الخميس, 24 أبريل 2025
طيوب عربية

وجهك غياب للشاعرة اللبنانية لودي شمس الدين .. الغوص في أعماق الذات المجروحة

الشاعرة اللبنانبة/ لودي شمس الدين
الشاعرة اللبنانبة/ لودي شمس الدين

في قصيدتها “وجهك غياب”، تنسج الشاعرة اللبنانية لودي شمس الدين نصًا شعريًا يفيض بالألم والحنين، ويعكس بصورة غير مباشرة تأثيرات الحروب، الاضطرابات السياسية، القهر والاستبداد، قسوة وعبث الموت، والإحساس المتعاظم بعدم الأمان. لكنها لا تنقل هذه الحالة المأزومة بخطاب مباشر، أو عبر مفردات سياسية أو اجتماعية مكشوفة، بل لجأت إلى التكثيف الرمزي والانفعالي، في رحلة غوص داخلي نحو ذاتٍ مجروحة تبحث عن خلاصها عبر الآخر.

هذا “الآخر” أو “المنادى” في النص يبقى غامضًا، لا نعرف شكله ولا ملامحه، لأنه في الحقيقة قد لا يكون شخصًا بالمعنى الواقعي، بل كأنه تجسيد للغياب، واستعارة لحالة القلق، الخوف، والرغبة في القليل من السعادة والشفاء.

فهو غائب جسديًا، لكنه يظهر حاضرًا في الوجدان واللغة والذاكرة. وتحت هذه المفارقة – التي تصوغها الشاعرة ببراعة – يتكثف التوتر بين الذات والعالم، بين الجسد والفراغ، بين الرغبة في التشبث بشيء ما، والخوف من الضياع الكامل.

لقد اختارت الشاعرة أن تعبّر عن هذه الحالة الشائكة بلغةٍ أوغلت في المجاز والتبعثر الداخلي، مما يجعل القصيدة تُقرأ على مستويات متعددة: وجودية، نفسية، وجمالية. وهذا ما سنحاول تأمله وتحليله.

لنقرأ النص أولًا:

وجهك غياب

شعر:لودي شمس الدين

الزمن جثة باردة بين جسدينا…

والمدى صخر تعب من البكاء…

حُفَر…

شجر…

رسائلٌ…

فسوخٌ في الروح…

فجوات في الأعصاب…

امتداد لفراغ بين ظلينا…

اتحاد لجنازتين في قُبَلنا…

ولادة لحسرة في الدم…

نقطة الدم،أول الكلام…

تورم في الرصاص والفراشة…

وتجدد لِنعاس تعب من رقة الخيبة…

جحيم وجحيم ،آخر الكلام..

ألمس صمتي ليصبح سماء…

أينك؟

وجهك غياب…

وغيابك حضور ثابت مثل الله…

كم فماً أزرقاً لك في لحمي؟

وكم يداً مشوشة لك بين أضلعي؟

أعطني  نعناع جلدك كفناً دافئاً…

ودعني أضع رأسي المريض على قدميك…

لأموت وأشفى…

ـــــ

المنادى الغامض: غياب جسدي / حضور رمزي ونداء مضمر للذات المرتبكة

يُشكّل “المنادى” في قصيدة وجهك غياب كيانًا يحاول أن ينفلت من التحديد والتأطير، فهو هلامي، صامت، وغامض؛ لا يُوصف شكله ولا تُذكر ملامحه، لكنه حاضر بقوة في مساحات النص: في الجسد، واللغة، والأسئلة، والرغبات، في الشوق، وفي الصمت. قد لا يكون رجلًا بالمعنى الحسي، لكنه هنا يصبح تجسيدًا للقلق، لحالة التوق، وربما استعارة للذات نفسها، وهي تبحث عن خلاصٍ ما وسط خراب داخلي وخارجي.

منذ البداية، تجذبنا عبارة:

“الزمن جثة باردة بين جسدينا…”

وما يتبعها من:

“بين جسدينا…”

كأن الشاعرة تمهد لاعترافٍ عاطفي حميم، لحكاية بين عاشقين. لكن هذا التوقع يُجهَض سريعًا، إذ ينقلب النص إلى هدير داخلي غزير ومضطرب، فنجد أنفسنا خارج الحكاية التقليدية، لكن في عمق ذاتٍ أنثوية ملتهبة، متمردة، ترفض الانطفاء والفراغ، ترى أن الحياة حق من حقوقها، لكن العالم يمضي نحو ضبابٍ بلا ملامح، كأن الكون كله ثمل، فاقد للبصيرة.

في هذا السياق، يبرز الجسد بوصفه مساحة للتوتر، والرغبة، والذاكرة، ويتحوّل إلى مرآة للغياب. تقول الشاعرة:

“كم فمًا أزرقًا لك في لحمي؟

وكم يدًا مشوشة لك بين أضلعي؟

أعطني نعناع جلدك كفنًا دافئًا…”

هنا، ينكسر الحاجز بين الجسد واللغة، بين النداء والمساءلة، وتُصبح الأسئلة مشبعة بالرغبة، والدهشة، والاعتراف.

هل هذا خطاب موجَّه حقًا إلى الآخر؟ أم أنه صوت الذات المنكسرة تسائل نفسها، توقظ أشواقها، وتستدعي حياة غابت؟

سؤال: كم فمًا أزرقًا لك في لحمي؟

هو مزيج من التوق، والرغبة، والحيرة؛ يحمل معنى جنسيًا دفينًا، لكنه ليس شبقًا مباشرًا، بل حنين لدفءٍ مفقود، لقبلة تُنقذ من التلاشي. وفي سؤالها التالي:

“وكم يدًا مشوشة لك بين أضلعي؟”

يتكرّر هذا التوتر بين الواقع والوهم، بين الاحتضان الغائب، والذاكرة المتوترة والمبعثرة. أما طلبها:

“أعطني نعناع جلدك كفنًا دافئًا…”

فهو ذروة هذا الارتباك الجمالي، حيث تمتزج الرغبة بالموت، والدفء بالكفن، والجسد بالاندثار.

في مجمل هذه الصور، سنجد أننا أمام روحٍ أنثوية تُعلن تمردها، وترفض أن تموت موتًا باردًا في عزلةٍ رمادية. إنها لا تستسلم للنسيان، بل تتمرّد بلغةٍ مجازية، تطرق أبواب الذاكرة، وترفض الخضوع للعدم.

نحو قصيدة خالصة بثيمات الحياة والخلق

في النهاية، يمكن القول إن قصيدة “وجهك غياب” تفتح بابًا واسعًا لتأمل الذات الأنثوية في لحظة انكسار واشتياق، لكنها لا تغرق في العدم، بل تسعى للنجاة، ولو عبر الخيال والمجاز.

بساطة النص لا تعني سذاجته، بل تكشف عن قدرة الشاعرة لودي شمس الدين على استخدام لغة شفافة، مشحونة بالمعاني، دون تعقيد مفتعل. النص يلتقط بمهارة ثيمات متكررة مثل الغياب، الحضور، الجسد، الزمن، والذاكرة، دون أن يتحول إلى خطاب شعري ثقيل أو مغلق.

تجربة لودي شمس الدين الشعرية تُظهر أنها تتطور بهدوء وثقة، وتحاول بناء نهجها ولغتها وشعريتها الخاصة، وهي تسعى بوضوح إلى ابتكار صوت أنثوي متفرّد، يحتفي بالحياة، يكره التدمير، يرفض تعسف الموت، وينتصر لكل ما هو نابض، مهما كان هشًّا.

وإذا استمرت في هذا المسار المتوازن بين الصدق الداخلي والوعي الفني، ستنجح في خلق قصيدتها الخالصة، المكتفية بذاتها، والمفعمة بروح أنثى تكتب لا لتصف، بل لتخلق.

مقالات ذات علاقة

هل يغير الأدب تصوراتنا عن الآخر؟

المشرف العام

بنغازي تنتظرُ الجميلةَ

أحمد بشير العيلة

ازدواج المعايير

عبدالناصر عليوي العبيدي (سوريا)

اترك تعليق