الوجه مبتسم هكذا خلق، وفي النفس كدر، يشع من خلف عينين ضاحكتين منيرتين. السحنة مسمرة لجسد في حركة دائمة، حركة مقبلة عليك مرحبة، فالرجل النشط الدؤوب المتأني، الهادئ ينسل بتؤدة مقبلا أو مدبرا. كثير الغياب، لكن ولا مرة أن التقيته تشعر بذاك الغياب، عند اللقاء والغياب يذكرك، وإن لا يذكرونه يذكر لك الأصدقاء بمحاسنهم، فهو ينتسب للصداقة قبل وبعد أي نسب آخر، وإن كان ذلك في كتمان المحب الخجول.
هو الرفيق، من رفقته كخيط معاوية لا تنقطع، هو الرفيق من يعرف رفاقه وإن لم يعرفوه، يعرف أخبارهم، فهو منهم ولهم، يهتم بهم، يسأل عن أحوالهم ما يتابع، وعند الحاجة يدافع عنهم، يعاضدهم. ومن هذا هو صديق صديق صديقه، كل هذا في البياض، حيث ليس من عاداته الإعلان عما يفعل، حيث هو أيضا الحاضر الغائب.
ليس من المسافرين، فسفره من سوق الجمعة، الحي المقام الأول والمقام الأخير، إلى المدينة طرابلس الغرب، حيث مقام عمله، وإن ابتعد كثيرا فإلى مدينة الزاوية/40 كلم من طرابلس، التي على مرمى حجر من ممشاه هو المشاء. ذا من ليس من المسافرين يسافر إليه كل الوطن، من خلال الرفاق/الأصدقاء/المحبين. فقد تجده جهينة، من عنده الخبر اليقين عن رفيق من جيرانك، في مدينتك التي في أقصى شرق البلاد أو جنوبه. من طبائعه أن يتقصى ما يتابع ليتوكد، رغم بعد المسافة ما قد تطال الألف كيلو متر وحتى الألفين وزيادة.
يروم أن يكون في الطرف، لأن الأهم أن يكون في المشهد وأن يلمّ به، أي أن الشأن العام شأنه الخاص دون إلحاح ولا مباهاة، دون ادعاء ولا تملق. هذا صديقي مصطفى بلعيد من لم أره، ولا سمعت صوته، منذ عقد من الزمن وزيادة، لا ينسى، بالتالي لست بحاجة للتذكير به، فهو من عطر الأحباب ما يغبق به الزمان، الشحيح الكثيف، الخمر المعتق ما يفوح في دهاليز الذاكرة مع الوقت، قطرة الماء عند العطش في الفيافي البعيدة.
صديقي هذا مصطفى بلعيد، النادر، من لقائه من الندرة، التي تطفو بها أمواج الحياة العاتية والتي على مهل. مصطفى بلعيد، كما سمكة يستلك بسنارة، من بحر الذاكرة الهائج، أو ينبثق من عجيج الشوارع الغبراء، المعين الدليل في مجاري الحياة المقفرة: ذات مرة في أبريل 1988م تائها أتعثر في ممشاي، على كورنيش طرابلس العاصمة قادما من بنغازي، كنت سجينا أفرج عني للتو، في 3 مارس من السنة ذاتها، في حالة الإفراج عن سجناء الرأي ما كنى بأصبح الصبح.
في حالي ذلك قدمت بالملابس التي خرجت بها من السجن، لدافع أن يعرفني صديق في طرابلس شاهدني في التلفزيون لحظة الإفراج، أو هكذا خيل لي. فاتني أن أذكر أني مررت على بيت أهل الصديق إدريس الطيب من كان رفيق السجن أيضا، فوجدته قد هدم، وأنهم انتقلوا لبيت آخر.
كنت جئت إلى العاصمة لقضاء حوائج منها الحصول على إذن بالعودة للعمل، وطبعا رؤية الأصدقاء، من لم أعرف الطريق وطريقة الوصول إليهم بعد سجن طال لسنوات عشر، وخاصة بعد أن حولت عروس البحر المتوسط/طرابلس الغرب إلى مدينة مقفرة، أغلقت أسواقها، تحت شعارات الديكتاتور العقيد القذافي الاشتراكية، فباتت شوارعها مقبرة مطمورة تحت القمامة، يرتع فيها الغول والهول.
في لحظاتي تلك تائها أتعثر في ممشاي عندها توقفت سيارة نوع فولفو، بعد أن فاتتني بمسافة، الوقت قبيل الظهيرة، الطقس حار، كنت وحيدا ولا أحد غير الريبة، لا أحد غير سراب من ضوء شمس، يلاعب الغبار، لعبة أشباح الظهيرة في مدن الصحاري الكبرى، الرؤية في حالي معتمة لكن الصوت يتضاعف، رغم خفقان قلبي كطبل أفريقي، صوت فرامل السيارة منبه ساطع صاعق، انتشلني من براثن التيه. رأيت شبحا يخرج من السيارة مسرعا في اتجاهي، كالصاعقة انبثق في الذاكرة: الوجه مبتسم هكذا خلق، وفي النفس كدر، يشع من خلف عينين ضاحكتين منيرتين. السحنة مسمرة لجسد في حركة دائمة، حركة مقبلة عليك مرحبة.
بوابة الوسط | 1 أبريل 2025م