تحليل لقصيدة “أبجدية الخذلان” لمفتاح العلواني
مقدمة:
يُعدّ الشعر، بوصفه فنًا لغويًا رفيعًا، فضاءً رحبًا لاستكشاف أغوار النفس الإنسانية، وتناول معضلات الوجود بلغة إيحائية ورمزية. وفي هذا السياق، يكتسب المشهد الشعري الليبي أهمية خاصة، فهو يمثل مرآة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في ليبيا، ويتناول قضايا الهوية والحرية والانتماء، بلغة شعرية تتميز بالصدق والعمق والتعبيرية. وتبرز في هذا المشهد الشعري أصوات متميزة، تسعى إلى تجاوز القوالب التقليدية، وتقديم رؤى جديدة للعالم والذات، ومن بين هذه الأصوات المتميزة يبرز اسم الشاعر مفتاح العلواني، الذي يُعتبر من الأصوات الشعرية الليبية المعاصرة التي تتميز بالعمق والصدق في التعبير عن الذات والواقع. ومن هذا المنطلق، تأتي قصيدته “أبجدية الخذلان” (العنوان إضافة من عندي فالشاعر لم يعنون قصيدته) لتشكل أنموذجًا شعريًا عميقًا، يتجاوز الوصف الظاهري للتجربة، ليغوص في متاهات الذات والوجود، ويقدم رؤية فلسفية للحياة بكل ما فيها من تقلبات وتناقضات. تتخذ القصيدة شكل قائمة إهداءات، تستلهم أبجدية خاصة في عرض التجربة الإنسانية، وتتوج هذه الأبجدية بالاعتذار، وهو ما يدفع القارئ إلى التأمل في طبيعة العلاقة بين الذات والعالم، وبين الألم والأمل، وكيف تتشابك هذه المفاهيم لتشكل نسيج الوجود.
القصيدة:
أَبْجَدِيَّةُ الخِذْلَان/ مِفْتَاحُ العَلْوَانِي
لِلْمَتَاهَاتِ الَّتِي عَرَّفَتْنَا قِيمَةَ السُّبُلِ.. /لِلسُّبُلِ وَهِيَ تُوَصِّلُ التَّائِهِينَ /وَلَا أَحَدٌ يُعَانِقُهَا.. /لِلشَّجَرَةِ وَهِيَ تَقِفُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدَة /مُنْذُ زَمَنٍ /تَحْلُمُ بِأَنْ تَلْتَقِطَ أَوْرَاقَهَا المُتَسَاقِطَةَ.. /لِلزَّمَنِ وَنَحْنُ نَتَذَمَّرُ مِنْ رَكْضِهِ /بَيْنَمَا لَا نَفْعَلُ شَيْئَاً عِنْدَمَا يَتَوَقَّفُ /سِوَى الضَّحِكِ.. /لِلدَّمْعِ الَّذِي يَقُومُ بِوَاجِبِهِ وَيَنْحَدِرُ /فَرَحَاً وَحُزْنَاً.. /لِلصَّبَاحَاتِ الجَمِيلَةِ الَّتِي تَسْتَمِرُّ بِالمَجِيءِ /رَغْمَ لَيْلِنَا الطَّوِيلِ.. /لِلرُّفَاقِ عِنْدَمَا تُوَشْوِشُنَا أَنْفُسُنَا بِهَجْرِهِمْ /ثُمَّ نَلْعَنُهَا.. /لِلْيَدِ وَهِيَ تَرْتَعِشُ دَاخِلَ جُيُوبِنَا /مُتْعَبَةً مِنَ التَّلْوِيحِ.. /لِجِبَاهِنَا وَنَحْنُ نَسْمَعُ صَوْتَ تَشَقُّقِهَا /كُلَّمَا تَدَاعَكَتْ /الذِّكْرَيَاتُ فِي رُؤُوسِنَا.. /لِخُطَانَا الَّتِي أَجْبَرْنَاهَا عَلَى المُضِيِّ قُدُمَاً /دُونَ وِجْهَةٍ مُعَيَّنَةٍ.. /لِلْمَقَاعِدِ الفَارِغَةِ إِلَّا مِنْ بَقَايَا قُبَلٍ مُتَنَاثِرَةٍ /لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهَا.. /لِلشِّعْرِ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّنَا يَتَامَى.. /فَيَمْسَحُ عَلَى رُؤُوسِنَا بِيَدِهِ النَّاعِمَةِ.. /لِلنَّوْمِ وَنَحْنُ نَتَرَجَّاهُ أَنْ يَأْتِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ /قَبْلَ مَجِيءِ كُلِّ شَيْءٍ.. /وَلِلْخِذْلَانِ أَيْضَاً /الخِذْلَانِ الَّذِي لَعَنَّاهُ كَثِيراً ثُمَّ تَبَيَّنَ /أَنَّهُ كَانَ يَنْتَشِلُنَا مِنْهُمْ.. /لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَبُّونَا وَلَمْ يُسْعِفْنَا الْوَقْتُ لِنَسْمَعَهُمْ /عَنْ قُرْبٍ وَنُحِبُّهُمْ.. /نَعْتَذِرْ.
التحليل:
تستهل القصيدة قائمة إهداءاتها بالحديث عن “المتاهات التي عرفتنا قيمة السبل”، وهو ما يمثل مفارقة دلالية، فالمتاهة بما تحمله من ضياع وارتباك، هي التي تكشف لنا عن قيمة الطريق الصحيح. هذه الفكرة تتقاطع مع الفلسفة الوجودية، التي ترى أن الإنسان لا يكتشف ذاته إلا من خلال التجربة والممارسة، وأن الوعي بالذات يأتي نتيجة لتحدي المصاعب والقيود. وتتجلى هنا وظيفة الشعر كمرآة تعكس الواقع في تناقضاته، وتضيء الجوانب المظلمة فيه، بلغة تتجاوز التعبير المباشر، لتدخل في حوار عميق مع القضايا الوجودية.
ثم ينتقل الشاعر إلى الحديث عن “السبل وهي توصل التائهين ولا أحد يعانقها”، وهي استعارة تعبر عن جحود الإنسان ونكرانه للجميل، فالهداية والإرشاد لا تحظى بالتقدير الكافي. هذا المقطع يذكرنا بمفهوم “اللامبالاة” الذي يرى أن الإنسان يفتقر إلى الاهتمام بالقيم والأشياء الهامة في حياته، وينصرف عنها إلى أمور أخرى. ويلي ذلك استعارة أخرى للشجرة التي “تقف على ساق واحدة منذ زمن تحلم بأن تلتقط أوراقها المتساقطة”، وهي صورة رمزية للوحدة والعجز والحنين إلى الماضي، وما تحمله من حسرة على ما فات، والرغبة في استعادة ما ضاع، مما يتجلى فيه مفهوم “الحنين” كعنصر أساسي في التجربة الإنسانية، وكحالة نفسية تدفع الإنسان إلى استحضار الماضي والتمسك به.
وتتوالى الإهداءات لتشمل “الزمن ونحن نتذمر من ركضه بينما لا نفعل شيئاً عندما يتوقف سوى الضحك”، وهو ما يكشف عن التناقض في سلوك الإنسان، وكيف أنه يشكو من مرور الزمن، ولكنه في نفس الوقت يستهزئ به ويستهتر بقيمته، وهذه المفارقة تحمل في طياتها أثرًا من العبثية، حيث يتجلى مفهوم اللامعقولية في هذه العلاقة المتناقضة مع الزمن. أما “الدمع الذي يقوم بواجبه وينحدر فرحاً وحزناً”، فهو تعبير عن طبيعة المشاعر الإنسانية المزدوجة، وكيف أن الفرح والحزن يسيران جنبًا إلى جنب في حياتنا، مما يعكس مفهوم “الديالكتيك” في التجربة الوجودية، وهو التفاعل والتصارع بين الأضداد.
