعتبر النيهوم من أنارهُ ونورهُ وأن هذا جعل في نفس الديكتاتور تضادأ، فكأنما وهو السلطة المطلقة صنيعة هذا”الهيبي”، وهذه الحقيقة جعلت من علاقتهما كما علاقة المثقف بالسلطة فيها الفكر”رأس المال الرمزي” الذي يشكل سلطة تقارع سلطة، وبمعية هذه العلاقة المُشكل وقع”النيهوم” في الأسر.

ظاهرةُ النيهوم
لم يكُن النيهوم ظاهرة وحيدة حين خرج على الناس بتمرده وأفكاره الجريئة، فجيلُ الستينات- جيله- جيلُ التمرد والعبث واللامعقول والثورات والهيبز والبتلز، والذي يأتي ولا يأتي والهزيمة العربية في حرب 5 يونيو، وكان آنذاك اليسار الفرويدي مُتسيدا جبهة الفكر الإعلامية: هربرت ماركوز وإريك فروم…إلخ، وكان اللا منتمي صرعة اللحظة على يد صحفي نابه تحول إلى أيقونةٍ للشباب الناقم يدعى كولن ولسون.

في هذه اللحظة بدا وكأن العالم قد سلم زمامهُ للأفكار وحاملها الأيدولوجيات وتحولت الصُحف إلى أسفار أنبياء العصر: ماركس وفرويد ودارون.

لقد قفز إنسانُ تلك اللحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية من قرد إلي سيدِ الكون، بعد أن طال غاغارين الفضاء.

لكن في الإقليم العربي من الأرض بدأ ما سمي” بنكسة حزيران” يقظة الهزيمة لهذا تزامنتْ وتراصت الشيوعية والوجودية والأفكار الدينية في سلةِ اليوم الصحفية، لعلنا نذكر ما أثاره كتاب جلال العظم “نقدالفكر الديني” من ضجة، وكذلك الكتابة الصحفية في جريدة(صباح الخير) التي تُفسر القرآن تفسيراً علمياً علي يد كاتب طبيب عُرف بكتابته القصة حتى ظهوره مُفسرا قرآنيا فجاءةً وهو الدكتور مصطفي محمود. لقد تأبط النيهوم كتابه المرقون بروح المرقون بروح العصر بقوة، وبدأ من هناك ينظر إلي هنا بسخطٍ وبسخرية، وبحكم تواجده في هلسنكي اتخذ من هنا هدفا لنقمته التي بدورها شتت ذهنه وفاعليته، لقد صار كاتباً صحفيا لجريدة محلية مُلزما بكتابةِ مقالةٍ أسبوعية، هكذا وقع النيهوم في أسر الطريقة الناجحة والمجربة إلى الجمهور؛ بهذا صار”النيهوم في الأسر”.

يكتبُ ويُترجم- دون ذكر مصادره- ويرسُم ، يكتبُ التقارير الصحفية والمقالة النثرية الساخرة المُطعمة باللهجة المحلية التي تحكي عن الحاجة امدلله التي تتعاطي الشعوذة، ونتاشا التي تتعاطى الفودكا، فيما الحاج الزروق المُتكئ على التكية يغمزها.

هكذا سوقَ النيهوم نفسهُ ككاتبٍ صحفي، مشغولٍ بالشخصياتِ المحليةِ البسيطة وكرجلِ فكرٍ يهتمُ بقضايا تُشكل ذهنية هذه الشخصية، لقد كان الدينُ أبرز المحطات التي أثارتها فترة الستينيات خاصة عقب الهزيمة العربية أمام دولة اليهود!!، كتب النيهوم في القضايا الدينية الشائكة، وقضايا المرأة بجرأةٍ وقليلٍ من التمحيص والدقة ودون مرجعية ما أو منهج، ولهذه الاعتبارات المُثيرة التي جعلت منه الكاتب والصحفي النجم تساوق النيهوم وسُلطة الدولة. لقد حول المُشكل إلى قضايا ثقافية اجتماعية فيما كانت النخبة جملة بعقائدها المختلفة تركزُ المُشكل في الدولة التي وُصمت بالرجعية من جهة ومن جهة أخري باللاإسلامية، ومن أخري بالمُرتهنة للدوائرِ الامبريالية.

لقد تسلطت كُل الأضواءِ على هذا المُختلف من عُد كظاهرة.

النيهوم الفنان
لكن النيهوم لم يكن برجلِ اللحظة الراهنة تلك، فحسب، بل لأن النيهوم كان قبل هذا، وحتى بعده، الفنان.
لم تكن موهبة الفنان أهم رصيده ولكن شكل وأسلوب الفنان كان ضمن هذا الرصيد، كفردٍ صبغ جسدهُ وسلوكهُ بروحِ الفنان، وكمبدعٍ نمى موهبتهُ بدأبٍ ودون كلل.