وتستمر القصيدة في استعراض جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية، مثل “الصباحات الجميلة التي تستمر بالمجيء رغم ليلنا الطويل” كرمز للأمل والثقة في المستقبل، و”الرفاق عندما توشوشنا أنفسنا بهجرهم ثم نلعنها” كصورة للصراع الداخلي في النفس البشرية، وكيف أننا نتردد بين البعد والقرب، وبين الحب والكراهية، مما يوضح مفهوم “الصراع النفسي” كحالة مستمرة يعيشها الإنسان. و”اليد وهي ترتعش داخل جيوبنا متعبةً من التلويح” كرمز للعجز واليأس وفقدان القدرة على التواصل، وكيف أن الإنسان يفقد القدرة على التعبير والتواصل الحقيقي مع الآخرين، مما يشير إلى أزمة “العزلة” التي يعاني منها الإنسان المعاصر. كما تتضمن القصيدة صورًا أخرى معبرة، مثل “الجباه التي نسمع صوت تشققها” التي تعبر عن الوجع والألم الناتج عن الذكريات، و “الخطى التي أجبرناها على المضي قدمًا” التي ترمز إلى الضياع واليأس، و “المقاعد الفارغة” التي تعبر عن الحنين إلى الماضي، وجميعها تعكس تجارب إنسانية متفرقة، تتجمع لترسم صورة شاملة للوجود الإنساني بكل ما فيه من تقلبات وتناقضات.
وتتجلى في القصيدة قدرة الشعر على التعبير عن أعماق التجربة الإنسانية، وذلك من خلال توظيف الرمزية بشكل مكثف، حيث أن العديد من الصور والمواضيع تحمل دلالات رمزية عميقة، فالشجرة ترمز إلى الوحدة والعجز، والدمع إلى طبيعة المشاعر المزدوجة، والليل والصباح إلى الصراع بين اليأس والأمل، واليد إلى التواصل والعجز، والخطى إلى الضياع وفقدان الهدف، والمقاعد إلى الحنين إلى الماضي. وتستخدم القصيدة تقنيات البلاغة مثل الاستعارة والمفارقة بشكل فعال، مما يزيد من جمالية النص وقدرته على التأثير. كما أن القصيدة تتضمن بعض التناص مع الأفكار الصوفية، مثل فكرة التيه والهداية، والوحدة والاتحاد، مما يضفي عليها بعدًا روحيًا ووجدانيًا. وتوظف القصيدة تقنية المونولوج الداخلي، حيث يتحدث الشاعر مع نفسه، ويعرض أفكاره ومشاعره بشكل مباشر، مما يخلق نوعًا من الحميمية والتواصل مع القارئ. وتتميز القصيدة أيضًا بتراكمها المعنوي، فكل إهداء يضيف معنى جديدًا إلى القصيدة، مما يجعلها أكثر تأثيرًا في نهاية المطاف. وتنتهي القصيدة بالاعتذار، وهو ما يمثل خاتمة مفتوحة، تدعو القارئ إلى التأمل والتفكير، وتجعله يتساءل عما يكمن وراء هذا الاعتذار، وما الذي يقصده الشاعر بهذه الكلمات الأخيرة.
يمكن القول أن قصيدة “أبجدية الخذلان” للشاعر مفتاح العلواني، تمثل أنموذجًا شعريًا عميقًا، يجمع بين الفلسفة والشعر، وبين الواقع والخيال، وذلك في سياق استكشاف التجربة الإنسانية بكل ما فيها من تناقضات وآلام. تعتمد القصيدة على صور شعرية مبتكرة، ولغة فصيحة، وعاطفة صادقة.
الاثنين 27 مارس 2025