المُتأمل لجملةِ النيهوم في كتاباتِه سيجدها جملةً تصدعُ بروح الفنان، فهي جملة كافية ومُكتفية، نابضة وحيوية، وماكرة لدرجة بدا أن الكاتب يكتبُ رموزاً-عند عامة قُرائه- وأنه بحاجةٍ لتأويلٍ وتفسيرٍ مُضطرد. هذا من جهة، ومن الأخرى ردد قراؤهُ أولئك جُملهُ كما يرددون حكما ومحفوظات.

وقبلُ اتخذ المقالةَ السرديةَ صيغةً يحُوكُها لمُقتضى الحال، أحياناً لم تكن المقالةُ ذات دلالة، لكن صيغة السرد والسريالية تجعل من المقالة عند المتلقي كما لو كانت أحاجي ورموزا، حتى أن بعض هذه المقالات أثارت لغطاً عند تأويلها بأنها تمس هذه الشخصية أو تلك السلطة أو حتى تمس الذات الإلهية أو مُسلمات ما.

هكذا كان النيهوم فناناً من طرازٍ خاص، لعلهُ استفاد من فن الشطح الصُوفي المحلي البسيط في رفع اللغة إلى درجة الإيهام؛ لأن مقالاته وجل ما اطلعنا عليه مما كتب لا يُدلل على صلةٍ وثيقةٍ بالنتاج الصوفي الكلاسيكي المعروف، لكن هذا النتاج كان قد تحول على يدي مريديه إلى فنون في الزوايا والتكايا، واللغة في هذا النتاج تبدو في الظاهر مُموهة ومُحملة بمستوياتٍ عدة من الترميز والدلالة.

هكذا هو من طرازٍ خاص. لقد تنبه للغةِ المحكية كلهجة عامية، وكمُصطلحات ثقافية وفنية، وكما أشرت إلى أنه استخلص أسلوبهُ من عدةِ أساليب فإنه أولى اللغةَ منزلة المنازل في شُغلهِ وفكرهِ معا.

لقد عاش في فنلندا فترة شبابه العشرينية، وكان يُطالع بالإنجليزية، ويكتبُ بالعربية ويتحدث بعاميةِ مدينته بنغازي الستينية حتى وفاته.

لم يكن بمُكنة غير- مثل- هذا الفنان جعل هذه الخلائط عجينةً واحدةً مصبوغةً بروحِ الفن التي توحي قبل أن تُوميء، وتُؤمي قبل أن تُشير وتصمت كي تتكلم.

ومن هذا الفنان وضع تضاريسه الخاصة ذات الطبع المُستقل عن محيطها، وإن كانت مربوطةً به بالعُروة الوثقى، تجانب هو وقراؤه والصحيفة التي يكتب لها ما تريد وما يرغب والدولة، لكن ككاتب محلي كانت تعوزه سُلطة الذات المنفقة من احتياجاتٍ أولية، لهذا كان مأسوراً لهذه الحاجات. من هذا العوز تحاذى والسلطة السياسية دوم حياته لكن بشروط روح الفنان التي كانت ديدن الروح.

بعد بحثه الأولي في تفسير القرآن تيمم بالفن، واتخذ من مكة محرابه فكانت روايته غير المكتملة:”من مكة إلى هنا”، هذه الرواية أثارت- أيضا- لغطاً محلياً؛ منهُ أن الشاعرَ علي الفزاني صرحَ في حوارٍ معهُ أن الرواية بحاجةٍ إلى ثلاثين عاما كي تُفهم، ومنه أن بطل الرواية مسعود الطبال قد رسم شخصية والد أسرة من مدينة بنغازي حيث تقع بعض أحداث الرواية. وقد كان الصحفي رشاد الهوني يعمل بجهده المتميز لترويج كتاباتِ نجمِ(الحقيقة)-صحفيته-:الصادق النيهوم.

(من مكة إلى هُنا ) الشخصية الرئيسة فيها قد تكون الشخصية الأولي في رواية عربية تقع أحداثُها في إقليم العرب التي بطلها زنجي، وقد تكون الرواية الأولي التي تثيرُ مسألة اللون في اشتباكٍ مع مسألةِ الدين، وفي قريةٍ ساحلية فترة الاحتلال الإيطالي، وتُمارس الشخصية الصيد البحري، لقد دخلت الرواية في نسيجٍ شائكٍ ومتصدعٍ، وفي شبكةٍ من القضايا التي لم يتخللها السردُ بعد.
أيقونة النيهوم مَسُ ما لم يُمس بعد ….

______________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

فرادة ظاهر الاشتقاق في اللغة العربية

عمر أبوالقاسم الككلي

الخازوق معادن

محمد النعاس

أهمية السياحة الدينية

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق